الثلاثاء 19-03-2024 13:10:45 م : 9 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

غايات القرآن.. صلاح الإنسان وإقامة العمران (الحلقة 2) الغايات العامة للقرآن

الخميس 20 يناير-كانون الثاني 2022 الساعة 04 مساءً / الإصلاح نت-خاص-عبد العزيز العسالي
  

 

مستهل..
كارثة العطب الفكري:

خلال قرن ونصف القرن، والنخبة العربية والإسلامية -بشقيها المحافظ والمتغرب- تدعو إلى التجديد الفكري والثقافي، بغض النظر عن الدوافع والخلفيات والمنطلقات والوسائل والأهداف.

وهذا يعني أن النخبة بشقيها شعرت بتوقف فاعلية الحياة فانطلقت منادية بالتجديد الفكري والفقهي، غير أن الانبهار بالوافد كان قد سيطر على عقلية النخبة الليبرالية واليسار، إلى جانب قطاع واسع من المجتمع، فاحتدم الصراع وتباينت ردود الأفعال الحجاجية التي لم ولن تحل مشكلة، وإنما تكرست ضبابية فكرية نتج عنها مرض أخطر هو غياب النقد المنهجي -التشخيص الصحيح والعميق لجذور الأزمة الضاربة- فلسفيا ومفاهيميا ونفسيا، ولما غاب التشخيص الصحيح قدمت النخبة -بشقيها المحافظ والمتغرب- معالجات قاصرة عديمة الفاعلية.

وبطبيعة الحال فإن الخطاب الليبرالي واليساري والعلماني ظل في إطار النخبة ترفا عقليا، فقد كان المجتمع العربي والإسلامي يميل إلى نخبة الخطاب الديني كونه يلامس فطرة المجتمع وهويته وتاريخه وحضارته، ولكن الخطاب الديني الأخلاقي فشل في ترسيخ القيم الخُلقية والاجتماعية والوطنية، وعليه فإن فشله في مجال التجديد من باب أولى.

والسبب الكامن وراء فشل الخطاب الديني يعود إلى غياب المدرسة الفكرية، فانطلقت المعالجات بلا أساس فكري يشخص أسس الأزمة ويحدد جذورها ومصدرها الحقيقي السنني والتحديات.

وهذا يعني أن المعالجات كانت غير متفاعلة مع حركة سنن التاريخ، والتي قال الله عنها: "ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا". وقال سبحانه: "فاعتبروا يا أولي الأبصار"ً.. أي استثمروا التاريخ استبصارا، واستثمارا، واعتبارا، ورسم معالم المسار، أي لا مفر من التجديد الفعال.

الخلاصة هي استمرار الجدل والصراع اللفظي والشكلي بين فريقي النخبة، والغريب حقا أن شخصيات ليبرالية ويسارية من العيار الثقيل عادت نحو الذات مصرحةً أن في التراث الفكري العربي الإسلامي منهجية جديرة باستئناف مسيرة النهوض الإنساني والحضاري، ولكنها لم تقدم شيئا يلامس الوجع، أو أنها قدمت شيئا لكنه بعيد، وبعض الشخصيات طالتها عدوى الخطاب الديني التقليدي.

قصة النفخ في اليراعة:

خلاصة القصة -مع فارق التشبيه طبعا- أن مجموعة قردة في أدغال أفريقيا خرجت تخوض وسط الثلج والأمطار الغزيرة والرياح الباردة باحثة عن جذوة نار لتشعل منها أعواد الحطب بهدف التدفئة، فصادفت يراعة (ذبابة فسفورية تضيء في الظلام)، فتدافعت القرود خلفها حتى قبضوا عليها فجمعوا القش المبلل، وانطلقوا ينفخون في اليراعة مدة طويلة دون جدوى، فأقبل طائر شبيه بالببغاء لكنه لا يتكلم تقليدا كالببغاء، فنادى القرود ناصحا: هذه حشرة لا تشتعل ولا تتعبوا أنفسكم.

النفخ مستمر، ولمدة أطول، فأقبل أحد رجالات الكنيسة غاطسا في ثياب الصوف وبيادات يخوض بها في الثلج، فالتفت إلى الطائر وقال له: لا تتعب نفسك هؤلاء لا يفهمون... أنصحك لا تتعب نفسك.

رد الطائر: التعب ما هم فيه. واستمر ناصحا، فانصرف البابا لسبيله، غير أن الطائر اعتلى شجرة وظل ينصح.

وعند انبلاج الفجر رفعت القرود أبصارها فرأت الطائر فتسلقت الشجرة وقبضت على الطائر ونزلت إلى الأرض وشجت رأسه ومضت تنفخ.

فالقش المبلل، والثلوج والرياح الباردة، والمستنقعات، والذبابة، فأنى للقرود أن تفهم طبيعة الحياة حولها؟

النتيجة: التكفير والتضليل وأحيانا القتل لمن ينادي بـ"أعيدوا النظر في المنهج السنني المتفاعل مع حركة سنن التاريخ".

وظل الوعظ الباهت لا يقدم ولا يؤخر، بل فشل في ترسيخ القيم وتحويلها إلى برامج وآليات تصنع الحياة، بل لا نبالغ إذا قلنا إن الخطاب الوعظي لم يتساءل أمام المجتمع تساؤلا تقريريا مفاده: لماذا كان تدخل السماء عبر التاريخ في شؤون الأرض؟

هذا سؤال صغير، لكن الإجابة عليه كبيرة وواسعة، غير أننا سنعمل على إمالة الشراع قليلا، أي تعديل صيغة السؤال بصورة أكثر وضوحا، وبالتالي وضوح المعالجة المنهجية انطلاقا من معارف الوحي، وذلك على النحو التالي: ما هي غايات القرآن؟ ما الفرق بين غايات القرآن ومقاصده؟

الجواب: أولا، غايات القرآن هي التي حددتها نصوص ومعارف الوحي بطرق عدّة أبرزها:
1- أن يأتي النص معللا بلام التعليل المحدد للغاية من الفعل الرباني صورة واضحة، مثل قوله تعالى: "ليقوم الناس بالقسط"، أي أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان لـ"يقوم الناس بالقسط".

إذن الغاية من تدخل السماء في شؤون الأرض هي إقامة المجتمعات بالقسط، أي البر والعدل المقرون بالحب والتواضع.

2- التعليل بالصيغة الخبرية:
والمثال قوله تعالى: "هو الذي أنشاكم من الأرض واستعمركم فيها".
هذه جملة خبرية قررت بوضوح الغاية من اختيار الخالق للإنسان أن يسكن الأرض، أن الغاية هي العمران وفق منهج الله كما سنوضح لاحقا، وعليه نقول إن القرآن حدد غايتين اثنتين من خلق الثقلين وهما:
أ- عبادة الله وحده لا شريك له، قال تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، فالتعليل واضح أن غاية خلق الثقلين هي عبادة الله وتوحيده وفق معارف الوحي المقدس التي حددها سبحانه.

ب - عمارة الأرض: هذه الغاية متعلقة بالإنسان.. نعم المخلوق الوحيد المكلف بعمارة الأرض هو الإنسان فلماذا الإنسان؟

ج- لأن الإنسان:
- أقوى من الجن ومن الملائكة.
- لأن الإنسان حمل الأمانة (الفطرة) المقترنة بالتكليف بين: افعل، لا تفعل.
- لأن الإنسان مؤهّل للعمران مزود بآليات لا تملكها الملائكة ولا الجن ولا غيرهم، ذلك أن الملائكة مسخرون ولم يخلقهم الله لغير تلك الخدمة التسخيرية، وكذلك الجن خلق الله فيهم قدرات وإمكانات خارقة تغنيهم عن التفكير، بخلاف الإنسان هو في جسده ضعيف لكنه بعقله وتفكيره وإبداعاته يفوق الجن والملائكة، ولهذا قال تعالى ردا على تساؤل الملائكة قائلا: "إني أعلم ما لا تعلمون".
مثال من الواقع فقط، هو "خط الحرير" بين الصين وباكستان، من يتأمل فيه لا يتمالك إلا أن يقول: سبحانك يا من اخترت الإنسان لعمارة الأرض، حقا أنت الذي أحطت بكل شيء علما.

3- كرامة الإنسان:
كرامة الإنسان غاية، ومقصد، ووسيلة في آن، هكذا اقتضت حكمة الله تكريم الإنسان، كونه محور التكليف بالعبادة والعمارة والتزكية.

4- مفهوم التجديد وانطلاقة المنهج:
عرفنا أعلاه أن القرآن حدد غايتين لخلق الإنسان هما العبادة وعمارة الأرض، والغاية الثالثة هي كرامة الإنسان، ذلك أن غايتي العبادة والعمران تستلزمان غاية ثالثة هي أن يكون الإنسان مكرما مؤهلا بالعلم، والعقل، والحرية، والإرادة، والاختيار، والتفكير، تأهيلا مشروطا باتباع منهج الله وهداه في التزكية الذاتية وعمارة الأرض بما يتفق مع سنن الله دون عبث أو إفساد، قال تعالى: "فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى" دنيا وأخرى.

من جهة أخرى، اقتضت حكمة الله أن يكون التزام الإنسان بالعبادة اختياريا بعد قيام الحجة عليه، لكن التزام منهج الله في سننه الكونية عند عمارة الأرض شرط ملزم قطعا لاعتبارين، الاعتبار الأول هو أن عمارة الأرض لن تنقاد للإنسان إلا إذا تعاطى مع السنن التسخيرية بطريقة صحيحة.

الاعتبار الثاني، التزام منهج الله في التعاطي مع السنن التي سخرها الله حتى لا يحصل إفساد لسنن التسخير، فالله قدر الأرزاق في الأرض عبر سنن التسخير لكي يستفيد منها الإنسان حتى يرث الله الأرض، قال تعالى: "وقدّر فيها أقواتها". وخاطب الإنسان بنهي صريح قائلا: "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ولا تعثوا في الأرض مفسدين".
من جهة أخرى أن التزام عبادة الله هو خير للإنسان، وما لم يلتزم فإن الضرر سيكون عليه دون سواه بخلاف عدم التزام المنهج السنني الرباني في عمارة الأرض فهو إفساد للحياة - إضرار بالإنسان والحيوان والكون.

الخلاصة:
- القرآن حدد غايتين من خلق الإنسان هما العبادة وعمارة الأرض.
- كرامة الإنسان هي الغاية الثالثة، كون الإنسان محور التكليف عبادة وعمرانا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالتكريم للإنسان هو تأهيل بآليات تتناسب مع مهمة الأمانة العظمى التى اضطلع بها الإنسان.

ثانيا، مقاصد القرآن:
ملحوظة هامة:
هذا التقسيم الهدف منه تفكيك وتقريب الفكرة وتوصيلها إلى ذهن القارئ - هدف تعليمي، لكن إذا اتضحت الفكرة لدى القارئ فإنه لا فرق بين الغايات والمقاصد الكلية والجزئية، فكلها تكاليف ملزمة وتزداد درجة الإلزام بقدر ما يعود على الإنسانية من مصالح دنيا وأخرى، وعليه، ما هي مقاصد القرآن؟

الجواب:
- الرحمة هي المقصد الرسالي العام. قال تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".

انتبه أخي القارئ: للعالمين، ليس للمسلمين، ليس لسلالة، ليس للإنسان فقط، للعالمين جن وأنس وحيوان، وكون.. تباركت وتعاليت يا رحمن يا رؤوف يا رحيم.

- الرحمة بالمفهوم الآنف هي غاية عامة لكنها مقصد ووسيلة وتزكية وتهذيب لغرائز الإنسان، إذ بدون خلق الرحمة فالإنسان سباع، أسوأ من ضبع أو من كلب عقور.

- ولأن اللغة مهما كانت إعجازية، فإنها عاجزة عن تناول جميع المعاني تحت مفردة، ولهذا السبب ما جاءت اللغة العربية بالترادف وإنما بالتكامل، ولهذا نجد أن مقصد الرحمة قد تبلور من خلال معارف الوحي في تجليات مختلفة كلها لأجل الإنسان المكرم - تجليات دينية ودنيوية، وسنوجز ذلك في أمثلة سريعة كالتالي:
- سبل السلام. قال تعالى: "قد جاءكم من الله نور وبرهان مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم".

سبل السلام النفسي والعقلي والوجدان والمشاعر، سلام التفكير، سلام ينقذ من الحيرة والضلال والشتات وظلمة الشك والشبهات، سلام مع الله، مع الذات ومع الآخر أيا كان، سلام مع الكون، وهنا تتحقق الرحمة للعالمين.

- تعليم الحكمة:
هذه صورة من صور الرحمة والكرامة للإنسان، اقتضت حكمته سبحانه أن تكون وظيفة الرسل هي تزكية المجتمعات وتعليمها التلاوة والأحكام والحكمة.

وقد تكررت هذه الوظيفة الرسالية كثيرا في القرآن العظيم، لكن عند سياق الكلام عن خاتم الرسل تكرر هذا المقصد الرسالي الوظيفي خمس مرات حرفيا وتكرر في صيغ أخرى.

- إذا أمعنّا النظر في معنى الحكمة سنجد أن معنى الحكمة وفلسفتها يعني ربط الأحكام الشرعية بمآلاتها ونتائجها دنيا وأخرى.

أما إذا كان التعبد هكذا دون النظر في المقصد والغاية ستكون العبادة كحركة الآلات في المصنع، حركة أعضاء لا يستفيد منها العقل ولا يتزكى فيها الوجدان.

- التيسير ورفع الحرج:
هذا معلم آخر يتعلق بنفسية الإنسان المكرم، فالله لا يكلف بما لا يطاق.

- تهذيب للغرائز:
تهذيب للغرائز، لا للقمع أو الكبت. إن مقاصد التزكية الخلقية إذا التزمها الإنسان عن وعي بمقاصدها وحكمتها سيجد أنه قد جمع بين المثال والواقع.

- تشريع مقدس يحمي الإنسان المكرم المقدس: من مظاهر رحمة الله تنزيل تشريع معصوم مقدس خالد متجدد يحمي الإنسان عموما والضعفاء: النساء، واليتامى، والمرضى، والجرحى، وما شابه ذلك.

هذا التشريع جاء تكليفا للمجتمع كي يقوم للنساء ولليتامى بالقسط، وكذلك الحكام ألزمهم بإقامة العدل.

وصدق الله وهو أصدق القائلين: "فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى".

-إباحة الطيبات وتحريم الخبائث: هذه كلها من مظاهر الرحمة والقائمة طويلة.

إذن، سبل السلام، الحكمة، التيسير، رفع الحرج، إباحة الطيبات، تعليم العلم، القراءة الحرفية والكونية... إلخ، كلها تتظافر مع بقية تعاليم القرآن، كلها منبثقة عن غاية الرحمة.

- التعارف: قال تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا".

أستطيع القول جازما إن مصطلح التعارف مصطلح مكثف يتجاوز المصطلحات الوضعية، كالتسامح والتعايش والقبول بالآخر، ذلك أن التعارف له صلة بالفطرة أي العرف السليم، "وأمر بالعرف"، كما أن له صلة بالمعروف وهذا مصطلح قادم من الوحي المقدس.

ثالثا، عود على بدء:
قرن ونصف القرن أضعناه في فذلكات ومماحكات وصراعات وحجاجات ولم تقدم رؤية منهجية تجديدية ترضي الله وتصلح ديننا ودنيانا ونسهم بها في إنقاذ الآخر الذي يعيش جحيم الحضارة المادية التي فككت الإنسان ودمرته.
حضارة فصلت الإنسان عن مصدر روحه العلوي، وجعلته يعيش حياة أفقية منفصلا عن الحياة العمودية المتصلة بالسماء.

فيا أيها الأكاديميون ويا أيها الفقهاء والوعاظ والمفكرون، أنتم مطالبون شرعا وتكليفا وتدينا وفلسفة واجتماعا، مطالبون بإعمال الفكر وتحريره والنظر في جذور مشكلاتنا وتحدياتها والسير وفق سنن تحولات التاريخ ووضع الحلول من غايات القرآن ومقاصده، وصدق الله القائل: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر".

نلتقي بعونه سبحانه مع مقاصد القرآن السننية..