الجمعة 29-03-2024 17:00:03 م : 19 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

ملكة التجديد الفقهي وإشكالية العجز المكتسب (2-3) العجز المكتسب.. عوامله، نتائجه

الخميس 31 مارس - آذار 2022 الساعة 06 مساءً / الاصلاح نت-خاص | عبد العزيز العسالي

 


أولا، تذييل وخلاصة الحلقة الأولى:

خلود الرسالة يعني التجدد الأبدي.
وأعظم وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم تعليم الكتاب والحكمة، أي بناء فكر وفقه الصحابة من خلال ربط نصوص الشريعة بحكمتها وأهدافها المتمثلة في تحقيق مصالح الاجتماع.
وعى الصحابة تلك الوظيفة النبوية وأتقنوها فهما وتطبيقا في الأقاليم التي فتحوها بكل سهولة ويسر.

- الشافعي أول من بدأ في تأصيل الأصول في أواخر القرن الثاني الهجري، فكانت طريقته أسهل وأوضح.

ثم اتسعت عملية تأصيل الأصول اتساعا كبيرا في القرنين الرابع والخامس الهجريين بسبب الاضطرابات السياسية والفكرية.

- السياق الفكري والسياسي المضطرب في ذلك الواقع انعكس بقوة على عملية التأصيل استجابة لأسئلة ذلك الواقع المعقد، فاتسعت عملية التأصيل جدا وتعقدت، وهنا تم التأويل لمنهجية الصحابة والتابعين بما يتناسب مع عملية التأصيل. ولعبت السياسة دورا غير قليل في دعم التقليد المذهبي.
مع تفاقم اضطراب الواقع دخلت الأمة في منعطفات سياسية وثقافية خطيرة، فاتجه كبار الأصوليين إلى معالجة المستجدات، لكن وجدوا أن طريقتهم في التأصيل وتقليدهم في الأصول قد حاصرهم تأصيلا وتطبيقا.

- المنهج المقاصدي هو الحل: اتجه كبار الأصوليين إلى تفعيل المنهج المقاصدي وتطبيقه في معالجة مشاكل الواقع المعقد (الفقيه الجويني وتلميذه الغزالي نموذجا).
عودة الأصوليين إلى المنهج المقاصدي ناطقة قولا وعملا يعطينا أربعة مفاهيم علمية كبيرة وهي:

- أن المنهج المقاصدي هو الطريق الأمثل والأقوى في مواجهة الواقع المضطرب.

- أن الفقيه الأصولي إذا اضطرب الواقع فهو مطالب -ضرورة- أن ينطلق من فقه جلب المصالح أو تكميلها، أو دفع المفاسد أو تقليلها، وهذا هو المنهج المقاصدي.

- أن النصوص الجزئية يكون تطبيقها في واقع مستقر.

- أن التكامل قائم بين المنهجين المقاصدي الكلي، وبين النصوص الجزئية، ولكل منهما ميدانه، وهذا التأصيل المنهجي الرائع هو عمل الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث منع إقامة الحدود في أرض الحرب، وهو عمل الراشدين (عام الرمادة، قحط شديد) فاعتبر الفاروق الجوع مسقطا لحد السرقة، والأمثلة يطول شرحها.

ثانيا، عوامل العجز المكتسب:

التقليد المذهبي في الأصول: تكرس التقليد في الأصول بدخول القرن السادس الهجري بصورة أشد، فكانت الشتلة الأولى التي تولد عنها العجز المكتسب، وهذا العجز تغطى بمظلة حماية الدين والشرع والفقه.
- التبرك بقراءة كتب المذهب: الاتصال استمر بين العقل المقلد تبركا بالمذهب ورجالاته، متمدحا بفضائل إمام المذهب ورجالاته، مستندا إلى روايات مكذوبة خلقها التعصب تمجيدا لكل إمام مذهب على حده.
- إضفاء القدسية: وصل التعصب إلى إضفاء القدسية على الشروح الفقهية التابعة للمذهب، حيث يرويها إمام المذهب عن مشيخته عن... عن.... عن... الصحابة... عن الرسول صلى الله عليه وسلم... عن جبريل... عن الله.

الكحّال صانع العمى:

الكحّال هو طبيب العيون، والمقصود هنا أن بعض الفقهاء حاولوا تخفيف التعصب الأعمى بين المذاهب، فجاء الكحل مكرسا للعماية الفكرية، ومخالفا للمبدأ الأصولي الشرعي المتفق عليه بلا نزاع.. يقول الكحال إنه رأى رسول الله في المنام فسأله عن المذاهب الأربعة وأصولها وشروحها عبر القرون، فأجاب الرسول صلى الله عليه وسلم إنهم أخذوها عنه كلها.

سيف الإجماع:
استخدام سيف إجماع الأمة (انتبه: إجماع الأمة وليس فقهاء المذهب، بل ولا المذاهب الأربعة رغم اختلافهم)، فيفاجئنا فقيه مشهور، لكنه متعصب لمذهبه، فيقول: أجمعت الأمة على 20 ألف مسألة داخل مذهبه أنه لا يجوز خلافها.. يا إلهي.
بالمقابل، نجد فقيها معاصرا لذلك الفقيه فيقول: لا يوجد إجماع من الأمة إلا على 13 مسألة هي أركان الإسلام الخمسة، وأركان الإيمان الستة، والعقوبات الشرعية، والقيم الخلقية = 13 مسألة.. الفارق بين الرقمين فضيع حد الجنون.

الضيق بإعمال النظر:
التقليد إلغاء للعقل وإنكار لأعظم نعم الله، بل نستطيع القول جازمين إن الإنسان هو العقل والتفكير، لكن التقليد والتعصب والتبرك خلق التقديس للمذهب وأتباعه.. إذن هيهات أن يفقه المتعصب تلك السياقات السياسية والفكرية التي رافقت أعمال تأصيل أصول الفقه.

ومن الملاحظ أن المقلد المتعصب يضيق ذرعا إذا وقف على فتوى لفقيه من رجال المذهب جاءت لمعالجة مشكلة، فتراه يختلق المغالطات ويستغفر، معتبرا تلك الفتوى أسرارا يقذفها الله في قلوب بعض الرجال ولا يجوز لنا البحث، فالمشهور المعمول به المقدس والملزم لنا.

قواعد للزينة:
من جهة ثانية تجد الفقيه المقلد يقرأ في كتب الأصول ولكن ليس للفهم والتطبيق، وإنما من باب العلم فقط أن هناك شيئا اسمه قواعد وأصول.

النص مظلة إفهام:
هذه هي القاصمة، اعتبار النص الشرعي مظلة إفهام، وقول المذهب مقدم على النص الصحيح الصريح الخالي من المعارضة، والأمثلة كثيرة جدا، وإليك هذه الكتلة المفزعة بلا دليل، لقد بلغ عدد المفطرات 63 نوعا، ومن تلك المفطرات أنك إذا سمعت المؤذن وأنت تتسحر فارم اللقمة من فمك واغسل فمك، كيف؟ والقرآن ينص صراحة: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر".

ومن المفطرات، مثال: لو أن طلقة أو شظية أو سكينا اخترقت بطن الصائم فقد أفطر، لا لأنه مريض، ولكن الشظية دخلت البطن، والقائمة طويلة في كل مجالات الفقه.

باختصار، التقليد المذهبي في الأصول هو العامل المحوري الأول الذي أفقد العقل الفقهي ملكته الفقهية ورماه في هوة العجز المكتسب باسم الدين والشريعة.

ثالثا، نتائج العجز المكتسب:

لا شك ولا ريب أن النتائج أكثر وأقسى مرارة على الرسالة الخاتمة الكاملة، وسنشير إلى أخطر النتائج.

1- غياب حكم التشريع: وسنضرب مثالا واضحا لحكمة التشريع كما نص عليها القرآن وعلى أمثالها قرابة 1000 مرة.. حكمة تحريم الربا نموذجا.. قال تعالى: "فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون".

إذن حكمة التشريع في تحريم الربا هي الظلم، لكن التقليد المذهبي أغفل هذا التشريع الواضح، واتجه نحو التلغيز قائلا إن تحريم الربا في الطعام هو المذاق الطعمي، وقال مذهب آخر هو الكيل، وقال آخر هو الوزن.. طيب وماذا عن الأشياء التي بلا طعم ولا وزن ولا كيل؟ لم يقل الفقه المذهبي شيئا.

- وظيفة الدولة:
الحكومة، أو السلطة، هي وكيلة عن المجتمع الذي يختارها لخدمته وتوفير مصلحته، ووضعت الشريعة قيودا صارمة على السلطة حتى لا تظلم الشعب، فجاء التقليد المذهبي ليحصن الطغيان ويدفن كرامة الشعوب ويعتبر وجود السلطة غاية بذاته، وهي بيضة الإسلام.

- القرآن شرع المساواة والسنة وضحت ذلك فخرج إلينا التعصب السلالي العنصري بروايات مكذوبة تكرس العنصرية والتسيد الإبليسي الفرعوني، ولم يكتف بالكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن أضاف قواعد أصولية تخدم الفكرة وكذب السلالية بامتياز، ومن هذه القواعد:
- القرآن حمال أوجه.
- السنة قاضية على القرآن.
- القرآن أحوج إلى السنة.
- لا قياس مع النص.
- ولا اجتهاد مع النص.

إذن القرآن لا يصلح دليلا وإنما السنة المكذوبة تتحكم بتدجين الأمة وبطحها للظالم المقدس.. والأمثلة كثيرة.

2- انفصال بين التشريع والواقع: هذه نتيجة طبيعية لغياب حكمة التشريع جاءت تكرس العجز المكتسب، وعلى المسلم الاتباع وترك الابتداع.

3- خذلان السنن الحاكمة للاجتماع: الله شرع سننا في النفس والاجتماع تحول دون وقوع الظلم والإفساد المهلك للحرث والنسل (قاعدة الشورى نموذجا).

لكن أنّى للعقل المقلد أن يخرج من وهدته وغيبوبته الحضارية؟ فالأخذ بالسنن الحاكمة بدعة والتعاطي مع الأسباب شرك وعلمنة.. عجيب.. كيف ذلك، والقرآن زاخر بالسنن والأسباب وقانون التسخير الذي أراده الله واختاره للأمة؟

الجواب: النص مظلة إفهام، والتقليد هو الحل.

4- رفض فقه المصالح: التقليد المذهبي منكوس، فالسنة عنده بدعة والبدعة سنة.. رفض فقه المصالح وخدمة الأمة بدعة مخالفة للدين، فالحرية والمساواة والعدل والمواطنة المتساوية وحماية الهوية من التجريف السلالي الإجرامي العنصري وحماية حقوق الإنسان كل ذلك بدعة لا يقبل الله معها صرفا ولا عدلا وصاحبها لا يرفع إيمانه قيد شبر.

5- كبرى القواصم: التقليد القاتل فتح الباب للعلمانية لاتهام الشريعة الخالدة بالعجز والقصور، وهذه أم الكوارث بلا نزاع، وصدق الشاعر إذ قال:
ما يبلغ الأعداء من جاهل
ما يبلغ الجاهل من نفسه.

6- القاصمة الأسوأ: كسر باب الشريعة كسرا خطيرا بيد العلمنة الملتاثة.

الجدير ذكره هو أن كاتب هذه السطور حذر العقلية الفقهية المقلدة -حرفيا- أنه ما لم يتم فتح باب الشريعة بالمفتاح الرباني النبوي فإن باب الشريعة سيتم تكسيره من العلمانية الحداثية المائعة المتربصة.

7- تقزيم المنهج المقاصدي: هذه النتيجة القاتلة ترتيبها بين النتائج رقم (2)، لكننا تعمدنا تأخيرها لهدف فني فكري يتعلق بالحلقة الثالثة والأخيرة، كون المنهج المقاصدي هو المفتاح لمعالجة العجز المكتسب، وهذا هو موضوع الحلقة الثالثة.. نلتقي بعون الله.

كلمات دالّة

#اليمن