الخميس 28-03-2024 18:16:56 م : 18 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

قوانين حركة التاريخ في القرآن الكريم (الحلقة 2-4) انهيار الحضارات.. الأسباب والعوامل

الثلاثاء 25 أكتوبر-تشرين الأول 2022 الساعة 02 مساءً / الإصلاح نت - خاص | عبد العزيز العسالي
 

 

أولا، خلاصة وتذكير:
في الحلقة الأولى استعرضنا القوانين الكلية "لحركة التاريخ"، وحرصا على ربط الأفكار لدى القارئ سنذكره بها وهي:
- قانون التداول.
- قانون التدافع.
- قانون التغاير.
- قانون التناقص.

الخلاصة: إذا تأمّلنا في مقاصد وغايات القوانين الآنفة سنجد أنها:
- سنن كونية صارمة.
- أن قانون التداول هو القانون المحوري.
- أن التعاطي الإيجابي الواعي مع القوانين الثلاثة يطيل عمر الحضارة.
- أن طول عمر الحضارة دليل على قوة حضور شخصية الأمة شعبا ودولة، كما أنه دليل على يقظة الأمة وحيوية قيمها وسلوكها إنسانيا وحضاريا.

- أن إساءة التعاطي مع قانون التدافع أو التغاير - الاختلاف يؤدي إلى قصر عمر الحضارة، فيأتي من يتسلم زمام الحضارة فيضيف شيئا فيتجسد على أرض الواقع (قانون التداول).

تلكم هي خلاصة فكرة القوانين الكلية - "قوانين حركة التاريخ".

انهيار الحضارة الإسلامية..
الأسباب، العوامل:

أولا، الأسباب:
انهيار الحضارات وسقوطها لا يحصل بصورة مفاجئة ولا بطريقة اعتباطية، فهذا مخالف لسنن الله المضطردة في النفس والكون والاجتماع.

إذن، هنالك أسباب كثيرة متصلة بالقيم الكونية - السنن الحاكمة للاجتماع، الأمر الذي يعني أنه إذا حصل تجاهل أو عدم التزام بإحدى القيم الكونية الحاكمة للاجتماع، وطال عليها الأمد، ورافق ذلك غياب المثقف الاستثنائي - كتلة قوية الذين سماهم القرآن "أولوا بقية" الذين حدد القرآن وظيفتهم أنها النهي عن الفساد في الأرض والوقوف في وجه من يصادم القيم ومحاصرة العابثين بالقيم، مذكرين الرأي العام بمآلات ونتائج الفساد القيمي.

الخلاصة: غياب القيمة إذا رافقها شرط غياب "المثقف الاستثنائي" - "أولوا بقية" تكون الأمة قد سلكت الخطوة الأولى تجاه مقدمات انهيار الحضارة من جهة، وبقدر درجة الانحراف تكون الأمة قد تدحرجت عن موقع القيادة من جهة ثانية.

وما لم تقم بمراجعة شاملة لأسس تفكيرها وتجديد ثقافتها، فإن "قانون التداول" سيغُذّ الخُطى نحو تسليم زمام القيادة للآخر، فسنن الله تأبى البقاء في الفراغ.

ورحم الله البردوني إذ قال:
لأن الفراغ اشتهى الامتلاء
فجاء بشيء سوى المرتقب

إذن، القرآن العظيم زاخر بالنصوص الهادية المفصلة حول أسباب انهيار الحضارات.

قال تعالى:
- "وكل شيء فصّلناه تفصيلا".
- "كتاب أحكمت آياته ثم فصّلت".
- "ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم".
- "كتاب فصلت آياته من لدن حكيم عليم".

هذه النصوص وغيرها الكثير تقرر بوضوح أن القرآن الكريم قدّم القوانين الكلية والقوانين الفرعية التفصيلية، إرشادا للإنسان، وحماية لمصلحة الفرد والمجموع في الدارين.

نصوص صريحة:
قصص القرآن الكريم زاخر بأسباب انهيار الحضارات وسقوط الدول.

الجدير ذكره ان القرآن قدّم أسبابا كثيفة الدلالة، ينضوي تحت كل سبب "كُتْلةٌ" من الأسباب.

وسنتحدث عن أبرز الأسباب:
بعد استقراء الأسباب الكامنة وراء انهيار الحضارة الإسلامية وجدنا نوعين من الأسباب: النوع الأول، سبب عقدي عام، وقد تمثل السبب العام في الانفصال بين القيم والعقيدة - انفصال بين ركني الإيمان بالله واليوم الآخر وبين القيم الكونية والقيم الخلقية، وهذا السب تعود إليه جذور محنة انهيار الحضارة الإسلامية وقد تفرعت عنه كل الأسباب.

النوع الثاني، أسباب فكرية وقيمية، وقد استخرجناها من نصوص القرآن الكريم مباشرة وبعضها تحليل واستنباط وقد بدأنا بذكر الأسباب الواردة في القرآن على النحو التالي:

1- غياب وعي الذات:
مفهوم وعي الذات في القرآن العظيم ورد تحت مفهوم يحمل تراكما دلاليا أقوى وأعمق، وفي طليعة تلك الدلالات:

- من مقاصد القرآن تخليد ذكر أمة محمد صلى الله عليه وسلم:
هكذا نص القرآن حرفيا أن من مقاصده تشريف أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتخليد ذكرها عبر العصور - مكانة، وقيادة، وقيما، وريادة إنسانية وحضارية. قال تعالى:
- "ولقد جئناكم بكتاب فيه ذكركم أفلا تعقلون".
- "وإنه لذكر لك ولقومك ولسوف يسألون".

السؤال: هل أمة محمد صلى الله عليه وسلم وعت ذاتها؟ وهل وعت مكانتها الريادية الخالدة؟ الجواب هو: إن القرآن يقول عن أمة الإسلام إنها تعيش غيبوبة قيادية وحضارية - غياب وعي الذات بسبب نسيان حظها وشرفها ومكانتها الريادية الوارد ذكرها في القرآن الكريم، وسيكون نسيان الحظ هو أول سبب في التدحرج الحضاري.

قال تعالى: "فلما نسوا حظا مما ذكروا به أغرينا بينهم العداوة والبغضاء".

قد يقول البعض إن هذا النص يتحدث عن بني إسرائيل؟ والجواب: نعم، نعم، لكن يجب فهم دلالة النص في إطار مقاصد القرآن ومقاصد قصص القرآن التي تضعنا أمام الدلالات المقاصدية القاطعة التالية:
- أن المقصد من ذكر نسيان الحظ عند أهل الكتاب هو أقوى تحذير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، حتى تسقط في مستنقع نسيان حظها قياديا وقيميا.

- أن مقاصد قصص القرآن هو الاعتبار، الأمر الذي يعطينا دلالة فحواها: انتبهوا، احذروا الانتكاسة والسقوط في وهدة النسيان الذي لا ينزلق بالأمة إلى الحضيض فحسب، وإنما هو قبل ذلك يقودها إلى الغرور الذي يتنافى وشرف قيادتها الحضارية المرتكزة على قيمتي الرحمة والتواضع.

عقوبة مخالفة السنن الكونية
عدل رباني ومقصد قرآني: يا أمة الإسلام، إياكم والاتكال على الأمنيات الفجة، فسنن الله لن تتبدل ولن تتحول - ولن تجد لسنة الله تبديلا.. وإليكم الدليل: "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به".

إذن، ما تعيشه أمة الإسلام من تخلف شامل دليل قاطع أن المسلمين يعيشون غيبوبة نسيان شرف قيادة الحضارة والإسهام في إنقاذ الأمم قيميا.

دليل أكثر واقعية:
المسلمون يعيشون تناحرا، عداء، حقدا، صراعا، شتاتا ضارب الأطناب في كل اتجاه.. أليس هذا حصاد نسيان الحظ؟ "فلما نسوا حظا مما ذُكِّروا به أغرينا بينهم العداوة والبغضاء".

2- إرث العرَضِ الأدنى:
قال تعالى: "فخلف من بعدهم خلف يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيُغفرُ لنا".

تضمن النص الآنف:
- أن سقوط الهمم - الاكتفاء بالعرض التافه الدنيا هو أحد أسباب انهيار الحضارة.

- بما أن سقوط الهمم هو سبب فهو نتيجة طبيعية لنسيان الحض، ذلك أن من نسي مكانته فلا يتحرج من العيش الخانع الذاوي في وهاد التافه الأدنى.

- الأسوأ، تلك الأمنيات - سيُغفرُ لنا.
- دلالة الواقع نشاهدها بقوة في فضاء الجيل الوارث، الذي عقل ذاته وفي فمه الملعقة الذهبية، فمستحيل أن يحضره سؤال كيف وصلته الإمارة والمال والأبّهة... إلخ.

وهذا الذي لم ولن يسأل نفسه عما سبق، فهيهات أن يفكر تجاه تضحيات الآباء أو الرواد المؤسسين وتضحياتهم وما لاقوه من عنت.

- أن الهمم السافلة لا تقف عند نسيان حظها في شرف قيادة الحضارة فقط، وإنما تمعن وبلا مبالاة في عبادة الأهواء فتنبذ كتاب الله وراء ظهرها، وبما أن الحكمة تقول: من لم يشغل نفسه بالحق فإنه يشغلها بالباطل، فإن الهمم الآنفة الذكر تتجه إلى هدف ملء الفراغ من خلال السبب التالي:

3- الآبائية: المقصود بالآبائية: التقليد الأعمى للموروث تحت مبررات مقرفة - الأصالة، وتقليد للوافد، وهنا إحلال للأعراف المعوجة وتقديمها على التشريع المعصوم.

كما أن لعنة الآبائية ينضوي تحتها "حُزْمةٌ" أسباب تسوق الأمة نحو الحيونة أبرزها:
- مناصبة العِداء للعقل باسم الدين.
- إلغاء التفكير وإنه بدعة وافدة كما أنه موروث عن فرق الزيغ والضلال عبر التاريخ الإسلامي.
- غياب المنهج العلمي، الكفر بسنن الله في الكون والنفس والاجتماع، التسليم للخرافات، وبناء العقيدة على الأدلة الظنية.

وقبل وبعد وفوق كل ذلك الكفر بأعظم نعمة ميّز الله بها الإنسان وكرّمه بها على سائر خلقه.

النتيجة المكارثية هي انسحاق كرامة الإنسان وحريته وضياع حقوقه، وغياب مبدأ المساواة وانتشار الظلم وتأليه الطغيان.

4- سقوط المبادئ: قال تعالى: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم..." إلخ.

الإسلام حرر الأرواح قبل الأجساد، ثم جسد تحرير الأرواح بالسلوك العملي، حيث غرس العزة في نفس المؤمن: "من كان يريد العزة فإن العزة لله جميعا".

إذن، فتقديس الأشخاص وتأليه الغباء ثقافة مرذولة في ثقافتنا الإسلامية، فكيف دخلت أمتنا مستنقعات تأليه الغباء وتقديس الأشخاص؟

لا شك أن تقديس الأشخاص وليد شرعي لسقوط المبادئ، فالذي لا يلتزم المبادئ يتجه لاهثا وراء الأشياء - منصب، مال سيارة، والطغاة المستبدون يمدون الأتباع في الغي - إغراق العقول بالتفاهات، تخديرا لها وإزاحتها عن ثقافة الجد، وتزييفا لمفهوم الحرية، فينشغل المجتمع بقشور الحرية والتفاني لها، وإذا جاء من يصحح مفهوم الحرية يفاجأ أنه قد ألصِق به وسام الإرهاب الفكري من جهة، والاتهام بالزيغ والضلال والعمالة من جهة ثانية.

5- التنازع - العصبية والتعصب: قال تعالى: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم".

هذا النص تضمن عددا من الدلالات أهمها:
- النهي عن التنازع، ومن صور التنازع الجدل حول قضايا جزئية، ونسيان القواسم المشتركة، ومن التنازع السجالات الكلامية حول موضوعات خلافية بطريقة غير منهجية، والنتيجة ضياع جهود وأوقات، فيزداد الخرق اتساعا ويحضر التعصب بأنواعه - حزبيا، جهويا، طائفيا، قبليا، مذهبيا... إلخ، وهذا السبب آثاره وخيمه في تمزيق النسيج المجتمعي.

إذن، هي أسباب عنقودية أي كل سبب تنضوي تحته أسباب تقود إلى أسباب أخرى، وصولا إلى سبب أكثر خلخلة وضياعا وذهابا لريح الأمة، وهذا السبب هو:

6- غياب شخصية الأمة:
هذا المنحدر نحو الانهيار أخطر على الأمة، ذلك أن كرامة الأمة أساسها كرامة الفرد، فإذا امتهنت شخصية الفرد وانسحقت كرامته فمن الطبيعي غياب شخصية الأمة ابتداء من غياب الرقابة الشعبية.

الحقيقة أن الإسلام أولى شخصية الأمة عناية فائقة ليس هذا محلها.

نلتقي بعونه سبحانه مع بقية الأسباب والعوامل..

كلمات دالّة

#اليمن