الجمعة 29-03-2024 04:47:19 ص : 19 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

قيم الديمقراطية في المنظور الإسلامي.. رؤية مقاصدية

الخميس 23 ديسمبر-كانون الأول 2021 الساعة 08 مساءً / الإصلاح نت- خاص-عبد العزيز العسالي
 

 


أولا، مصطلح الديمقراطية وافد على الثقافة العربية الإسلامية، وقد كثر الجدل حول الديمقراطية (مع أو ضد)، وأسباب الجدل في نظري تعود إلى ضبابية مفهوم الديمقراطية ثقافيا وفكريا التي يعيشها المثقف العربي عموما سواء كان يساريا أو ليبراليا أو إسلاميا.

ثانيا، التقليد أساس المحنة:

ضبابية مفهوم الديمقراطية يعود في حقيقة الأمر إلى وضعية ثقافية وفكرية يعيشها العقل العربي خلقت أزمة عميقة اتصلت بمناهج التغيير الوافد والموروث.

وبعد إمعان النظر في أزمة مناهج التغيير العربية وأسباب الإخفاق وجدنا أن أزمة مناهج التغيير العربي هي أزمة ثقافية بامتياز، هي "ثقافة التقليد".

إذن، نحن أمام محنة التقليد للمنهج الوافد من الغرب والتقليد للموروث في تراثنا الإسلامي.

وهذا يعني أن العقل المستهلك لثقافة الغير هيهات أن يبدع في تقديم حلول ذات فاعلية، كونه سلّم عقله للغير وعاش بلا عقل.

وكلما استجدت مشكلة يتجه العقل المحافظ إلى استفتاء موتى القرون الغابرة، ومثله العقل المستهلك للوافد يذهب مستفتيا ثقافة بعيدة عن ثقافته جملة وتفصيلا.

العقل المقلد ينقل دون وعي بملابسات نشأة المصطلح فلا يعي أن المصطلح مشحون بمضامين ثقافية واجتماعية وفكرية وسياسية مختلفة.. مضامين فرضها سياق زماني ومكاني وثقافي مختلف تماما عن السياق الذي يعيشه العقل المقلد.

إذن، الجدل والصراع الفكري والحجاج المنغمس في وحل المفردات هو سيد الموقف، وسيظل الجدل حول جزئيات عمياء عاجزا عن تقدم أي حل، كونه أخذ وصفات علاج دون وعي بنوع العلاج الجوهري ونوع العلاج الثانوي، وهنا تصطدم مناهج التغيير بثقافة الممانعة والرفض، والنتيجة إخفاق ورمي الفشل على الآخر المتخلف أو المتغرّب، وهكذا طيلة قرن سلكت أمتنا دروبا أفضت إلى اللاشيء.

ثالثا، ضبط المصطلحات:
الديمقراطية.. التعريف والمفهوم:

الخروج من وهدة الضبابية الآنفة الذكر يتطلب منا العودة إلى ضبط المصطلحات ومحاكمتها إلى المنهج الأمين الذي هو "السياق" زمانا ومكانا وذلك على النحو التالي:

اتفق فلاسفة العلوم السياسية وعلماء الاجتماع السياسي أن الديمقراطية هي أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، موضحين دلالة حكم الشعب أنها تعني طريقتين:
- طريقة مباشرة، وكانت في اليونان وروما قديما، حيث تجتمع طبقة محددة من السكان -تجار وأعيان ووجهاء، باستثناء النساء والعبيد وسكان الريف- في زمن ومكان محددين، وتنعقد جلسات التشاور خلال فترة زمنية تنتهي إلى سن قوانين ولوائح تنظم الحياة، ثم يقوم الجهاز التنفيذي بتطبيق تلك القوانين.

وفي العصر الحديث تمارس دولة سويسرا هذه الطريقة مع اختلاف يتساوق مع ثقافة العصر.

الطريقة الثانية: تجتمع تلك الشريحة وتنتخب برلمانا يقوم بتشريع القوانين. إذن، هذا هو المقصود بالديمقراطية تعريفا ومفهوما ودلالة، أي أنها متعلقة بالمجال السياسي تماما وأنها آلية تحقق المصالح دون تصادم مع هوية الشعب وثقافته وحضارته.

رابعا، موديلات الديمقراطية:
في العصر الحديث تعددت موديلات الديمقراطية، وفقا لثقافة كل شعب، فهناك ممالك دستورية وهناك نظم جمهورية دستورية.

المهم هنا هو أن عقلاء ومثقفي ذلك الشعب يتفقون أن طريقة الاختيار بدءا من قانون الانتخابات مرورا بالوسائل والآليات وانتهاء بالاقتراع وصولا إلى إعلان النتائج، أن الطريقة بمجموعها سليمة لا غش فيها ولا تزوير ولا التفاف أو ترهيب أو ترغيب، مما يؤدي إلى مصادرة إرادة الشعب.

خامسا، ثمار الديمقراطية:
بما أن الديمقراطية تعريفا ومفهوما وسياقا وفلسفة واجتماعا وممارسة متصلة بحق الشعب المتمثل في اختياره للحكومة بكل حرية، كون الشعب هو صاحب المصلحة الحقيقية وبالتالي هو صاحب القرار في اختيار وكيل عنه يعمل لمصلحة الذي وكله، فإنه يتولد عن ذلك حقوق وثمار لازمة، منها:
- مشاركة في تشريع القوانين مباشرة (سويسرا نموذجا)، أو يختار الشعب مجلسا تشريعيا لسن القوانين، ويتصل بهذا ثمرة أخرى في غاية الأهمية هي:
- انسجام القوانين والتشريعات مع هوية وثقافة الشعب، الأمر الذي يعني سلاسة تطبيق القوانين بانسياب وانسجام دون معوقات.
- مساءلة السلطة ومحاسبتها إزاء أي تقصير.
- تحقيق كرامة الإنسان وحريته وحقوقه واحترامها وحمايتها.
- العدل والمساواة.. هاتان قيمتان عظميان كانتا ولا زالتا وستظلان في طليعة أحلام الشعوب فرديا وجماعيا.
- قوة الأمة، ومن قوة الأمة تتولد هيبة الدولة في عيون الآخرين، كون الدولة تتمتع بشرعية ضاربة الجذور ملتحمة بروح الشعب.
- ترسيخ الاستقرار والسلم والتنمية وصولا إلى النهوض الحضاري.

وهذا ملموس ومشاهد في دول أوروبا وغيرها، حيث أثبتت التجارب نجاحها ونهضت تلك الشعوب محققة حضارة خدمت الإنسان، مع تحفظنا على الجانب القيمي الخلقي.

فالجانب القيمي والخلقي هناك ناتج عن ثقافة خاصة بتلك المجتمعات، وهذا ما لم يستحضره تيار المنهج الوافد، الأمر الذي يعطينا دلالة قاطعة أن هذا التيار رازح تحت عقلية تقليدية ضحلة الثقافة.

بالمقابل العقل المحافظ هو أسير التقليد لا يختلف عن العقل المتغرب، ولهذا فالجدل سيظل مستعرا لم ولن يخمد له لهيب.

تلكم هي باختصار حقيقة التقليد للوافد أثمر ديمقراطية فاشلة دمرت الإنسان.

والتقليد للموروث شوّه وجه الشريعة الكاملة التي كرمت الإنسان في كل اتجاه تكريما صادرا عن دين مقدس معصوم من الزلل.

سادسا، السؤال الزائف:
الفيلسوف المغربي اليساري د. محمد عابد الجابري يرفض وبقوة الازدواج الفكري الثقافي المتمثل في عدد من الثنائيات: الإسلام والديمقراطية، الإسلام والعلمانية، الإسلام والمدنية، الإسلام والحداثة... إلخ، مؤكدا أن هذه المقارنة خطأ من أساسها، كونها تجعل الشرع المقدس في درجة واحدة مع الفكر البشري المادي الوضعي، وبالتالي يتولد السؤال الزائف: أين يلتقي الإسلام مع الديمقراطية أو مع المدنية... إلخ؟

الفيلسوف د. الجابري نقل عن عملاق الفلسفة ابن رشد الحفيد رحمهما الله تصويب السؤال قائلا: الصواب أن يقال ما حكم الإسلام في الديمقراطية أو في المدنية أو العلمانية أو الحداثة... إلخ؟

وانطلاقا من هذا التصحيح النظري الدقيق والمتميز نقول: ما حكم الإسلام في الديمقراطية؟

الجواب:
1- الحكم على الشيء فرع عن تصوره: هذه قاعدة منهجية تعطينا بوصلة مقاصدية تشير إلى مآلات التصرفات والأفعال ولا فرق بين أن يكون الموضوع في إطار تنزيل النص المقدس أو الحكم على الفكر الوضعي.

هذه المنهجية المشرقة هي وليدة معارف الوحي المقدس ولا غرابة.

2- لكي نقترب من الحكم على الديمقراطية من المنظور الإسلامي، سبق وأن قمنا بتفكيك مفهوم الديمقراطية في البنود الخمسة التي أوردناها أعلاه.

3- اتضح من خلال التفكيك الآنف بطلان الدعوى الزائفة أن الديمقراطية فلسفة عقدية وفكرية وثقافية وإنما هي آلية لا غير.

نعم يمكن القول إنها قيم وتقاليد تواصت عليها الشعوب وأصبحت قيمة عرفية في مجال اختيار الحاكم، وأنها ليست قيما عقدية ودينية ثابتة بل آليات متغيرة متجددة متطورة.

3- اتضح أن آليات الديمقراطية أصبحت موديلات، وكل موديل يتكيف مع ثقافة كل شعب.

4- اتضح أن تلك الآليات نجحت في تحقيق العدل والمساواة وحماية كرامة الإنسان وحريته وحقوقه.

5- اتضح أن الآليّة الديمقراطية خدمت مصالح تلك الشعوب بدءا من المواطنة المتساوية وترسيخ الأمن والاستقرار والسلام والتنمية المجتمعية الشاملة وصولا إلى النهوض الحضاري.

6- أن الديمقراطية بذلك المفهوم القادم من المنهج الأمين المتمثل في السياق زمانا ومكانا جعلت من الشعب قوة لا يستهان بها، وأنها صنعت للدولة هيبة أمام الغير، نظرا لقوة شرعيتها المنسبكة والمرتكزة في أعماق وجدان الشعب، وأن الدولة كلما خدمت مصالح الشعب ازدادت هيبتها في عيون الآخرين، وغير ذلك من الفوائد والثمار المنعكسة على الأمة اقتصادا ورفاهية وتأمينا صحيا وضمانة التعليم... إلخ.

سابعا، حكم الإسلام في الديمقراطية:
انطلاقا مما قررته القاعدة المنهجية: الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
وانطلاقا مما قرره فقهاء المنهج المقاصدي المتمثل في القاعدة المقاصدية التالية: النظر في المآلات معترف شرعا.
وانطلاقا من القاعدة المقاصدية التي مفادها إذا أردت الحكم على شيء فانظر إلى نتائجه ثم احكم.
واستنادا إلى القاعدة المقاصدية القائلة: كل تصرف تقاصر عن أداء المقصود ففعله باطل، وإن كان في الظاهر تنزيلا لنص شرعي لكنه لم يخدم المقصد إنسانيا ففعله باطل.
وانطلاقا من القاعدة الفقهية الأصولية المقاصدية "الأمور بمقاصدها".
والقاعدة القائلة: شريعة الله عدل كلها ورحمة كلها ومصلحة كلها وحكمة كلها فكل تصرف خرج بها من العدل إلى الجور ومن الرحمة إلى ضدها ومن المصلحة إلى المفسدة ومن الحكمة إلى العبث، فهو باطل وإن أدخل فيها بالتأويل.
وانطلاقا من القاعدة: فبأي طريق أسفر نور الحق والعدل وأشرق وجهه فثم شرع الله.

الحكم، وبما أنه تقرر من خلال ما سبق اتضح أن الديمقراطية بمفهومها وتعريفها ومآلاتها قد خدمت الإنسان كرامة وحرية وحقوقا وعدالة ومساواة.
وإعمالا للقاعدة المقاصدية "للوسائل حكم الغايات" نقول:
أ- أن التعاطي مع هذه الآلية واجب شرعا، كونها تنضوي تحت قاعدة الوسائل الخادمة للمقاصد، وأن التجارب قد أثبتت نجاح الديمقراطية في تحقيق وحماية كرامة الإنسان وتنمية الشعوب وازدهارها.

وأخيرا فإن الممارسات الصادرة عن تيار المنهج التغريبي العلماني لا علاقة لها بالديمقراطية لا من قريب ولا من من بعيد، وإنما هي تصرفات ونزوات ناتجة عن انحرافات معادية للقيم الإنسانية والوطنية، شأنها شأن دعاوى السلالية الشاذة وإن تمسحت بشريعة الإسلام فهي ادعاء وتزوير وضلال شريعة الله منها براء.
نلتقي بعونه سبحانه..

كلمات دالّة

#اليمن