الخميس 18-04-2024 03:33:23 ص : 9 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

من مقاصد القرآن: فقه منظومة سنن الواقع (الحلقة 1) نافذة على مفهوم الأمة الوسط (دراسة مقاصدية)

الأحد 15 يناير-كانون الثاني 2023 الساعة 08 مساءً / الإصلاح نت - خاص | عبد العزيز العسالي

  

أولا، خلاصة منهجية:

التربية روحها المعرفة.. المعرفة روحها الوعي بمقاصد الخلق - توحيداً، وعمارة للأرض.

مقاصد الخلق هي روح المنهج المنبثق عن مركزية التوحيد وقدسية كرامة الانسان، كونه ملتقى التكاليف.

المنهج روحه سنن الله في الآفاق والنفس والاجتماع، فكل تربية لا تتأسس على معرفة مقاصد الخلق - أسرار التكليف، فهي تربية مادية لا روح لها، وكل معرفة لا تتأسس على منهج فهي فوضى، وكل منهج لا يتأسس على منظومة سنن الواقع فهو تخبط وهدر للوقت وضياع للجهود وتكريس للاختلال وتعميق للضعف في حياة الفرد والمجتمع والأمة، وتنكب لمقاصد عمارة الأرض، والمحصلة النهائية هزيمة للدين والدنيا في آن.

وكل بناء للمجتمع لا يؤسس لثقافة مقاصد الأمن الشامل - امتلاك الأمة لقرارها المستقل بعيدا عن أي تبعية، فهي أبعد عن مصطلح أمة، وإن كانت متدينة، وتوصيفها الحقيقي أنها مجموعة "كائنات دينية لا غير"، لأنها عاجزة عن تحقيق منظومة الأمن الشامل أي حماية ذاتها الحضارية.

وبلغة الاقتصاديين هي تجمع استهلاكي لا غير، يحصد نتائج خذلناها للسنن، ويخالف مقاصد القرآن، فأضاع ذاته طريقة ومكانة، وأضاع مقاصد وغايات القرآن في عمارة الأرض ومن أبرز الغايات قيام "الأمة الوسط"، ومن أضاع الغايات اضطربت بوصلته وهان ذاته وحُرم التأييد والعون الإلهي، وصدق الله: "ومن يهن الله فما له من مكرم".

 


ثانيا، مقوّمات الأمة الوسط:

1- "الأمة الوسط" مصطلح قرآني كليّ مقاصديّ، اكتنزت فيه دلالات تراكمية متداخلة متكاملة مع كليات القرآن تكاملا في غاية الاتساق - اتساق منهجي متصل بشخصية الأمة الواعية لذاتها المشتركة لقيم خلود الإسلام حضاريا - الشهود الحضاري، وفي مقدمته تفعيل رحمة الإسلام العالمية إسهاما في إنقاذ الإنسانية من جحيم شقاء الحضارة المادية التي فككت إنسانية الإنسان ودمرتها في كل اتجاه.

2- دلالة الوسطية: بعيدا عن الإغراق في الفلسفات سنقدم مثلا قرآنيا عظيم الدلالة متصل الدلالة بمصطلح "أمة الوسط"، إنه "الميزان".. نعم الميزان هو آلة يعرفها غالبية الناس ممثلة في كفتين على طرفي عمود أفقي، وتتوسط ذلك العمود لسان الميزان - شوكة الميزان.

3- استقامة لسان الميزان نحو الأعلى هي محل قبول واقتناع مجتمعي بحكمها بلا نزاع، كونها رمز استقامة الشهادة لدى تلك الآلة الصماء، وهناك دلالات أخرى سنشير إليها لاحقا.

 

ثالثا، النصوص الدالة على كلية الأمة الوسط:

1- النص الخاص.. قال تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس" (البقرة: 143).

الجدير ذكره أن النص الآنف ورد في نهاية مقطع سياقي مطلعه: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات...".. والمقطع زاخر بالدلالات التي جسدت انحراف بني إسرائيل فطرة وسلوكا، فاتجهوا لاستعباد المجتمع باسم السماء.. لقد فشل بنو إسرائيل بسبب عنصريتهم، فاستحقوا المقت والغضب الرباني، كونهم دمروا إنسانية الإنسان وأفسدوا في الأرض إهلاكا للحرث والنسل.

2- النصوص ذات الصلة المفهومية: كثيرة هي النصوص ذات الصلة المفهومية بـ"الأمة الوسط" سنقدم أوضحها دلالة ومفهوما.

- "ولقد أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط".. تأمل أخي القارئ، الكتاب - كل الكتب السماوية ومعها الميزان لتحقيق الإرادة الربانية - القيام بالقسط بين الناس جميعا - الذات والآخر.

- مفهوم القيام بالقسط متصل الدلالة بلسان الميزان، أي مطلوب من الأمة المتقبلة لحكم الميزان فيجب عليها أن تقيم القسط مع بعضها ومع الآخر سواء بسواء.

- الوزن بالقسط قضاء رباني المصدر: "وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا".

- "وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان".

كيف لا، والعدل والقسط قامت بهما السموات والأرض، قال تعالى: "والسماء رفعها ووضع الميزان • ألا تبغوا في الميزان • والأرض وضعها للأنام".

3- "شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط".. فوحدانية الله المرتكز المحوري للقيام بالقسط.

- الله يشهد بالقسط ليعلمنا التزام هذا القيمة الجليلة، كما أن القيام بالقسط شهد به الملائكة والعلماء والعقلاء.

4- أمر رباني آخر، قال تعالى: "كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين".

5- وزنوا بالقسطاس المستقيم: رمزية لسان الميزان اتجاهها إلى الأعلى يحمل دلالة رمزية آمرة لنا بأن "أمة الوسط" مرتبطة بمركز عالي المصدر مقدس أولا، وقيامها بالقسط مستمد من تلك القدسية فتقوم بها ولا تخشى لومة لائم، إنها وسطية المصدر والموقف.

6- "إن الله يأمر بالعدل والإحسان"، "وإذا قلتم فاعدلوا".

- "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به"، "اعدلوا هو أقرب للتقوى".

7- الاستقامة: "اهدنا الصراط المستقيم"، "فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير".

8- البصيرة: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني".. تأملوا معي، الاستقامة والبصيرة خلقان منهجيان ملزمان للرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه بل والمتبعين - استقم.. ومن تاب معك.. قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني.

9- الوسطية قيمة كونية: إذن، الوسطية قيمة كونية، أي منهج كلي يجب التزامها أولا، والتحاكم إليها ثانيا، واصطحابها في التقييم المواكب لكل التصرفات ثالثا، لتحقيق المقصد القرآني وهو الوسطية رابعا.

بصيغة أخرى، القيام بالقسط والعدل والاستقامة والبصيرة كليات مقاصدية متكاملة متداخلة - خارطة منهجية مقاصدية ولسان حالها ومقالها التزموا الوسطية فهي صفة "الأمة الوسط"، وهي الطريق إلى قيام الأمة الوسط.

10- كلية المساواة حاضرة: الناس جميعا تتفق في قبول حكم الميزان، فكذلك يجب أن يكون الجميع متساوين أمام موازين القسط المقدس - محور الوسطية والأمة الوسط.

11- اتباع الأحسن: "فبشر عباد • الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه".

والمقصود بالأحسن هنا هو الأفضل - توسطا، وعدلا، ومصلحة.

"قال أوسطهم" أي أعدلهم وأعقلهم رأيا، بلا خلاف.

وعليه، وإلى جانب ما سبق، فالوسطية هي آلية حاكمة للاجتماع الإنساني وقيمة حامية للأمن الحضاري، والتزام الوسطية طريق رشيد إلى استمداد التأييد الرباني خيرا وبركة وطمأنينة وهداية الله إلى سبل السلام والخروج من الظلمات إلى النور وحراسةً للقيم، وانتصارا خالدا دنيا وأخرى.

- هنا تتبوأ "الأمة الوسط" مركز استحقاق - مرجعية الشهادة على الناس، وهذه إحدى صور الاستخلاف وعمارة الأرض.

 

رابعا، مقومات الأمة الوسط:

1- امتلاك منهج متكامل متسق الرؤية - عقيدة وقيما كونية وقيم تزكية واضحة المقاصد الخلقية ذي علاقة بالسنن التي بثها الله في الآفاق والنفس والاجتماع.

2- العناية التامة ببناء الإنسان - الفرد والمجموع انطلاقا من ذات المنهج.

3- التجدد الذاتي الدائم: قال تعالى: "ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكُلَها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون".

- الشاهد هو قوله تعالى: "تؤتي أكلها كل حين".. كيف تأتي الثمار كل حين؟ لا تساؤل، إنه يأتي بإذن ربها، إنها سنن التأييد لمن يتعاطى مع السنن الثابته.

إضافة: إن التجدد والخلود من لوازم الرسالة الخاتمة، فلا غرابة فتلكم هي مقتضيات حكمة الحكيم العليم الخبير.

الجدير ذكره أن فلسفة الأمثال في القرآن -رغم الدراسات المختلفة لموضوعات القرآن- في حدود علمي لا يوجد دراسة تناولت مقاصد الأمثال في القرآن، ولعل الله يهيئ فرصة لهذا القلم العاجز فيقدم ما أمكن.

4- الفكر الناقد:
- البناء الفكري في القرآن كفيل بحضور التجديد والإتيان بالأكُل الدائم المتجدد والتجدد الذاتي.

- يمكننا القول إن التفكير الناقد المستند إلى المنهج المعرفي القرآني والسنن والقيم هو طريق الإبداع الدائم، بدليل نلمسه جميعا في حياتنا الاستهلاكية المستوردة، ذلك أننا نشاهد التجديد المستمر -حد الاندهاش- في الصناعات القادمة، فلا شك أن ذلك التجديد ناتج عن تفكير نقدي مستمر.

5- التعاطي الشامل مع المشروع الإسلامي:
- المشروع الإسلامي يقوم على ثلاثة مرتكزات هي: النصوص الهادية، والوجدان العقدي التزكوي، والعقل المتصل بالمرتكزين السابقين.

- غير خاف على عاقل أن أبعاد مرتكزات المشروع الإسلامي الثلاثة متصلة بالإنسان الذي هو ملتقى أسرار التكليف عبادة لله وعمارة للأرض، فالعقل يقودنا إلى موضوع البصيرة الآنف الذكر، والبصيرة تقودنا إلى مقاصد النصوص، ومقاصد النصوص تقودنا إلى الاستقامة، والاستقامة تعني التعامل مع منظومة سنن الحياة والواقع.

6- امتلاك منظومة الأمن الحضاري الشامل: المقصود بالأمن هنا الأمن الجغرافي، والأمن السيادي على الأرض، والأمن الديني، والأمن النفسي، والأمن الاجتماعي، والأمن الثقافي، والأمن الفكري، والأمن الحضاري.

- الجدير ذكره هو أن غياب الأمن الحضاري ينعكس سلبا على بقية أنواع الأمن، ذلك أن الأمن الحضاري يعني امتلاك قرار الأمن الغذائي، والصحي، والتقني، والسياسي، وبدون هذا فالأمة تكون عرضة لأي إذلال أو مساس بكرامتها وحريتها.

7- حضور مقاصد التاريخ: مقاصد التاريخ هي الاعتبار، وليس التغني بأمجاد غابرة، ذلك أن التاريخ يعتبر من أبرز المقومات المعنوية لشخصية الأمة - الهوية، هكذا رسمته الحكمة القرآنية ومقاصد السنة النبوية في تعليم الحكمة يقول لـ"الأمة الوسط": "فاعتبروا يا أولي الأبصار ".. وهكذا نلتقي مع البصيرة والعقل والحكمة... إلخ.

الخلاصة: المنهج المقاصدي يعني امتلاك منظومة كليات القرآن، ومنظومة السنن الحاكمة للواقع الذي تعيشه الأمة، ومنظومة القيم العقلية التي رسمها القرآن.

تلكم هي بإيجاز شديد مقومات الأمة الوسط.. نكتفي بهذا القدر.. على أمل اللقاء بكم بعونه سبحانه مع مكونات الأمة الوسط والطريق إليها.

.................................
* منقول بتصرف من مراجع ومقالات مختلفة.