الخميس 28-03-2024 13:19:16 م : 18 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

قوانين حركة التاريخ في القرآن الكريم (الحلقة 4-4) إعادة بناء الثقافة في ضوء قانون التدافع

الإثنين 31 أكتوبر-تشرين الأول 2022 الساعة 07 مساءً / الإصلاح نت - خاص | عبد العزيز العسالي
  

أولا، القرآن الحكيم كتاب حكمة: قال تعالى: "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" (الجمعة، 2).

تعليق حول النص:
- النص الآنف تضمن دلالة قطعية أن وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم: تلاوة الآيات، التزكية، تعليم الكتاب والحكمة.

- وردت نصوص كثيرة في القرآن الكريم قررت وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم.

‐ وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم وردت في دعوة إبراهيم عليه السلام: "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم".

ثانيا، دلالة الحكمة:
1- الحكمة مصطلح قرآني اكتنز في إطاره كل مقاصد القرآن وكلياته، ومقاصد القيم الكونية والخلقية، وسنن الله الكونية الحاكمة للنفس والاجتماع - مصالح الإنسان في الدنيا والآخرة.

2- ورد في سورة الإسراء مقطع من مطلع الآية 22، وانتهى في الآية 39، تضمن قرابة 17 قيمة - كونية، وخلقية، واقتصادية، والسنن الحاكمة للاجتماع، وفي نهاية المقطع اتجه الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: "ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة".

وقد دل السياق أن المقصود بالحكمة هنا هو الثمار والفوائد الاجتماعية الناتجة عن تطبيق نصوص التشريع في الواقع، وأن الفوائد والثمار تتمثل في إحلال وتمكين السلام وإرساء دعائم الاستقرار والأمن والبناء الحضاري.

3- تفسير الحكمة بالطريق الآنف محل اتفاق بين فقهاء الأصول والفروع: بأن أفضل طرق التفسير هي تفسير القرآن بالقرآن.

ثالثا، قانون التدافع:
1- في الحلقات السابقة تحدثنا عن قوانين حركة التاريخ في القرآن: أنها قوانين متداخلة تداخلا مؤثرا سلبا وإيجابا.

2- في هذه السطور نقرر قائلين إننا إذا طبقنا في حياتنا الحضارية قانون التدافع بشروطه العلمية، سيكون له الأثر الفعال في إطالة عمر الحضارة، وهذه سنة الله في خلقه وحكمته التشريعية وإرادته وقضاؤه الكوني: "ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا".

رابعا، بناء الثقافة الحضارية.. شرطان ضروريان:

في نظري، إعادة بناء الثقافة الحضارية من منطلق الحكمة القرآنية تحتاج إلى شرطين ضروريين ذكرهما القرآن الحكيم هما:
1- توصيل القول.. قال تعالى: "ولقد وصلنا لهم القول".. المقصود بالتوصيل هو الأسلوب الإعلامي الواضح أي البلاغ المبين القريب فهمه من ذهنية السامع العادي.

مفهوم التوصيل يعني أن يكون الخطاب للفرد والمجموع من أفق المفاهيم الثقافية المتداولة القريبة إلى الوجدان والعقل - مصلحة الدنيا والآخرة.

2- تفصيل القول.. قال تعالى: "ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم".. "كتاب أحكمت آياته ثم فصلت".. "وكل شيء فصلناه تفصيلا".. "إنه لقول فصل وما هو بالهزل".

3- مفهوم تفصيل القول: أن ينطلق التفصيل للقول من منهجية معارف الوحي - كليات القر آن، ومقاصده، والقيم الكونية والخلقية، والسنن التي سخرها الله للإنسان في الكون والنفس والاجتماع.

4- تفصيل القول يعني بيان الحكمة التشريعية وإزالة الغموض عنها وربط الحكمة التشريعية بثقافة الواقع المعيش للمخاطب.

5- يجب التأكيد المستمر بالأدلة الصريحة القاطعة في دلالتها على وجوب الوصل بين القيم الكونية والخلقية... إلخ، وبين ركني الإيمان بالله واليوم الآخر، مؤكدين أن هذا الوصل هو مراد الله في كتابه وأمره إلى العباد أن يصلوا ما أمر الله به أن يوصل.

6- يجب التحذير الشديد المدعوم بالأدلة ذات الوعيد الشديد حول خطورة الانفصال بين ركني الإيمان بالله واليوم الآخر وبين القيم، والدليل على أن الانفصال مشاقّة لله وأن الذين يعملون على الانفصال بين العقيدة والقيم وصفهم الله بأنهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل وأنهم مفسدون بنص القرآن وملعونون في الدنيا ومصيرهم سوء الدار في الآخرة.

7- كرامة الإنسان: يجب أن تكون قيمة كرامة الإنسان في مقدمة القيم ارتباطا بركني الإيمان بالله واليوم الآخر مع ذكر الأدلة - كتابا وسنة والدالة على أهمية تقديم قيمة الكرامة - عقديا وقيميا وشرعيا وفكريا وثقافيا، وبيان أهمية إعلاء كرامة الإنسان وبيان الحكمة الشرعية المتمثلة في فاعلية النهوض الحضاري، مع الإيضاح أن الإنسان هو ملتقى التكليف السماوي بالعبادة وعمارة الأرض وفق منهج الله.

خامسا، أسس الحضارة في القرآن:
1- القرآن الحكيم زاخر بالمقاصد الحضارية، ومن ذلك مقاصد حضارية واضحة الدلالة في تسمية ثلاث سور في القرآن هي: سورة القلم، وسورة الشورى، وسورة الحديد.

2- القلم يعني العلم والمعرفة وهو الأساس الأول للحضارة، وقد تراكمت دلالة أهمية القلم من جهة اسم السورة، ومن جهة القسم بالقلم.

3- سورة الشورى: الشورى هي الأساس الثاني للحضارة، ذلك أنها امتداد لكرامة الفرد والمجموع، فالشورى يجب توصيلها بلغة بسيطة، مضمونها أن من رحمة الله بكم أيها الناس أنه يرشدكم إلى أن تفكروا أنتم فيما يصلح دنياكم.

4- الشورى تؤكد حق الاختلاف في الرأي، وأن الاختلاف يخصب التفكير، فيأتي الإبداع في ابتكار وسائل حماية مصالح الفرد والمجموع.

5- الشورى تعني حفظ العقل وصيانته من كل ما يؤذيه - تشويش ثقافي أو فكري، خرافة، ظن، جهل، هوى، انسياق مع ثقافة القطيع.

6- الشورى تحمي العقل من تسلل ثقافة الصنمية الفردية، وتقديس الأشخاص.

7- الشورى تعني الرفض القاطع تجاه استلاب الرشد العقلي ولو باسم الدين والفضيلة، ذلك أن الإسلام حرر الإنسان روحا وعقلا ووجدانا، فحاشا أن يتناقض.

8- الشورى تعني العيش للمبادئ، تعني الولاء للأمة، تعني تحصين الأمة من الاستبداد والطغيان والظلم أيا كانت شعاراته، لأن كل ما يوطئ الأكناف أو يدعو إلى الفقر المؤدي إلى إذلال الأمة - فردا أو مجموعا هو تحصين للطغيان ومخالف لمقاصد القرآن وبالتالي يجب رفضه ودفنه في مقبرة أبي لهب وأبي جهل.

9- الشورى تعني أيضا حماية العقل من المؤثرات المادية كالمخدرات... إلخ، فالشورى هي أمر الله وقضاؤه الكوني الحكيم، وهي السنة الحاكمة والناظمة لسير الاجتماع من خلال تحويل القيم إلى آليات ووسائل صادرة عن رشد القرآن الذي "يهدي للتي هي أقوم"، و"يهدي إلى الرشد". وقال: "تبيّن الرشد من الغي".

10- سورة الحديد: هذا يعني التفكير في صناعة القوة المادية والصناعات التكنلوجية، قال تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة".. فإعداد القوة المكافئة للواقع هي من سنن التدافع وإطالة عمر الحضارة.

سادسا، التجديد في الوسائل:

مما يتصل بتوصيل القول وتفصيله:
1- التجديد الفكري وتحريك العقل في ابتكار وتوظيف الوسائل والمتغيرات خدمة للثوابت، وهذا يعني تجديد عقلية الفقيه والواعظ.

2- فاعلية التجديد شرطها الأساسي العودة إلى المنبع الأصيل كتابا وسنة، والشواهد السلبية الدالة على هشاشة التعليم كثيرة أبرزها وأهمها التعليم بشقيه الجامعي ومدارس العلم الشرعي. باختصار، ها نحن قطعنا 100 عام، ولكن لا زلنا نراوح مكاننا.

3- نتائج التقليد: أخطر أسباب ضعف الفاعلية هو التقليد في الأصول - الجمود الفقهي على المنقولات التي كانت إجابة على أسئلة سياق تاريخي مختلف تماما.

الجدير ذكره أن الجمود على المنقولات حال دون النظر في مقاصد القرآن، وهنا حورب العقل والتفكير وتقزمت المفاهيم الكبيرة - الشورى نموذجا، فقد تم إزاحتها من موقعها العتيد - السنن الحاكمة للاجتماع، إلى مكان لا علاقة لها به لا من قريب ولا من بعيد.

والنتيجة: نعرفها جميعا، منها: حضور السلالية العنصرية الانقلابية الإرهابية تحت دعوى الحق الإلهي تحصينا للطغيان باسم الدين وسحقا لكرامة الإنسان وتدميرا لمقدرات الأمة، وهلم جرا.

4- يجب أن يتضمن توصيل القول تفصيلا في القول حول التسلط الفردي الذي زج بالجيش والأمن ضد أهداف الثورة والدستور وحماية الأمة والوطن.

وها هو الشعب اليمني رازح تحت طائلة الكوارث العنقودية، والله وحده يعلم متى ستنتهي؟

سابعا، تصحيح المفاهيم:
1- تعريف المجتمع بمقاصد التزكية وأبعادها وأثرها في إصلاح وحماية المجتمع.

2- تصحيح مفهوم التزكية أنها واجب الوقت وتلبية أوامر الله في كل مناحي الحياة، وأن التزكية ليست الدروشة والضعف وإهمال سنن الله الناظمة للاجتماع.

3- تصحيح مفهوم التزكية: إن التزكية بمفهومها الشائع مخالفة لمراد الله، وفي ذات الوقت يجب التأكيد المستمر أن التدين الشائع هو خذلان للسنن وأن دين الإسلام ليس محصورا في نوع واحد من العبادات، وأن حصر العبادات في زاوية محددة هو من الموروث الذي فيه أفكار ميّتةٌ ومميتة.. أفكار مرهَقَة ومرهِقَة، حد كلام مالك بن نبي رحمه الله.

5- إن التزكية بمفهومها الشائع أقرب إلى الطغيان.. قال تعالى: "فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا".

يا لطيف، كيف تتحول الاستقامة إلى طغيان؟ الجواب نجده في الآية 112 إلخ سورة هود.

نكتفي بدليلين هما:
- الأول هو الركون إلى الظلمة والذي حوّل الاستقامة إلى طغيان.. قال تعالى: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون".

- الشعب اليمني خلال أربعة عقود أقام المساجد وانتشرت صلاة التراويح وقيام العشر الأواخر من رمضان و الاعتكاف ليلة القدر، فكيف حلت به كارثة السلالية العنصرية والشتات بل وقبل ذلك طغيان الفردية القذرة التي مهدت للسلالية؟ أليست هذه نتيجة لتلك الصورة من طغيان الاستقامة التي استنامت في وهدة الركون إلى الظلمة؟

الثاني قانون التغاير - حق الاختلاف: "ولا يزالون مختلفين".. هذا أحد قوانين حركة التاريخ، لكن الفردية الطاغية جعلت من هذه السنة الكونية شعارا أجوف، أو كما يقال "حمْلٌ كاذب"، فاتجهت الأمور إلى أبعد مدى - تمزيق النسيج المجتمعي، وتعصب متعدد الجهات والنزعات إلى الحد أننا سمعنا عن عدد من الشخصيات "القروية" لم يتجاوزوا أصابع اليدين يريدون أن يحكموا، فمزقوا اليمن الموحد، أسوة بالعنصرية السلالية.

كما أن العنصرية السلالية كانت قد سارعت إلى إعلان عنصريتها بعد ما سمعت توريث النظام الجمهوري - انفراد عشيرة أو أسرة بالحكم، وعدم اللامبالاة بالشعب والدستور والتعددية في ظل صمت صنعه الركون إلى الظلم والطغيان.. إنه ركون قادم من طغيان الاستقامة.

يا إلهي، إن الذهول يتملكنا.. كيف اتسق طغيان الاستقامة وطغيان الذين ظلموا فكانت الكارثة؟

وعليه، هنا يجب توصيل وتفصيل القول وتعزيزه بالشواهد من واقع كارثة الوطن الحبيب، فإن لم نقوم بتوصيل القول وتفصيله، فالقادم سيكون أسوأ والعياذ بالله.

تلكم هي إشارات حول إعادة بناء الثقافة وشروطها، ولا زال هناك الكثير الكثير.. نلتقي بعونه سبحانه.

كلمات دالّة

#اليمن