السنة العملية تنزيلٌ للحكمة.. من وعي الذات إلى تجسيد قيم التأسيس:

التعليم النبوي للحكمة هو المنهج المقاصدي الذي أرساه الرسول صلى الله عليه وسلم لهدف إقامة بناء المجتمع المنشود.

هذا المنهج النبوي العظيم سنسلط عليه الضوء من خلال محورين اثنين: الأول، التثقيف النظري في العهد المكي. والثاني، التجسيد العملي في العهد المدني.

فإلى المحور الأول..
1- لقد تمحور العهد المكي حول هدف مركزي - "بناء وعي الفرد" بناءً عقديا، ذهنيا، وجدانيا، نفسيا، ترسيخا متراكما تجذر فيه وعي الذات عقديا وقيميا وخلقيا لدى الفرد والمجموع طيلة 13 عاما.

العطاء القرآني المكي الذي غذى هذا البناء احتل حيزا كبيرا بلغ 84 سورة.

2- التعليم النبوي واضح الأهداف: لقد تمثلت التربية النبوية من لحظاتها الأولى في البناء الشامل لوعي الذات في غرس الإيمان، وبناء مقاصده في آن.

3- بناء الاتجاهات الذهنية - ربط العلاقات بين القيم الكونية والخلقية والسنن الحاكمة للاجتماع بركني الإيمان بالله واليوم الآخر حتى قامت المقاصد والغايات في الأذهان بوضوح لا لبس فيه ولا غموض.

4- ترسخ الوعي المعرفي - تفريقا بين المقاصد الثابتة، وبين الوسائل المتغيرة الخادمة والحامية لها.

5- ترسخ الوعي بمقاصد القيم الكونية - قيم التأسيس الحاضنة والتي سنوضحها في المحور الثاني.

6- ترسخت بوضوح مقاصد القيم الخلقية المتمثلة في بناء شبكة العلاقات الاجتماعية - تجسيدا ذهنيا ووجدانيا استنادا إلى المقصد الاجتماعي الذي جاءت به جميع الرسالات السماوية حسب النص القرآني - دلالة مقاصدية قطعية، قال تعالى: "ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط".

7- ترسخ مفهوم السنن الحاكمة للاجتماع - صلة بركني الإيمان بالله واليوم الآخر، كما ترسخت العلاقة بين السنن والقيم الحاضنة للتأسيس - مولدات الحضارة، ترسيخا مزج الوجدان الإيماني بالعقل السنني، فتجلت عنهما ثقافة متوازنة ظهرت فيها شخصية الصحابة منذ فجر البعثة - حضور الدين والدنيا معا في التطبيق النبوي العملي لوظيفته -تعليم الحكمة- المتمثلة في مقاصد النصوص الكلية.

ثالثا، البرهان الساطع على تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم للحكمة المقاصدية:

1- القرآن المكي زاخر بالنصوص حول الإيمان - التوحيد المقترن بالقيم الكونية والقيم الخلقية والسنن الحاكمة للاجتماع، وهذا لا يختلف عليه اثنان.

2- هذه نماذج للنصوص التي ربطت القيم بالإيمان، قال تعالى: "أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم".

انظروا، اقترن الإيمان بالقيم، فالمكذب بالدين "يدع اليتيم"، ومثله عدم الحض على طعام المسكين، بل إن القيمة المؤسِّسة لشبكة العلاقات الاجتماعية وردت على سبيل الذم للمكذبين بالدين بأنهم "يمنعون الماعون".

3- ألهاكم التكاثر -المفاخرة بالمال والولد والعشيرة- حضور الرأسمالية. كما أن القرآن عرّى قيمة التفاخر في سورة الأنعام: "وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا"، فجاء الرد: "وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن".

4- سورة الفجر - استعرضت القيم السلبية في قصص عاد، وثمود، وفرعون - الطغيان والفساد: "الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد..." إلخ.. "وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال..." إلخ.

5- "ويل للمطففين"، ويستمر النص في توضيح ربط القيم بركني الإيمان بالله واليوم الآخر، قال تعالى: "ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون".

6- "وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت".

أخي القارئ: يصعب علينا استعراض جل النصوص، ولكني أرجو تكرما بالعودة إلى سورة الشورى، فستجد مبدأ الشورى مع عدد من القيم المرتبطة بالإيمان، بل ستجد النص القاطع على قيمة حق الانتصار لمن ظُلِم: "ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق".

- سورة الفرقان: "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا..." إلخ السورة.. بإمكانك إحصاء القيم.

- سورة الإسراء.. من مطلع الآية 22 إلى نهاية الآية 39 ستجد المقطع زاخرا بـ18 قيمة كبرى.

- سورة النحل.. من الآية 89
وحتى نهاية الآية 97.

- سورة الرعد.. الآية 19 وما بعدها.

- سورة هود.. الآية 112 "فاستقم كما أمرت".. "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا".. إلى نهاية السورة.

7- أعداء قيم العدل والرحمة وغيرهما:
- سورة الأعراف تكرر ذكرهم 10 مرات حرفيا أنهم الملأ، بدءًا من الآية 57 تقريبا، وحتى نهاية قصص الأنبياء في السورة، سيلاحظ القارئ ما من رسول إلا وقد اصطدم به "قال الملأ".

- تكرر ذكر مصطلح الملأ في القرآن 17 مرة كلها في سياق الذم عدا موطن واحد موقف ملكة اليمن: "قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري..." إلخ.

- الوصايا العشر في سورة الأنعام.. الآية 150: "قل تعالوا..." إلى نهاية الآية 153.

8- القيم وعلاقتها في القرآن المدني: لم يتغير حال القيم في القرآن المدني، بإمكان القارئ العودة إلى سور البقرة وآل عمران والنساء، سيجد القيم متصلة بركني الإيمان بالله واليوم الآخر.. "ليس البر أن تولوا وجوهكم..." إلخ.. وكذلك سورة النساء: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا..." إلخ.

دلالات وضوح الأهداف عند الصحابة:

1- الثبات الأسطوري: لقد ثبت ضعفاء الصحابة ثباتا أسطوريا -انتبه- ضعفاء الصحابة، الأمر الذي يقدم البرهان القاطع على وضوح أهداف: وعي الذات، إيمان، قيم، مقاصد، سنن، وسائل.

2- التضحية: التضحية بالنفس - سمية وزوجها، ياسر وعمار وخباب - نماذج خالدة.

3- التضحية بالأهل والوطن: الهجرتان 1و2 إلى الحبشة تاركين وطنهم.

4- الهجرة إلى المدينة تضحية فريدة بالمال والأهل والوطن والولد والأزواج والمسكن.

5- الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض دعوة التوحيد على القبائل مقرونة بطلب الحماية، ولا شك أن هذا الطلب النبوي يعزز حضور الأهداف لدى الصحابة، بل إن شدة المعاناة والإيذاء عزز بقوة شوق الصحابة إلى وطن الحرية وبناء المجتمع المنشود.

6- بيعة الأنصار الثانية تعطينا دلالات أقوى على وضوح مقاصد النصوص قيما ووسائل كما في المثالين التاليين:
- البيعة على حماية الرسول صلى الله عليه وسلم دليل صريح أن أهداف الحماية كانت واضحة.

- تحدث بعض الصحابة أثناء البيعة قائلين: لن نقاتل بعد اليوم على العصبية القبلية وإنما لأجل المبادئ.. الله أكبر.. "ويعلمهم الكتاب والحكمة".

تضحية الأنصار:
تضحية الأنصار، وما أدراك ما تضحية الأنصار؟ سنشير إليها إجمالا من خلال "ومن أصدق من الله قيلا".

1- لقد مدح الله الصحابة عموما في 27 موضعا من القرآن الكريم، واختص الأنصار بقوله: "والذين أووا ونصروا...".. "والذين تبوّءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة".

2- في غزوة الأحزاب - الخندق: تجتمع 10 قبائل بعضها عرف رجالها بالبأس، فما لانت قناة للأنصار الذين حوصروا عن مزارعهم وتجارتهم... إلخ، وقبل ذلك تضحية الأنصار في أحد.

3- برهان كالجبل الأشم: الرسول صلى الله عليه وسلم يجس النبض مع السعدين يوم الأحزاب - تقديم ثلث تمر المدينة. ولكن، هيهات، هيهات - يقسم السعدان بفم واحد، لا والله يا رسول الله.. "أبعدما أعزنا الله بالإسلام نعطيهم ثمارنا؟".. إنها دلالات وضوح الأهداف القادمة من وظيفته صلى الله عليه وسلم: "ويعلمهم الكتاب الحكمة".

البراهين والدلالات كثيرة، ولكن حسبنا ما سبق.

الخلاصة، تلكم الدلالات وغيرها هي نتيجة شرعية للتربية النبوية على الأهداف الواضحة من خلال مقاصد النصوص - تعليم الحكمة.

المحور الثاني، تجسيد قيم التأسيس الحاضنة:

1- تجسيد مقاصد التزكية الخلقية:
- بناء النواة الأولى لشبكة العلاقات الاجتماعية قد تجسد في عقد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.

- بناء المسجد، الوسيلة الحاضنة الأكبر في تجسيد شبكة العلاقات الاجتماعية.

تجسيد غير مسبوق - عربيا:

- شمل هذا التجسيد عددا من قيم التأسيس الحاضنة لبناء المجتمع المنشود، والمنتجة لأدوات الحضارة حسب علماء الاجتماع السياسي، وإليك مسرد لتلك القيم فيما يلي:

1- القيم المنتجة لأدوات الحضارة:
- الرقعة الجغرافية - الأرض، الشعب، الحرية، الدستور، العدل، المساواة، القواسم المشتركة، اللسان، الرسالة، الهدف والغاية.

2- شرح موجز لبعض القيم والأدوات، علما بأن التداخل حاصل بين تلك القيم والأدوات، فكيف كان المنهج النبوي - سنته العملية، في تطبيق الحكمة؟

3- الجغرافيا، أرض يثرب:
- يسكنها 12 بطنا من اليهود.
- يسكنها مشركون من الأوس والخزرج.
- يسكنها مسلمون من الأوس والخزرج.
- يسكنها المهاجرون.
- يسكنها فصيل أخطر، إنه الطابور الخامس (المنافقون).

إذن، الوضع معقد جدا بحسب المفهوم السياسي الثقافي المعاصر، والمتمثل في البند التالي.

4- تعدد الهويات، بل وتراكمها.. تعدد الهويات وتراكمها الآنف يعتبره علماء الاجتماع إشكالية كبرى يصعب التغلب عليها إلا بعد حروب وصراعات طويلة الأمد، لكن المنهج النبوي العملي اتجه لبناء مجتمع، يقوم على قواسم مشتركة وأهداف واضحة، أولها وأوسطها وآخرها حماية المدينة -الأرض- الوطن للجميع، وهنا يكون قد جسد القيمة التأسيسية الأولى انضوى تحتها - الحرية، المساواة، العدل.. بالمفهوم المعاصر - المواطنة المتساوية.

5- بناء الدستور - وثيقة المدينة.. قلنا إن إعداد الدستور هو عمل غير مسبوق في الجزيرة العربية.

6- تجسيد الشورى في بناء الدستور: حسب عدد من المفكرين - عرب ومستشرقين، أن كل فصيل كتب حقوقه، وكان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتعدى الموجهات العامة بأن كل بطن تكتب ما يحمي حقوقها.

استدل المفكرون على تجسيد الشورى بتلك الطريقة المتقدمة: اليهود المعروفون بحقدهم قد ارتضوا بالنص الصريح في الوثيقة على المرجعية السيادية العليا هي للرسول صلى الله عليه وسلم.

المشركون والمنافقون أيضا ارتضوا اقتداء باليهود، وهذا يدل أن كل بطن كتبت حقوقها، بل يرى مونتجمري وات: أن التوقيع على الوثيقة تأخر كثيرا، ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى الجميع حق المراجعة والإضافة والتعديل، وهنا حضرت الموافقة على المرجعية العليا لتفسير بعض غوامض المستجدات.

7- قيم التأسيس الحاضنة.. قلنا إن قيم التأسيس الحاضنة هي تراكم الهويات، فلكل بطن من اليهود هويته المركبة دينيا ومذهبيا وعرفا ثقافيا، كل ذلك نصت عليه الوثيقة، وهنا تجسد العدل، حاميا للحريات - الهويات المركبة، والمساواة فتحققت قيمة بناء شبكة العلاقات الاجتماعية، تجسيدا عمليا لمقصد القيام بالقسط: "أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين".

8- تجسيد خاص بالمواطنة المتساوية: تم تجسيد التأسيسية - المواطنة المتساوية في مادة دستورية خاصة نصت بوضوح أن أي عدوان من خارج المدينة على اليهود فإن على المسلمين أن يحاربوا مع اليهود والنفقة من بيت مال المسلمين، وأن اليهود إذا اقتتلوا فيما بينهم فعلى المسلمين الصلح وعدم الوقوف إلى جانب أحد الفريقين.

9- نصت الوثيقة على وجوب الدفاع عن المدينة من كل من وقع على الوثيقة - الدستور.

10- الهدف والغاية: تجسيد بناء المجتمع المنشود على القواسم المشتركة التأسيسية الحاضنة كان مقصدا أو سيلة في آن، فقام المجتمع على القواسم المشتركة مقصدا وفي ذات الوقت وسلة حامية للهدف القريب - حماية المدينة.

وحماية الغاية الأبعد والأهم المتمثل في بناء وعي الذات للفرد والمجموع، فتحقق بناء المجتمع المدني - امتلاك الأمة لولاية نفسها، فهذه إحدى الغايات الكبرى.

11- ترسيخ قيم الخلود - بناء شخصية الأمة: فما هي قيم الخلود؟ وما المقصود ببناء شخصية الأمه؟ سيكون هذا مضمون الحلقة الرابعة.. نلتقي بعونه سبحانه.