الخميس 25-04-2024 02:50:10 ص : 16 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

غايات القرآن.. صلاح الإنسان وإقامة العمران (الحلقة 3) منظومة مقاصد القرآن.. قراءة سننية

الأربعاء 26 يناير-كانون الثاني 2022 الساعة 05 مساءً / الإصلاح نت-خاص-عبد العزيز العسالي

 


أولا، مقدمة ضرورية:
قبس من الذكر الحكيم:
قال الله تعالى:
1- "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين" (البقرة: 2).

2- "أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا • وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لا تبعتم الشيطان إلا قليلا" (النساء 82-83).

3- "إنّا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا" (سورة الجن: 1).

4- "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا" (الإسراء: 9).

5- "وبالحق أنزلناه وبالحق نزل" (الإسراء: 105).

6- "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين" (النحل: 89).

نحن أمام ستة نصوص صادرة عن العليم الحكيم الخبير، تضمنت قرارات خبرية جازمة لا تقبل الجدل، لأن الله قال عن نفسه: "ومن أصدق من الله قيلا".

إنها نصوص تفتح نافذة للعقل السليم ليقدّم عدة تساؤلات متتالية منطقية فقط حول النص القائل: "تبيانا لكل شيء".

نوجز الأسئلة على النحو التالي:
إننا أمام نص محكم قطعي الدلالة أي يحتمل معنىً واحداً لا غير.
إذن، هذا النص وغيره يقرر بقوة أن القرآن تضمن كل ما يصلح الإنسان دنيا وأخرى.
هل القرآن رسم طريقة منهجية يمكننا من خلالها الوصول إلى فهم النص القائل "تبيانا لكل شيء"؟
لا شك أن القرآن أرسى منهجية معرفية للفهم والفقه، فما هي المنهجية المعرفية وأين نجدها؟
هل الذي أنزل القرآن أراد العقل البشري أن يسهم بالتدبر امتثالا للنصوص الآمرة بالتدبر، "أفلا يتدبرون القرآن..."، "كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته"؟

إذن، القرآن يقدم تعليلا قطعيا أن تدبر القرآن يعتبر بحد ذاته غاية قرآنية، وهذه الغاية بحد ذاتها واحدة من منظومة مقاصد القرآن التي ترشد للعقول نحو اكتشاف معايير الصلاح الإنساني وإقامة العمران.

إذن، العقل البشري أصبح وسيلة ضرورية لمعرفة منظومة غايات القرآن ومقاصده أولا، وبحاجة إلى اصطحاب القرآن ومسامرته ثانيا، والتزاما بالأمر: "ليدّبروا" ثالثا، ورفضا للحالة الحمارية رابعا، والرفض للحالة الحمارية يعزز تكريم الإنسان خامسا، ويحرم التقليد لأي قول إلا بقدر صلة ذلك القول بغايات القرآن ومقاصده، ذلك أن العقل أعظم وأجل نعم الله التكريمية للإنسان، والحفاظ على العقل مقصد قرآني، أي أن حفظ العقل يكون بتحريره من التبعية ومن اتباع الظنون والأوهام والأهواء والخرافات والدجل والشعوذات، لأن إصلاح الإنسان وقيام العمران ونهوض الأمم العظيمة لا يقوم بغير العلم والبرهان.

إذن، من المقطوع به -دينا وعقلا ومنطقا- أن القرآن قد رسم منهجية معرفية فأين هي؟ وما هي؟

الجواب:
- قال الله تعالى:
- "كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم عليم" (هود: 2).
- "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات" (آل عمران: 8).
- "كتاب فصلت آياته" (سورة فصّلت).
- "وكل شيء فصلناه تفصيلا" (الإسراء).

إذن المنهجية المعرفية رسمها القرآن في طريقتين: الطريقة الأولى، تفصيل للمحكمات في ميدان الثوابت: عقيدة، قيم، أسرة معاملات. والطريقة الثانية، كليات مجملة في ميدان المتغيرات.. كليات في غاية المرونة كفيلة باستيعاب كل مستجدات الحياة.. كليات ترتكز على ركنين وغاية محورية.

فالركنان هما تحقيق المصلحة والعدل للإنسان دنيا وأخرى، وأما الغاية المحورية فهي كرامة الإنسان وتحقيق مصلحته دنيا وأخرى بالنسبة للمسلم، أما غير المسلم فمن حقه الحصول على مصلحته الدنيوية بشرط كلّي هو: عدم الإضرار بالغير بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

ثانيا، العقل الفقهي.. تيه وتكبيل:

الناس رجلان: رجل نام في الضوء، ورجل استيقظ في الظلام. (جبران خليل جبران).

هذا المثل ينطبق على العقل الفقهي تماما.. قبيل أيام قلائل وصلني كتاب إلكتروني بعنوان "رسالة القرآن"، هكذا عنوان مجرد، إنه مبتدأ بلا خبر.

- الكتاب قام بإعداده قرابة 20 باحثا وكاتبا وربما أكثر، وقد طبع على نفقة زعيم عربي، وقدم له وزير أوقاف تلك الدولة النفطية.
- حجم الكتاب يزيد على 600 صفحة من القطع الكبير.
- تلقيت الكتاب بلهفة وعكفت عليه 8 ساعات، متجاهلا العنوان على اعتبار أن المضمون هو الأهم، فخرجت بالخلاصة التالية:

- ثلاثة بحوث حامت نسبيا حول العنوان ولم تقترب، وبقية البحوث تاهت مكبلة بصراعات قديمة أضاعت التدبر وعكست عقليات فقيرة في غاية الضمور بعيدة كل البعد عن منهجية القرآن، فتساءلت قائلا: لو قُدر لهذا الكتاب أن يقع في يد باحث عن "رسالة القرآن" وقضيته المحورية ورسالته في الحياة فلن يجد سوى هزال نظري وتيه يكرس مزيدا من الشتات والضياع، عدا سطور قليلة حوّمت بعيدا ولم تقترب من الهدف.

باختصار:
- لا يوجد هدف أو دافع أو مشكلة محورية جاء الكتاب ليعالجها.
- بحوث الكتاب لا تحمل هوية العنوان لا من قريب ولا من بعيد، رغم تحفظنا الكبير على العنوان.
- ترسخت قناعتي أكثر وأكثر أن العقل والفكر الفقهي -أغلبه- لا زال مكبلا يعيش تيها خارج المنهجية إلى حد أنه لم يشم رائحة نصوص:
- "يهدي للتي هي أقوم".
- "تبيانا لكل شيء".
فأنى لهذا العقل الفقهي أن يستنبط قواعد حاكمة لسنن الاجتماع؟

ثالثا، المنظومة السننية لمقاصد القرآن:
- عرفنا في الحلقتين السابقتين أن غايات القرآن تمحورت حول غايتين هما الصلاح الإنساني وإقامة العمران.

- قررنا أن غاية توحيد الله والتزام التشريع وعمران الأرض كلها متمحورة في شخصية الإنسان.

- إذن محورية غايات القرآن هي كرامة الإنسان وصلاحه ومصلحته.

رابعا، المنظومة السننية لمقاصد القرآن:
1- منهجية القراءتين:
- يقرر القرآن مقاصده السننية في محورين.
- تدبر آيات الكتاب المسطور، أي القرآن.
- التفكر في الكتاب المنظور، أي الكون.

2- منظومة مقاصد القرآن هي سنن حاكمة للاجتماع:
عند النظر في منظومة مقاصد القرآن وكلياته سنجد أنها:
- سنن حامية للإنسان.
- حافظة للاجتماع الإنساني من السقوط والانحطاط الحضاري.

- التزكيه النفسية (ويزكيهم...):

للتزكيه مقاصد سننية تهذب الإنسان وتصلحه من زاويتين: الزاوية الأولى، الارتقاء الروحي - مصلحة أخروية ودنيوية في آن. الزاوية الثانية، تحجز الإنسان الفساد والإفساد.

- الدخول في السلم:
الدخول في السلم والسلام إحدى المقاصد السننية للقرآن، وهذا يعني أن:
- المسلم وغير المسلم مكلفان بالدفاع عن القيم الحامية لسنن الاجتماع: التزام أمام حقوق الغير، وعدم الإضرار بالغير بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

- يجب ضرورة على المسلم وغير المسلم التمسك والالتزام بأخلاق العلم، مثلا، لا يجوز لأي كان باسم العلم أن يصنع ما يفسد البيئة إلا إذا كان هناك ضررا أكبر سيلحق بالإنسان فيقرر العلماء المتخصصون دفع المفسدة الكبرى.

- العلم والبحث العلمي:
العلم هو العمود الفقري لجميع المقاصد السننية في القرآن، فالعلم أساس قيام الأمم العظيمة.

- مبدأ التسخير:
هذا المبدأ الكوني أجزم أن العقل المسلم عموما لم ينطلق في هذا الميدان إلا بنسبة 1% متمثلا في استهلاك آليات ومنتجات الآخر.

- أبعاد التسخير:
"وسخر لكم ما في السموات والأرض".

يرتبط مبدأ التسخير بعدة أبعاد كلها سنن الله الحامية للاجتماع الإنساني وقيام العمران.

- سنن التسخير هي أمر الله:
سنن الله التي سخرها في النفس والكون والاجتماع هي أمر الله الكوني وقضاؤه المقدس الواجب الالتزام.

- عقوبة إهمال المقاصد السننية:
عقوبة الذنوب الشخصية بين الله والعبد مؤجلة، بخلاف ارتكاب ذنب مخالفة السنن الكونية فعقوبتها سريعة: الحرب الطاحنة في اليمن نموذج تدميري مرعب.. أساس هذه الحرب ناتج عن إهمال السنن الحاكمة للاجتماع من الشعب والحزب والجيش والزعيم والمثقف والفقيه.. الكل أهمل النظر في العواقب وها هو الشعب يتجرع الويلات بسبب الصمت عن السلالية العنصرية والفجور والطغيان السياسي.

إنها سنة الله في الفساد والمفسدين والإجرام والمجرمين والظلم والظالمين، "ولن تجد لسنة الله تحويلا، ولن تجد لسنة الله تبديلا".

- مقاصد التزكية:
كم خطب الخطباء وكم وعظ الواعظون، لكن هل سمعنا يوما مّا فقيها أو مثقفا وغيرهم يربط قيمة التزكية بمقاصد حماية سنن العمران؟

وليس أخيرا، الحل ليس صعبا أبدا بل أبسط وأبسط.. فقط نريد أن نوصل للمجتمع مفاهيم سنية تربط غايات القرآن ومقاصده السننية ومقاصد التزكية الخلقية بمآلاتها وحكمتها وتجلية المخاطر العاجلة والمترتبة، موضحين أن الله أمر بإيضاح تلك المقاصد والسنن للمجتمع، وما لم يفهم المجتمع هذه المقاصد والغايات والنتائج فالتدين سيزج بالمتدين إلى عالم الحالة الحمارية، "كمثل الحمار يحمل أسفارا"، ويصبح الدين طقوسا مملة لا تصنع حياة ولا تحمي إنسانا.

نلتقي بعونه سبحانه مع "الحلقة الرابعة": إضاءة على جانب من سنن التسخير.