الخميس 28-03-2024 17:48:47 م : 18 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

قوانين حركة التاريخ في القرآن الكريم (الحلقة 3-4) انهيار الحضارة.. الأسباب والعوامل

الجمعة 28 أكتوبر-تشرين الأول 2022 الساعة 05 مساءً / الإصلاح نت - خاص | عبد العزيز العسالي
 


في الحلقة السابقة استعرضنا بعض نصوص القرآن الكريم التي تضمنت أبرز أسباب انهيار الحضارات، وقد اخترنا الحضارة الإسلامية نموذجا للتطبيق.

وقبل استعراض بقية الأسباب والعوامل نود أن نلفت القارئ إلى:
- هناك كتب كثيرة تناولت أسباب سقوط الحضارات عموما، وقد حددنا كتاب "مدخل إلى الحضارة الإسلامية" (د. عماد الدين خليل) لسببين: الأول، أنه حشد الكثير من الأسباب والعوامل التي أدت إلى "تدهور الحضارة الإسلامية"، استعرضها في40 صفحة متراصة السطور صغيرة الحروف، وقد جمع أسلوبه بين الإيجاز واستيعاب جزئيات كثيرة.

السبب الثاني أنه تحدث حول "تدهور الحضارة الإسلامية"، وقد اختار مفهوم "التدهور" لأسباب يطول شرحها.

- ذكر د. خليل 20 سببا أدت إلى تدهور الحضارة الإسلامية، وقسّم الأسباب إلى قسمين.
- أسباب داخلية وقد حددها في 19سببا، انطلاقا من النص القرآني "قل هو من عند أنفسكم".

- أسباب خارجية حددها في سبب واحد فقط، وقد أطلقنا
على السبب "العامل"، لأنه ساعد فقط، ولم يكن سببا مباشرا في تدهور الحضارة الإسلامية.

لا شك أن د. خليل قد وضع أصبعه على جرحنا المتقيح، المزمن، المتعفن، وضغط عليه بقوة، لإخراج القيح، أشبه بتصرف الطبيب المتخصص المتمرس في تشخيص أسباب المرض، تاركا العاطفة، مستلهما نصوص القرآن الهادية للعقل إلى السنن الكونية الحاكمة للاجتماع فاعتصر عقله في فهم ثاقب للنصوص وصاغ الأسباب بأسلوبه الرصين الملامس لهموم العصر وثقافته.

وقد عمدت إلى تلخيص عطاء د. خليل، لكني حافظت على جوهر الفكرة.

- تجنبا للإطالة وبعد تأمل عملنا على دمج بعض الأسباب، وقد بلورناها كما يلي:

أولا، الأسباب:
1- تسلل الصنمية السياسية: من خلال شرح د. خليل وجدنا أنه يؤكّد بالحرف والفحوى أن الصنمية السياسية نشأت وترعرعت في بيئة خصبة، وأن هناك عوامل ساعدت، منها:
- الانفصال بين مركزية التوحيد وبين القيم الكونية والقيم الخلقية والسنن الحاكمة للاجتماع، ذلك أنه من مفهوم عقيدة التوحيد يعني تحرير روح الإنسان أولا، ثم تحريره جسديا وسلوكيا، ترسيخا وتجسيدا لكرامة الإنسان التي اقتضتها حكمة الله وإرادته، وجاءت نصوص القرآن آمرة بوجوب الوصل بين ركني الإيمان بالله واليوم الآخر وبين القيم الكونية والخلقية والسنن الحاكمة للاجتماع، كما أن نصوص القرآن حملت حملة شعواء ضد الفصل بين الإيمان والقيم، فقد أعطته وصفا خطيرا بأنه قطع لما أمر الله به أن يوصل، وبالتالي فهو إفساد في الأرض، قال تعالى: "والذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار".

- أن الفصل بين الإيمان والقيم سببه التفسير المتوارث الذي حصر التوحيد في ترك عبادة الأصنام، الأمر الذي خلق فصاما - ازدواجية خطيرة تمثلت في التعايش بين تدين سقيم يستند إلى تفسير متوارث نشأ في سياق خاص، وبين تقديس الصنمية، بل وصل الحال إلى تحصين الطغيان وتجاهل مقاصد القرآن.

2- فصام بين قيادتي الفكر والسياسة.. إن وجود العالم المفكر المؤثر في الوسط الثقافي يتنافى مع وجود الصنمية السياسية.. والتاريخ مليء بمحن العلماء نفيا وسجنا وجلدا وقتلا.

باختصار، الفصام بين قيادتي الفكر والسياسة خلق فجوة كبيرة كرّست الانفراد بالقرار المستبد.

3- حضور القبلية: هذه المحنة الثقافية أطلت بقرونها في وقت مبكر، محنة القبلية خلقها الصراع بين أبناء العم، بل بين الأخوة الأعداء. ولسوء الحظ فقد تحول الصراع على الكرسي بين أولاد العم إلى عقيدة، تكرس السلالية العنصرية - قرشية الحكم، هاشمية الحكم، أموية الحكم، علوية الحكم، البطنين - صنمية ثقافية، بل دينية وشرعية.

4- انفجار الصراعات: انفجرت الصراعات الجهوية والقبلية تطلعا إلى الحكم والحصول على المكانة والمال تحت مبرر استعادة الشورى.

وبعد الاستيلاء يتوارى شعار الشورى، بل ويتحول الصراع إلى الداخل القبلي - تفتيت المفتت.

5- غياب المبادئ: هنا لا نحتاج لكثير من الشرح، ذلك أن حضور صنمية الأشخاص هو ترجمة صريحة لغياب المبادئ، وإن شئت قل إذا غابت المبادئ حضرت الصنمية والعكس صحيح 100%.

6- الظلم الاجتماعي: لا شك ولا ريب أن الصراعات السياسية -وإن كانت في دهاليز القصر- فإن أضرارها تطال المجتمع بدرجة أو بأخرى.

رأس القبيلة أو العشيرة، يستأثر بالتركة والمناصب والقرار وصولا إلى تهميش الأقارب، يسري ذلك الظلم الاجتماعي إلى زعماء القبائل أو العشائر، فيزداد ظلمهم بحسب قربهم من رأس القبيلة الحاكمة.

7- تكريس وترسيخ الأعراف المعوجة: بما أن الروح السائد هو التنظيمات القبلية والعشائرية فإنه من الطبيعي أن يصبح الظلم الاجتماعي هو العرف الحاكم مهما كان معوجّا، ولا شك أن هذه الأسباب إذا صاحبتها عوامل أخرى فقد تؤدي إلى انهيار الحضارة.

هنا يأتي سؤال مفاده: إن الأسباب الآنفة الذكر كفيلة بإسقاط الحضارة فما الذي أطال عمر الحضارة الإسلامية؟

الجواب: هناك عوامل قوية حالت دون سقوط أو انهيار الحضارة الإسلامية.. هذه العوامل تعود إلى مزايا الثقافة الإسلامية التي تتمثل في أن المجتمع قائم بشؤون الخدمات كلها، كالتعليم، والمساجد، والزراعة، والطب والتكافل الشامل، وإصلاح الطرق... إلخ. كل ذلك على حساب الوقف الخيري، ذلك أن الدولة تتمثل في أربع وزارات فقط هي: العدل، قيادة الجيش، الشرطة، الخراج- الخزانة، يعني أن كيان الدولة لم يتجاوز تلك الوزارات طوال 1300 عام.

كثير من المؤرخين يعتبرون حضور المجتمع بتلك الصورة كان السبب الرئيس في امتداد عمر الحضارة الإسلامية، فإذا تدهورت جوانب من الحضارة -خدمة المجتمع- في إقليم فقد يأتي من يتلافى التدهور داخل الإقليم أو خارجه.

8- غلو وتشدد في التدين: تفاوت حضور هذا السبب، سيما التعصب للمذهب، وهذه محنة ضاربة الأطناب، سنتحدث عنها لاحقا بشيء من التفصيل.

باختصار، الغلو والتشدد أنجبا المولود التالي.

9- جمود فكري: كثيرا ما تكون النتيجة أكثر من السبب أو المقدمة، فالجمود الفكري ينتج عنه قبول بالخرافة، اتباع الظن والهوى، تقديس شيخ المذهب، غياب المنهج العلمي، وهذا يعني باختصار: رفض مقاصد الشرع ومحاربة العقل وخذلان السنن الحاكمة للاجتماع -الدخول في المعرفة المغلقة- التعليم الذي لا يصنع حلولا وإنما يستدعي أسوأ أنواع التشدد والتزمت -جهل مركّب- حد قول البردوني رحمه الله:
قرأت كتابا صرت بعده
حمارا حمارا لا أعي حجم راكبي

وعليه، سيكون رفض الجديد والتجديد هو العصا الغليظة.

10- قصور عن توظيف المكان والزمان: الحديث هنا عن آخر الدول الإسلامية، حسب د. خليل، فقد تحدث بمرارة، نقلا عن مؤرخين أوروبيين قائلا إن الدولة العثمانية أخذت ببعض جوانب القوة تاركة مواكبة جوانب القوة في مجالات السلاح والتصنيع الثقيل جوا وبرا وبحرا، مؤكدا أن عقلية النخبة يومها كانت تعيش غياب وعي العمق المكاني للدولة، وهذا الغياب انعكس سلبا على السباق والمسارعة وانتهاز فرصة ضعف الخصم الأوروبي المتربص طيلة 1000 عام.

11- الصراع بين الثنائيات: هذا السبب بدأ في مطلع القرن الرابع الهجري، حيث صدر قرار باعتماد أربعة مذاهب فقط، ثم توسع الأمر قليلا في الجانب الفكري ولكنه متداول في فضاء ضيق -زوايا التصوف- القادم من الهند والهادف إلى المواجهة العنيفة ولكنها هادئة الأسلوب والمظهر - خرقة الزهد المصطنع وهو تصوف فلسفي هرمسي باطني شيعي برهمي هندوسي... الخ.

قبل قليل وعدنا بشيء من التفصيل، كيف أن الشتات انتقل نحو الذات - شتات ذهني، صراع فكري فلسفي عقيم لكنه يشغب في وجه الاستدلال بالقرآن والسنة، كيف لا وباب الاجتهاد مغلق، والمنهج غير مقبول لأنه يستدعي العقل، والنص أصبح مظلة إفهام، والحل هو التقليد العاجز إزاء التساؤلات الهامة حول الثنائيات التي ما عرفت انفصالا ولا صراعا وانما كانت حضارة التصالح بين الثنائيات طيلة خمسة قرون حسب مؤرخين علمانيين وأوروبيين.

لكن الصراع بين الثنائيات حضر بقوة في القرون الثلاثة الأخيرة، مقتحما أغوار النفس المسلمة عموما دون تفريق بين عالم وغير عالم، والتصوف المتوارث هو المغذي ليس للعداء فقط وإنما منشئ للصراع بين الثنائيات داخل النفوس المتدينة ناهيك عن غيرها.

استحكم الصراع وغاب الانسجام، إلى حد صعوبة استدعاء التصالح الذي عرفه التاريخ الإسلامي الحضاري المشرق، فما هي الثنائيات المتصارعة، وما درجة خطورتها؟

سنقوم بسرد الثنائيات، ولا شك أن القارئ سيدرك أثر خطورة الصراع ونتائجه المدمرة للذات المتدينة، فإلى الثنائيات: دنيا، آخرة، الظاهر، الباطن، الروح، المادة، القدر، الاختيار، الفردية، الجماعية، العدل، الحرية، وحي، قيم، دين، دولة، مبدئية، شخصانية، فناء، خلود، عقل، نقل، ذات، موضوع، مثالية، واقعية، مقاصد، وسائل، ثوابت متغيرات، قديم، جديد، حق، قوة، كلّيٌّ، جزئيّ، منهج، تطبيق، نظام، تحلل.. النتيجة: تمرد، انبهار بالوافد، تخريب، وافساد.

ذلكم هو قسم الأسباب.
القسم الثاني، العوامل:
1- دور العامل الخارجي: هذا هو العامل الخارجي الوحيد حسب د. خليل، ولكن هذا العامل لم يكن قويا بذاته وإنما كان الانبهار بالوافد، انبهار رافقته صدمة حضارية جراء الهزيمة العسكرية الاقتصادية التكنلوجية، والنتيجة كارثية بكل المقاييس تمثلت في القابلية للاستعمار.

واسمع، بل واقرأ، ثقافة نخبة الحكومات الوطنية التي طردت الاحتلال من الباب واستدعت ثقافته، بل فرضتها بقوة السلطة.

هنا فلا ثقافة قديمة باقية، ولا تجديد ولا ولا.. نعم، وجدت الأمة أن النخبة الوطنية قد تمثل فيها البيت الشعري القائل:
غراب تعلم مشي الحمام
وقد كان يمشي بمشي الحجَل
فصار يرقص في ذا وذا
فلا ذا تأتّى ولا ذا حصل

وليس أخيرا، هل الحضارة الإسلامية انهارت أم تدهورت؟ الجواب متروك للقارئ.

نلتقي بعونه سبحانه مع الحلقة الرابعة والأخيرة حول إمكانية عودة الحضارة.

كلمات دالّة

#اليمن