السبت 07-12-2024 08:52:29 ص : 6 - جمادي الثاني - 1446 هـ
آخر الاخبار

بناء الرشد المجتمعي التكاملي.. تحدياته، مساراته، غاياته.. الحلقة الأولى: تحديات بناء الرشد المجتمعي

الإثنين 19 أغسطس-آب 2024 الساعة 09 مساءً / الإصلاح نت-خاص | عبد العزيز العسالي

 

مدخل، مظاهر اعتلال الرشد المجتمعي:

أولا، ضبط المفهوم:

القرآن جاء يهدي العقول إلى الرشد العلمي العقلي السنني.. القرآن "يهدي إلى الرشد".. كما أن جميع نصوص القرآن اكتمل بها بيان الرشد: "قد تبين الرشد من الغي".. "وما أمر فرعون برشيد".

فالرشد مصطلح قرآني حرفي يكتنز حمولات وأبعادا دلالية ذات صلة وثيقة بميادين الحياة، وفي ذات الوقت مفهوم الرشد يعني سلامة استدلال النظر العقلي على البعد الغيبي في مفهوم عبادة الله وعمارة الأرض وفقا للسنن الإلهية في النفس والاجتماع فكريا، ومعرفيا، وقيميا، وخلقيا، وتربويا، وسياسيا، ومعيشيا.

تأمل معي صفة الصحابة في القرآن الكريم قائلا: "ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون" (الحجرات، 7).

المقصود بالرشد التكاملي

قمنا بتشخيص الاعتلال فوجدنا المجتمع المسلم عموما يعاني غيبوبة حضارية تغذيها الجذور التالية: منهج وفكر.. وجدان ومعرفة.. عقل وثقافة.. وتجنبا لاتهام القارئ الكريم قمنا باستعراض أبرز مظاهر الاعتلال المجتمعي.

المحور الأول، مظاهر الاعتلال:

أولا، ثقافة العَرَض الأدنى:
1- مفهوم ثقافة العرض الأدنى في نظري هو الإطار العام الناظم لكل مظاهر اعتلالنا الثقافي.. هذا المفهوم ظل طيلة قرون ولا زال يغذي كل مشكلاتنا الثقافية حتى اللحظة.. وبما أن معالجة المشكلات الثقافية تلاقي صعوبات جمة في كل المجتمعات، فما قولكم إذا تحولت مشكلاتنا الثقافية إلى تحديات - ممانعة ثقافية صلبة، كونها تكتسب صلابتها من مفاهيم دينية طالها التشويه كما سيتضح للقارئ لاحقا.

2- مصدر مفهوم ثقافة العرض الأدنى.. قال تعالى: "فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وأن يأتيهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون" (الأعراف، الآية 169، وردت في سياق قصص بني إسرائيل، والمقصد هو دعوة أمة محمد إلى النظر والاعتبار).

3- الأسباب والعوامل: بلا أدنى ريب هناك أسباب وعوامل مباشرة قادت وساعدت ثم كرست مهادنة ثقافة العرض الأدنى، ثم صنعت المبررات، وصولا إلى فرضية القبول بها تديّنا، وها هي تحولت تحديات صلبة.

ثانيا، الأسباب والعوامل:

1- السبب الأول والأبرز والأقوى: انقلاب العباسيين 132 هجرية.. هذا الانقلاب كان محركه الجوهري فارسي - أدوات وثقافة.. ولكن القشرة عباسية هاشمية عربية.. باختصار، أفرغ الحقد الفارسي مخزون أحقاده في ترويض الثقافة الإسلامية، فشرعنت للسلالية والتوريث والفردية والتغلب وتقديس الحاكم باسم الدين الإسلامي والإسلام بريء جملة وتفصيلا.

2- العامل الأبرز والأقوى: امتلاك المجتمع وسائل العيش.. غير خاف على المثقف والمفكر أن سنة امتلاك المجتمع لوسائل عيشه هي ثقافة حصرية جاءت بها شريعة الإسلام الخالدة دون غيرها، كما أن هذه الثقافة تحولت إلى آليات بناء المجتمع الإسلامي وعامل تماسكه وحمايته في آن.

3- الجانب السلبي لقوة المجتمع.. فيلسوف التاريخ الدكتور عبد الله العروي - مغربي ماركسي.. ذكر في كتابه، "الحرية"، شهادة منصفة عميقة الصلة الدلالية في هذا الصدد قائلا إن "حرية المجتمع الإسلامي حضرت عمليا خلال التاريخ الإسلامي وغابت نظريا، في حين غابت حرية المجتمع الأوروبي عمليا لكنها حضرت نظريا". إذن فالمجتمع الإسلامي تحرر عمليا لكن هذا التحرر العملي تسبب في إهمال التفكير النظري.

ولا شك أن هذا الخلل الثقافي نشأ عليه الصغير وهرم فيه الكبير، وبالتالي أفاقت أمة الإسلام في العصر الحديث فوجدت أجواءها رازحة تحت ثقافات وافدة فتمسكت بإرثها حفاظا على الذات من الذوبان على اعتبار أن الموروث تشريعا مقدسا ومخالفته بدعة وضلال وعمالة للمنظمات الغربية، سيما في ظل نخبة علمانية عسكرية استولت على مقاليد السلطات واتجهت بقوة السلطات إلى تدنيس مقدسات المجتمع.

4- تغولت السلطات الحديثة فاستولت على وسائل إنتاج العيش.

5- انفصال المجتمع عن السلطة.

6- تشبث المجتمع بثقافة العرض الأدنى - ثقافة الموروث الصادرة عن اجتهاد في سياق مختلف، فالمجتمع اليوم يريد التحرر من تغول السلطات المستبدة خدمة لأهوائها باطشة بالمجتمع إرضاء لأسيادها.

7- البديل عن مقاصد التاريخ هو ثقافة العرض الأدنى الصادرة عن ثقافة تخالف منهجية القرآن الكريم والسنة النبوية العملية.

الأسوأ أن ثقافة العرض الأدنى جاءت في ثوب قاعدة أصولية نصت أن شرع من قبلنا شرع لنا. إذن، هذا انقلاب بنسبة 180 درجة، ومفهوم هذا التأصيل يقرر فرضية ووجوب التزام ثقافة العرض الأدنى.

8- الانقلاب العباسي، وامتلاك المجتمع لحرية عيشه، تظافرا على ظهور اجتهاد فقهي خارج المنهج المقاصدي المتصل بسنن الاجتماع - منظومة قيم العدل والمساواة والشرعية السياسية - مؤسسة الشورى التي قررت بوضوح أن السلطة نبتة مجتمعية.

9- التقليد في علم الأصول: يتفق فقهاء الأصول - حرفيا - أن أصول الفقه هي آليات للفهم يصبح معها الفقيه أشبه بقائد سيارة يجيد القيادة والهندسة في آن، أي أنه قادر على إصلاح المعدة فور اختلالها كونه واع تماما بمصدر الخلل وطريقة إصلاحه. إذن، الفقيه الأصولي متمكن وقادر على تلبية القضايا المستجدة جامعا بين فقه النص وعلم الاجتماع وصناعة ثقافة الاجتماع، فما الذي حصل إزاء هذا العلم؟ العقل الفقهي دخل نفق التقليد، أي أنه يدرس هذا الفن ترديدا للكلمات مع إغفال تام للسياق التاريخي المرافق لتأليف الكتاب.. وصدق الفقيه ابن عاشور إذ قال عن المقلد في الأصول إنه يتوحل في خضخاض الألفاظ، وقصارى ما يفعله هو التعصب لشيخ المذهب والنتاج هو معرفة مغلقة = عجز مكتسب متعلّم - أي فشل في إنتاج أي حكم تجاه قضية مستجدة.

وهكذا ترسخ مفهوم العرض الأدنى = حشو ذهني وتلقين عبارات تحولت معها نصوص الشريعة الميسرة إلى عماية لغوية - ألغاز وأحاجي وجمود وحيرة ودعوى وهم المعرفة.

المحور الثاني، آثار الاعتلال:

1- غياب المنهج المقاصدي: الفقه السياسي أصبح بعيدا عن مقاصد الاجتماع السياسي، وهذا يعني ضياع مؤسسية الشورى وإنتاج تأصيل هش لا يمت إلى مقاصد الشورى بأي صلة، فغابت الثقافة السياسية المنتجة للعدل الحاكمة للاجتماع.

2- غياب تام لمقاصد التوحيد الرامية إلى محاصرة الفردية والسلالية والظلم والطغيان والفردية وتجريم التغلب على السلطة ومصادرة الشرعية السياسية، وهنا انحصر مفهوم الطاغوت في الصنم الحجري أو فرعون القائل: (أنا ربكم الأعلى).

واصبح طاغوت الملأ والقبيلة والعشيرة والآبائية وما شابهها خارج مقاصد التوحيد، ومن حق أي قبيلة أو عشيرة الاستيلاء على مقاليد حكم الجهة مماثلة للفرد المتسلط السلالي في مركز الدولة، فتولد الاعتلال التالي.

3- الجبرية - إنكار السنن: هذا الاعتلال الخطير برز على حساب عقيدة التوحيد السببي، وأصبح من يتحدث عن الأسباب والسنن الكونية مشركا فارتبك العقل الفقهي خوفا من الإرهاب الفكري.

وقلنا آنفا إن المجتمع ظل بعيدا عن هذه المفاهيم العدمية، لكن التصوف الفلسفي تمتع بحضور قوي في الوسط المجتمعي فتسلل مفهوم ثقافة العرض الأدنى ببطء فنتج عنها ازدواج ثقافي مزعج جدا جمع الحاجة الشديدة إلى الأخذ بالأسباب عمليا ورفضها عقديا، وهو اعتلال ناتج عن غياب توحيد تسخير الأسباب، تلاه الاعتلال التالي.

4- انفصال القيم الكونية عن ركني الإيمان بالله واليوم الآخر - عدل، حرية، مساواة، قسط، عزة، كرامة.. فهذه كلها لم تعد سنن وآليات تحمي المجتمع، وفي ذات الوقت انزاح مقصد قرآني سنني حد الغياب: "حتى يغيروا ما بأنفسهم".

5- تشوه مفاهيمي: مفاهيم مقاصد التوحيد لحقها التشوه - العبودية لغير الله، العزة، الكرامة، الرضى بالظلم، تحصين الطغيان.. تستند إلى روايات تخالف القرآن - تكرس الخنوع والذل. وانحصر مفهوم الدين في الشعائر.

المحور الثالث، الحصاد المرير:

1- تدهور وتخلف حضاري قاتل.

2- تسول النخبة ثقافة الغرب انبهارا وإما عمالة وفرض ثقافة الغرب بقوة السلطة.

3- الحرية وتدنيس المقدس.

النخبة العلمانية حكاما وأبواقا تتشدق طيلة عقود بالدعوة إلى الحرية.
وبحسب الدكتور محمد عمارة، رحمه الله، أنه طلب من وزير الأوقاف تحديد موعد للقاء بالحاكم السابق برفقة عدد من المفكرين للنقاش حول صمت السلطات إزاء تدنيس قيم الإسلام، وبعد انتظار خمسة أشهر جاء الرد: مش عاوز أسمع كلمة إسلام.

4- اتهام الشريعة الخالدة الكاملة بالقصور، غير أن هذا الاتهام اشترك فيه جمود فقهاء التقليد والهيمنة الغربية والأكاديميون.. وإليك شواهد سريعة: طلب الملك الخديوي من فقهاء الأزهر تقنين الشريعة في مجال المعاملات، موضحا لهم أن فرنسا تضغط عليه بوسائل عدة أن يطبق قانون فرنسا، فقال فريق من الفقهاء: "يا صاحب الجلالة يجب أن يكون التقنين على مذهب مالك".. فاعترض فقهاء الأحناف.. وهنا قرر الملك اعتماد القانون الفرنسي.

5- الفشل الأكاديمي الفاضح: فشلت الجامعات تماما في صناعة التنمية.. وهنا مقاربة لأحد الباحثين، وقد لا تكون دقيقة، ولكن الواقع يؤيدها، إذ بلغت عدد بحوث الدكتوراه خلال ثمانية عقود أكثر من 200 ألف بحث، وانتهت المقاربة إلى السؤال: أين التنمية؟ وقد وجدت الشاهد التالي.

6- بحوث تطحن الماء: هذه المعلومة حقيقية وأتحمل مسؤوليتها.. لقد تابعت طيلة ثلاثة عقود مضت فوجدت ما أنتجته بعض الجامعات العربية يزيد على 300 دكتوراه وماجستير.. استندت البحوث إلى المنهج المقاصدي على اعتبار أنهم جاؤوا بجديد يلبي مستجدات العصر، غير أن النتيجة صادمة كون الباحثين جميعا يصدق فيهم المثل: طحن الماء لا غير.. فالعناوين مقاصدية طنانة، لكن الأمثلة والتطبيقات كلها اجترار من التراث، فلم يتناولوا أي قضية معاصرة، وهذه النتائج اهتبلها العلمانيون، كونها فرصة جديدة لازدراء شريعة الإسلام ومعاداتها والدعوة إلى نبذها.

7- أزمة بديهيات: هذا الأثر يعد من أسوأ الآثار إن لم يكن أسوأها، ذلك أنه وصل إلى المواطن العادي الذي يسمع إهانة المقدس يوميا من الشذاذ المأزومين والأفاقين مؤكدين أن القيم تفرضها قرارات السلطة كما هو الحال في الغرب، وهنا وجد المواطن أنه إزاء أزمة بديهيات، وبدأ يتساءل ساخرا: يا مثقفون، القيم والمقدسات عقائد وقيم يتوارثها المجتمع جيلا عن جيل فهي هوية وحضارة، لا تفرضها قوة السلطة.. أفيقوا يا نخبة الحكم وأبواقه.. ما يلفت النظر حقا هو أن كاتبا قبطيا دافع بقوة عن قيم الإسلام وحضارته أكثر من دفاعه عن المسيحية، وقد جمع دفاعه الآنف في كتاب بعنوان "الحرية والمقدس"، 157 صفحة، تجلى فيه نضوج فكري وعقلاني وعلم وثقافة واعية وشجاعة ومنطق رصين، وفي ذات الوقت ظهر كتاب بنفس العنوان، الحرية والمقدس، ولكن لكاتب مسلم هو الدكتور فهمي جدعان خريج السوربون، فلسطيني أردني، فملأ كتابه سخائما ضد قيم الإسلام بلغة ضبابية عمياء.

المحور الرابع، التحديات:

1- الشعور بالألم دليل صحة وحيوية الإنسان، والعكس صحيح.. وجه الدلالة هنا أن غالبية منتسبي الفقه والفكر الإسلامي ينكرون، وبكل مكابرة، وجود أزمة فكرية، وإذا سمعوا بقضية مستجدة تراهم يهرعون إلى استفتاء التراث، فإذا سألتهم: هل هذه القضية تناولها التراث؟ يأتي الجواب: لا. وهنا يبدأ الجدل العقيم وصولا إلى اتهام المخالف وإرهابه بأنه حداثي.. باختصار، أبرز التحديات عدم الاعتراف بوجود أزمة واعتلال.

2- بعض منتسبي الفقه والفكر الإسلامي يعترفون بوجود أزمة ولكنهم يفتقدون المنهج، والأقل يعلمون المنهج ولا يجرؤون على تفعيله.

3- الغرور الأجوف: شريحة قتلها الجهل والغرور والخوف على المكانة والمصالح وبالتالي تفتقر لقيم وأخلاق العلم وطفولة منهجية مخزية، ولكن هذا النوع يظن أن تقمصه الوصاية على الدين والشرع كفيل بتغطية تعالمه الفج.

4- الاستبداد ثلاثي الأبعاد: استبداد ديني يوظف الاستبداد الاجتماعي - يستعدي المجتمع لإسكات دعاة المنهج القرآني النبوي الأصولي + استعداء البعد الثالث - الاستبداد السياسي.. وتارة جمع التوقيعات من الشارع.. وتارة ينصبون أنفسهم أنهم المرجعية العليا فيطالبون حملة المنهج الحضور وإعلان التوبة بين أيديهم.. والسبب الجوهري هو فقرهم المدقع وجهلهم المنهجي الفاضح.. ورحم الله محمد الغزالي إذ قال: يجب مكافحة الدواء الفاسد قبل مكافحة الداء.

5- غياب الثقافة الإسلامية الصحيحة لدى الوعاظ والتجار.. فالزكاة مؤسسة إسلامية لها مصارفها المعروفة ومنها دعم مراكز البحث العلمي، وهيهات إقناع التاجر، بل إن الأغلبية الساحقة من المعممين انجروا خلف من لا يعرف الفقه وقرروا تسليم الزكاة للسلطة، معللين أن إسلامية السلطة تتحقق بنهب الفاسدين للزكاة لتأثيث منازلهم.

المحور الخامس، الرؤية:

لا يعني أن ما سبق ذكره يصعب معالجته، ولكننا نقول معالجته ممكنة ومع ذلك ليست سهلة.
نعم، لدينا رؤية منهجية أثبتت نجاحها في القرن الهجري الأول وتكررت ممارستها عبر التاريخ الإسلامي أثناء المنعطفات التاريخية المضطربة، وذلك بفضل العقل الفقهي المنهجي الأصولي المقاصدي.

وبعد معاناة شاقة جدا حددنا العنوان: بناء الرشد المجتمعي التكاملي، وحددنا مسارات بناء الرشد المجتمعي في ثلاثة مسارات كبرى على النحو التالي: مسار بناء اتجاهات المجتمع، ومسار التربية المركّبة في ميدان التعليم العام، ومسار تكوين التفكير المنهجي للنخبة الجامعية من خلال مقرر الثقافة الإسلامية العامة ومن خلال ميدان العلوم الإسلامية والإنسانية - اقتصاد، تربية، إدارة، تاريخ، علم نفس، علم اجتماع.. وسيرى القارئ مدى تظافر هذه المسارات وفاعليتها وعوامل نجاحها.

نلتقي بعونه سبحانه مع الحلقة القادمة: بناء اتجاهات المجتمع ومدى فاعليتها.

كلمات دالّة

#اليمن