الجمعة 29-03-2024 01:46:21 ص : 19 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

التنمية السياسية في القرآن الكريم

السبت 24 أكتوبر-تشرين الأول 2020 الساعة 04 صباحاً / الاصلاح نت- خاص-عبد العزيز العسالي

  


أولا: ضبط المفاهيم:

مفهوم التنمية هو مفهوم حديث ظهر بعد الحرب العالمية الثانية.

التنمية السياسية، والتنمية الاجتماعية، مفهومان متداخلان جدا، ذلك أن الحديث عن التنمية الاجتماعية يستلزم الحديث عن التنمية السياسية والعكس صحيح.

بما أن مفهوم التنمية حديث النشأة، فإننا وبعد تأمل في كتب التنمية وجدنا أن مضامين التنمية حاضرة في نصوص القرآن الكريم.. وصدق الله القائل: "ما فرطنا في الكتاب من شيء". "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء". "ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا".

مفهوم التنمية السياسية، مفهوم مركب من اسمين هما: التنمية.. والسياسية.

من المعلوم عند المهتمين بشأن التنمية أن فلاسفة الاجتماع لم يتفقوا على تعريف للتنمية، وعليه، فلن ندخل في التعريف وإنما سنتحدث عن مفهوم التنمية بصورة مبسطة كي يصل القارئ العزيز إلى المعنى المراد بسهولة وذلك كما يلي: التنمية والنمو يعني الزيادة المطردة.. والمعنى هو العناية بالبشر علميا وفكريا وثقافيا واقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، لاسيما مجال السنن الحاكمة للاجتماع والنفس البشرية، وصولا إلى مجتمع الرشد.

مفهوم السياسة:

يقول ابن عقيل: السياسة هي تصرف يكون معه الناس أقرب إلى الحق والعدل والصواب والصلاح، ولو لم يذكره القرآن ولا فعله الرسول صلى الله عليه وسلم. (الطرق الحُكْميّة، ص 16).

كلام الفقيه ابن عقيل يلتقي مع فقهاء الأصول أن الشريعة الإسلامية هي "جلب مصلحة أو دفع مفسدة".. الفقيه العز بن عبد السلام لخصها في جملتين هما "قواعد الأحكام مصالح الأنام".

من خلال ما سبق نجد أن الشريعة الخاتمة هدفها هو الصلاح المطلق دنيا وأخرى.

سبل السلام هي الصلاح المطلق:

قال تعالى: "قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور"... إلخ. ( المائدة: 15، 16).

هذا النص العظيم حمل إلينا قيما دلالية مكثفة ومتينة وشاملة.. تحمل مضامين كل ما هو صالح في خدمة الإنسان اعتقادا وسلوكا وآليّات لكل ما ينفع الفرد والمجتمع.

سبل السلام.. تقدم لنا بوصلة ترشدنا إلى آليات وسننٍ عملية كونية.. ودلالة أخرى تعني أن سبل السلام هي آليّات وأهداف في آن، ذلك أنه لا تنمية بدون سلام وأمن واستقرار.. كما أنه لا سلام ولا استقرار بدون تنمية.

ثالثا: التنمية السياسية.. أرضيتها.. أعمدتها:

رسم القرآن خارطة محمكة احتوت على مضامين التنمية السياسة يمكن حصرها في ثلاثة محاور.

المحور الأول: تغيير ما في النفس:
"حتى يغيروا ما بأنفسهم".

تغييير ما في النفس من تصورات وأفكار هو المبدأ أو الشرط.. وقد سماه بعض المفكرين قاعدة فلسفية في تنمية المجتمع ولا ضير.

إذن، تغيير ما في النفس أس التنمية الشاملة بما فيها التنمية السياسية.. "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير".

المحور الثاني: الأرضية التنموية:

هذا المحور هو أكبر محاور التنمية السياسية، ذلك أنه اشتمل على أكبر قدر من مضامين التنمية- العناية بالبشر، ومن الصعب استعراض جميع "قيم بناء البشر" في هذا المقام.. ولكن سنذكر عددا من القيم المركزية في القرآن الكريم.. ذلك أن كل قيمة مركزية ينضوي تحتها عدد غير قليل من قيم بناء التنمية السياسية.

1- كرامة الإنسان محور التنمية الشاملة:

هذا المبدأ يجب ضرورة التعاطي معه وبلورته في الخطاب الإسلامي المنشود، حتى يترسخ عقديا، وسلوكا عمليا وقانونيا.. ويجب تضمينه في المؤسسة التعليمية.. المدرسة.. الجامعة.. المسجد.. وسائل الإعلام.. المسرح.. الشعر.. خلال العقود القادمة.

هنا.. قطعا ستنطلق القدرات العقلية في كل مجالات التنمية، ذلك أن تقرير وترسيخ الكرامة الإنسانية على أساس نص مقدس سيهدم التسيد الإبليسي العنصري والطبقي والجهوي والطائفي والمذهبي والحزبي... إلخ.. وستكون "قيمة الإنسان ما يحسنه"، لا لأنه بن فلان أو زعطان.

سينضوي تحت قيمة الكرامة- الحرية، المساواة، العدل، كل مقاصد الشريعة، حماية لكرامة الإنسان وحقوقه.

2- العلم ثم العلم ثم العلم.. هذه وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وردت في خمسة مواطن- يعني مقصد شرعي.

قال تعالى: "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة".

العلم والكرامة يلتقيان في الإنسان.. أي علم قدمه الرسول صلى الله عليه وسلم؟

التلاوة تعني الربط بين آي القرآن فهي متكاملة المبنى والمعنى.
التزكية تعني تهذيب النفس وفق المنهج السماوي، ذلك أن القرآن تضمن 1504 آيات حول التزكية- ربع القرآن تقريبا.
الكتاب هو نصوص القرآن وتشريعاته كلها.
الحكمة هي المنهج القيمي السنني الكوني.
فالتعاطي مع القيم الكونية هو مفصل البناء التنموي وسلّم النهوض.

3- التربية بالأهداف:
تعليم الحكمة تعني إيضاح الغايات وتجليتها للمتعلم وللمجتمع وإشراكه في استنتاج الأهداف والنتائج سلبا وإيجابا، ذلك أن حشو الأذهان بالكلام دون ربطه بالنتائج قدم مخرجات غاية في الضحالة.

مثال: ثورة 14 أكتوبر هي حق الدحابشة وآخر يقول حق الكفار وثالث يقول عيد الأم ورابع عيد العمال، وآخرها هي ثورة طرد حكم الشماليين من عدن.

هل نسينا أن جيش العائلة وأمنها المركزي انخرط ضد الشرعية والدستور وقتل الشعب؟ تلك نماذج قليلة ومدمرة ومفسدة ومهلكة للحرث والنسل.

4- الإحسان:
تراثنا الفكري قزّم هذه القيمة المركزية فانزوت وتضاءل مفهومها.. علما بأن الإحسان مقصد مركزي في القرآن الكريم.. فالإحسان يعني: المهارة، الجودة، الإتقان، الكمال، الجمال، "والله يحب المحسنين"، "إن رحمة الله قريب من المحسنين".

اكتفي بشاهد عملي واقعي يمارسه غالبيتنا.. مثلا في الصيدلية يقول الصيدلاني هذه إبرة إنجليزي.. وهذه صنع عربي وهذه تايوان.. الجواب متروك للقارئ.. ولا شك أن القارئ يعلم السبب.

5- الرحمة:
الهدف من الرسالة الخاتمة هي الرحمة للعالمين.. "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".. ورد لفظ الرحمة في النظام القرآني 222 مرة.

هذا الزخم إذا أخذناه بعين الاعتبار، وعرضناه على العالم أجمع وقلنا لهم هذا ديننا.. الإرهاب لا مكان له في شريعتنا.. وبالتالي هذا التشريع
سيجعلنا نعيد النظر في ما ألصقته الروايات بنبي الرحمة من تناقض صارخ يتنافي مع غاية رسالة الرحمة وشريعتها.. ترسيخ خلق الرحمة يعني تجسيرا لسبل السلام.

6- التعاون على البر:
"وتعاونوا على البر والتقوى".. ينضوي تحت هذا المحور أعمال لامتناهية ومتجدد زمانا ومكانا.. فالتكافل.. إقامة مؤسسات التعليم المجاني.. وقف خيري، تعليم الفقراء واليتامى، الاهتمام بالأذكياء لأنهم أذكياء لا كونهم من بني فلان أو... إلخ.. كل المبرات ستجد طريقها إلى المجتمع في عصر التغول الرأسمالي المجرم.. ستترسخ كرامة الإنسان.

7- القيام بالقسط:
غاية الرسالات السماوية هي القيام بالقسط.
القيام بالقسط خلق أوسع من العدل لثلاثة أسباب:
الأول: أن الحكم بالعدل محصور في الحكم.. "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل".
الثاني: العدل فيه شدة لأن إعادة الحق تحتاج ذلك.
الثالث: أن القسط خلق مجتمعي عام.. ومقرون بالبر والود والإخاء.. "أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين".

ينضوي تحت القسط المجتمعي أداء الحقوق والاحترام المتبادل والتعايش وقبول سنة الاختلاف.. وأشياء كثيرة..
قال تعالى: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامي والمساكين وابن السبيل والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب كل مختال فخور" (النساء: 36).
نص إلهي يصنع الدهشة بشموليته لسبل السلام.

هذه خارطة أرضية التنمية.. وأجزم أن هناك الكثير من القيم.. اكتفيت بما سبق عملا بالمثل العربي "حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق".

على أن ما سبق من المدخلات التنموية وغيرها كفيل بخلق أرضية مجتمعية منسجمة متناغمة أقرب إلى القيام بالقسط، وهنا تكون هذه الأرضية قد هيأت المجتمع لإقامة البناء السياسي والحكم والرشيد.. وهذا هو موضوع المحور الثالث.

المحور الثالث: الشرعية السياسية:

الوصول إلى الشرعية طريقته المثلى هي الوعي المجتمعي الراشد بمصالحه.. وهنا ستحضر
الإسطوانات الرافعة للشرعية السياسية والمتمثل فيما يلي:

1- التواصي بالحق وبالصبر.. وبدون عناء كثير.

2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل صوره السلمية وتوظيف السنن الحاكمة للاجتماع.. ومنها:

3- ممارسة الشورى: تتمثل الشورى في اختيار الحاكم.. وضع القيود على سلطات الحاكم حتى لا يتغول.. وضع سقف لإنفاق المال العام.. رفض أي تشريع يؤدي إلى حصانة الظلم.. وضع دستور وقانون يحاصر الفساد والاستبداد وتجفيف منابع الظلم.. بدءا من صلاحيات الحاكم واستقلال السلطات وحيادية الجيش والإعلام.. وانتهاء بتحديد المدة الزمنية للحاكم... إلخ.. ذلك أن صور العدل تتجدد زمانا ومكانا.

4- الرقابة الشعبية.
5-- الشجاعة والجهر بالسوء للمظلوم.
6- مجتمع مدني.
7- الشورى التنفيذية.
8- تحديد النظام الإداري للحكم.

كل هذا وغيره من النظم الضامنة للعدل وحماية الحقوق انطلاقا من القيم الدلالية المكثفة التي حملها النص "وأمرهم شورى بينهم".

نلتقي بعونه سبحانه مع قراءة في كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب" للفيلسوف علي عزت بيجوفيتش، رحمه الله.

كلمات دالّة

#اليمن