الخميس 25-04-2024 09:58:58 ص : 16 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

مع الصائمين.. المشروع الإسلامي وأنماط التدين (3-5)

الجمعة 15 إبريل-نيسان 2022 الساعة 09 مساءً / الإصلاح نت-خاص | عبد العزيز العسالي

 

مستهل:
ضرب الله الأمثال في القرآن العظيم بصورة لافتة، والهدف هو إثارة التفكير العميق وصولا إلى دلالات الأمثال وتفكيك المعاني المكثفة والدلالة الرمزية المكتنزة داخل بنية الأمثال، ذلك أن دلالات الأمثال تحمل قيما ومفاهيم وأهدافا ومبادئ خلاصتها الدعوة إلى إعمال العقل وصولا إلى الاعتبار شأن سائر القصص القرآني مع فارق أن القصص القرآني يحتاج إعمال النظر أكثر بخلاف المثل فهو قريب الاستنتاج، لأن صياغة المثل -بلاغيا- منحته رمزية وجمالا يستهويان العقول والأفئدة والأرواح.

كيف لا، والأمثال في القرآن إحدى دلائل إعجاز القرآن، إعجاز ليس في البنية اللغوية فحسب، وإنما إعجاز فكري قِيمي أخلاقي إنساني حضاري، فهذا النوع من الإعجاز لا شك ولا ريب أنه أكثر تأثيرا في عقول ونفوس غير الناطقين بالعربية.

وصدق الله القائل: "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون". والقائل: "وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون".

تأمل.. نضربها للناس، أي لكل الناس وليس للناطقين بالعربية فقط.

الجدير ذكره أن كاتب هذه السطور وقف طويلا أمام دلالات الأمثال في القرآن، فوجدت أنني:
1- أمام حشد من الأفكار والقيم العليا والمبادئ والمفاهيم ذات الأبعاد العميقة الجديرة بالدراسة الجادة في ضوء المنهج المقاصدي.

2- أن أمثال القرآن لم تعط حقها من الدراسة قياسا ببقية علوم القرآن، رغم الدراسات الكثيرة قديما وحديثا في هذا الصدد.

هناك دراسات جيدة لكنها أغفلت المنهج المقاصدي في الكشف عن دلالات الأمثال في القرآن.

إسهام متواضع:
قرر كاتب هذه السطور أن يسبح في شاطئ مثل واحد فقط من أمثال القرآن لاستجلاء المفاهيم الظاهرة، متوخيا الإيجاز، معترفا بقلة مهارتي، فبحر الأمثال زاخر بالدلالات.

وقد وقع الاختيار على المثل الوارد في الآية 17 من سورة الرعد فقد استوقفني بل هزني فكرا ووجدانا.

قال تعالى: "أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاعٍ زبدٌ مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال" (الرعد، 17).

وقفات مع المثل:

1- تأملت طويلا في تراكيب مفردات المثل فوجدت أن المثل قد اكتنزت فيه مفاهيم فكرية ومنهجية وعقلية لافتة للنظر، جديرة بالوقوف معها.

2- معاناة فكرية:
انقدح في تفكيري شرارات أولية تشير إلى ميلاد فكرة، تلا ذلك معالم عنوان فكري عملي له أهميته.

3- تتبعت بعناء خيط الأفكار بهدف الوصول إلى بلورة العنوان فوجدت ضغطا أقسى على دماغي، بسبب قراءات كثيرة قديمة وحديثة خلقت هاجسا ثم انطفأت طويلا ثم تطور الأمر إلى فكرة ثم معالم مفهوم مختلط متشابك كثير المفردات حد التعقيد.

4- ميلاد العنوان: بعد معاناة وُلِد عنوان الموضوع في الصيغة التالية: المشروع الإسلامي وأنماط التدين.

العلاقة بين العنوان ودلالة المثل:

أولا، دلالة المثل: الله أنزل دين الإسلام نقيا صافيا، كما أنزل الماء الطهور من السماء:

1- فكما أن الماء خالط تراب الأرض فسالت أودية بقدرها وذلك السيل خالطه زبدا رابيا (رغوة) وحطب وقش وأتربة مختلفة، الأمر الذي يعني أن الماء النقي لحقه التلوث، لكن التلوث درجات بحسب قوة السيول المجتمعة في الأودية، وهذا يعني أن التلوث يتراوح قلة وكثرة بقدر كثافة السيل وقلته، فهكذا يضرب الله الحق والباطل، فالتلوث لا يؤثر في السيل الجارف بل إن السيل القوي ينفع الناس فيمكث في الأرض أولا، ويمد الأرض المزروعة بتراب متجدد ثانيا، ويستفيد الناس منه حطب وبعض المعادن الخفيفة ثالثا.

هناك أودية قليلة السيول قد يستفاد منها في جوانب ولكن مياهها غير صالحة للشرب أو الطهارة، من جهة، كما أن قلة مياهها لا تستطيع إمداد المزارع الصغيرة من جهة ثانية، بل قلة المياه تجعلها في حفائر صغيرة فتتأسّن وتتعفن من جهة ثالثة وتتحول إلى إنتاج البعوض والبلهارسيا... إلخ.

2- علاقة الدلالة:
1- دين الإسلام أنزله الله نقيا واضحا ميسرا فخالط العقول واختلط بالتدين العملي، فبعض العقول تستفيد من العلوم والمعارف والتدين العملي الكثير المفيد أشبه بالأودية القوية والتي مهما لحقها التلوث، فإن فائدتها في مجال التدين عظيمة وكبيرة.

2- شريحة أخرى من العقول تأخذ من العلم والمعرفة القليل وتقتصر على جوانب من التدين العملي بحسب ما اجتمع فيها من السيل، لكن التدين لدى هذه الشريحة والتي تليها قد تلحقه الشوائب إلى حد كبير.

3- بعض العقول أشبه بالحفائر والترع، فيأتي التدين العملي فتطغى عليه الشوائب إلى حد مخيف، تلكم هي العلاقة الأولى بين المثل القرآني وأنماط التدين.

العلاقة الثانية للمثل: المشروع الإسلامي.. الكمال والمرتكزات:

1- الله أنزل دينا كاملا نقيا واضحا ميسرا تبيانا وبيانا: "ما فرطنا في الكتاب من شيء".

2- أراد الله للشريعة الخاتمة أن تكون مشروع بناء للفرد والمجتمع - دستور متكامل خالد إلى يوم القيامة، رسم فيها الغايات الكبرى وهي:
- عبادة الله وحده.
- تكريم الإنسان.
- عمارة الأرض.

3- مشروع بناء شامل:
اقتضت حكمة العليم الحكيم الخبير أن يرتكز المشروع الإسلامي على أسس ثلاثة وهي:
- المرتكز النصي.
- المرتكز العقلي.
- المرتكز الروحي.

هذه المرتكزات تعني أن التدين إذا قام على هذه الأسس فإن الدين سيبقى نقيا وستتحقق مصالح الإنسان دنيا وأخرى، وسيبقي الدين نقيا قادرا على العطاء المتجدد حتى يرث الله الأرض.

تفاوت أودية العقول:

حكمة الله اقتضت أن تتفاوت العقول وهذا التفاوت سينعكس على مجالات الحياة وفي طليعتها التدين، فهناك من يتعاطى مع النص فقط، وهناك من يتعاطى مع العقل فقط، وهناك من يتعاطى مع الروح فقط.

وتتعدد أنماط التدين وتتكاثر تحت كل مرتكز من المرتكزات الثلاثة للمشروع الإسلامي بحسب اختلاف الدوافع - طيبة، وضعفا، وأهواء، وصراعات، وتقليد مذهبي متعصب، إلى غير ذلك.

موقف التدين الزاكي:
1- المؤمن صاحب العقيدة السليمة يجب عليه أن يعتقد أن الإسلام واسع وكفيل باستيعاب أنماط التدين بشروط ضرورية لا بد منها.

2- التدين العملي:
- يجب على المؤمن في تدينه العملي أن يتساءل:
- إذا تمكنتُ من معرفة طريقة أفضل في التدين فهل يجب عليّ أن أطالب الآخرين بالتزام طريقتي في التدين؟

- اعتقادي أن الإسلام كفيل باستيعاب كل أنماط التدين هل يعني أن أترك الغير يمارس تدينه مهما اكتنفته الشوائب أو الانحرافات؟

- إذا ادعى الغير أنهم يعبدون الله قدر الاستطاعة، فما الذي يلزمني تجاه الغير؟

- قبل هذا وذاك، ما هي الأسباب التي خلقت أنماط التدين؟ هل الجهل والأمية؟ أم ضعف العقول؟ أم هو التمذهب؟ أم هي الأهواء؟

- ما الطريق المثلى في إصلاح التدين وتنقيته؟

الجواب إجمالا: بما أن حكمة الله قد اقتضت أن يكون التدين بقدر أودية العقول، أي تعدد أنماط التدين، فلا شك أن هناك شروطا لقبول هذه الأنماط من التدين أولا، ولكي لا يحصل احتكاك أو تنافر أو صراعات تقود المجتمع إلى الفساد والإفساد المهلك للحرث والنسل وإفساد للدين والدنيا معا من جهة ثانية. إذن، فما هي هذه الشروط؟

الشروط نوعان:
النوع الأول: شرط قبول التدين.
النوع الثاني: شرط تقديم النصيحة.

فإلى الشرط الأول.. شرط قبول التدين بأنماطه، يتمثل في النقاط التالية:
1- ألا يحتقر أو يسفّه أنماط التدين الأخرى.
2- ألا يدعي امتلاك الحقيقة.
3- ألا يعتبر أن تدينه هو الصواب الوحيد.
4- ألا يصل تدينه إلى استباحة دماء وأعراض وأموال الغير.
5- ألا يتسبب في إيصال أي نوع من أنواع الأذى إلى المخالف.

الشرط الثاني:
تقديم النصيحة، ويتضمن النقاط التالية:

1- المؤمن المتدين الزاكي عليه الإرشاد بالحسنى فإن لاقى استجابة فالحمد الله.

2- قبل تقديم النصح والإرشاد، يجب عليه النظر في الأسباب الكامنة وراء أنماط التدين، فإن كان الجهل فعليه الدعوة بالموعظة الحسنة.

3- إن كان السبب هو التمذهب المتعصب فعليه الإرشاد إلى الدليل الصحيح بالحكمة.

4- إن كان السبب هو شبهات فكرية فعليه الجدال بالتي هي أحسن مقرون بالصبر، وتقديم أفضل الطرق المنطقية والعلمية والمنهجية لإزالة اللبس الحاصل مقرونة بالحب والقسط والبر والإخاء.

5- ألا يعتقد أنه الأفضل علما وفقها وتدينا، أو أنه يمتلك الحقيقة كلها، سيما إذا كان السبب هو التمذهب الفقهي، ذلك أن لكل مذهب أدلته وإن التيسير مقصد شرعي.

6- ربط التدين بحكمته الشرعية.

7- التربية بالحدث: هذه طريقة ناجحة وتتعدد طرقها، بالقصة، بالحدث، بالنتائج المسيئة للغير بسبب التدين المتعصب أو الجاهل... إلخ.

8- ألا يندفع إلى العنف ولا يقابل عنف النمط المخالف بعنف مماثل وإنما هناك جهات قضائية واجتماعية يجب أن تقوم بواجبها.

نلتقي بعونه سبحانه مع الحلقة الرابعة بعنوان "القيم العقلية في القرآن".

كلمات دالّة

#اليمن