الخميس 28-03-2024 22:35:15 م : 18 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

اليمني أيام الإمامة في الصورة الشعرية.. البالة للإرياني وغريبان للبردوني.. أنموذجا

الثلاثاء 06 فبراير-شباط 2018 الساعة 09 مساءً / الإصلاح – خاص – ثابت الأحمدي

 

نتيجة للسِّيَاسَةِ الانغلاقيَّة، ونتيجة لما عرف بالثالوث القاتل أثناء حكم الأئمة "الفقر والجهل والمرض" فقد هاجرَ من البلاد ما يزيدُ عن مليون يمني، يمثلون، أي ما يقارب 20% من سُكان اليَمَنِ الشَّمالي يومها إلى الجزيرة العَربيَّةِ وإلى شَرقِ أفريقيا، وبعضُهم إلى الولايات المتحدة الأمريكيَّة، متحملين كلَّ مخاطرِ وقساوةِ الهجرةِ والاغتراب ـ بما تمثله من انقطاعٍ تامٍ أو شِبه تامٍ عن الأهلِ والوطنِ يومها ـ على البقاء في الوطن، الذي لا يمثل لهم غير قطعةِ أرضٍ مزروعةٍ يسطو عَليْها عساكرُ الإمَام وقتَ الحصاد، فيحصدون المرارة ويقتاتون البؤس طوال العام!


وكانت الدولُ التي يصل إليها اليَمَنيُّون تنظرُ شزرًا وبدونيَّة لليمنيين، نظرًا لوضعهم المأساوي، ولمكانة الدَّولَةِ اليَمَنِيَّةِ نفسِها لديها، وكانوا يتخذون من أرصفة الشَّوارع مأوى ونُزُلاَ لهم إلا ما نَدر. وكان من أكثر المهاجرين أبناء حَضرموت في القَرْن الثامن عشر، والنصف الأول من القَرْن التاسع عشر إلى بُلدان جنوب شرق آسيا، كأندونيسيا والهند وماليزيا وسنغافورة وبروناي وغيرها..


وثَمَّة قصيدتان تاريخيتان صوَّرَتا حالَ اليَمني المشرد البئيس في بِلاد الله، بحثًا عن الرزقِ الحلال، وقَدْ يئسَ من بلاده على خيراتها، الأولى للشَّاعر والمؤرخ مطهر الإرياني، بعنوان: البالة:


والليلة البال ماللنسمة السَّارية هبَّتْ من الشَّرق فيها نفحةُ الكاذية
فيها شذى البن، فيها الهمسة الحالية عن ذكريات الصِّبا في أرضنا الغالية
والليلة العيد وانا من بلادي بعيد ما في فؤادي للطوفان الأسى من مزيد
قلبي بوادي بنا، وأبين، ووادي زبيد هايم وجسمي أسير الغربة القاسية
خرجت أنا من بلادي في زمان الفنا أيام ما موسم الطاعون قالوا دنا
وماتوا أهلي ومن حظ النكد عشت أنا عشت أزرع الأرض واحصد روحي الذاوية
ذكرت أخي كان تاجر أينما جا فرش جوا عسكر الجن شلوا ما معه من بقش
بكر غبش، أين رايح؟ قَال أرض الحبش وسار واليوم قالوا: حالته ناهيه.
بكرت مثله مسافر والظفر في البكر وكان زادي مع اللقمة ريالين حجر
وأبحرت في ساعية تحمل جلود البقر والبن للتاجر المحظوظ والطاغية
بحثت عن شغل في الدكة وداخل عصب وفي الطرق والمباني ما وجدت الطلب
شكيت لاخواني البلوى وطول التعب فقالوا: البحر . قلت البحر وا ساعية
وعشت في البحر عامل خمسة عشر سنة في مركب "اجريكي" أعور حازق الكبتنة
وسوَّد الفحم جلدي مثلما المدخنة وطُفت كم يا بُلوِّد أرضها قاصيه
مثل الطيور القواطع طفت كل الجزر غويت لي ما غويت لما كرهت السفر
واخترت "بر الدناكل" مُتَّجِر بالحِصر من حي لا حي يا مركب بلا سَارية
غريب في الشاطئ الغربي بجسمه نزل والروح في الشاطئ الشرقي وقلبه رحل
يا ليت والبحر الأحمر ضاق ولا وصل جسور تمتد عبر الضفة الثانية
من كان مثلي غريب الدار ماله مقر فما عليه إن بكى وأبكى الحجر والشجر
أبكي لك أبكي، وصب الدمع مثل المطر ومن دم القلب خلي دمعتك جاريه
غنيت في غربتي: يالله لا هنتنا ومزق الشوق روحي في لهيب الضنا
راجع أنا يا بلادي يا ديار الهنا يا جنتي يا ملاذي يا أمي الغالية

 


هذه أبلغ صورة من الشتات وعذابات الاغتراب لليمني الذي أضنتْه الإِمَامَةُ جورًا وقتلا وتشريدًا، وهو نجل سبأ وحِمْيَر، وفي أرضه من الخيرات الكثير لو سَلمتْ ـ فقط ـ من نهْب واسْتحواذ جَلاوزة الإِمَامَةِ التي أكَلت الأخضرَ واليابسَ وجَعلت مِن المُواطن مجردَ عاملٍ لها على مر العَام فقط.


والقصيدةُ الأخرى ـ أيضا ـ للشاعر عبدالله البردوني، وليست بعيدة عن سابقتها، بل مجسدة تلك الحالة المزرية بصورة أجلى وأوضح. والقصيدتان كلتاهما تتذكران المآسي، وكلتاهما تتغنيان بالوطن، وكلتاهما تنتهيان بأملٍ مغدور. كما أن كلتيهما أشَارتا لفترة الإمَام يحيى، والحقيقة لكل فترات الأئمَّةِ سابقا ولاحقا.. وعنوان الأخيرة: "غريبان وكانا هما البلد".


من ذلك الوجه؟ يبدو أنه "جَنَدي" لا.. بل "يريمي" سأدعو ، جدّ مبتعد
أظنّه "مكرد القاضي" كقامته لا؛ بل "مثنى الرداعي" "مرشد الصّيدي"
لعلّه "دبعيٌ" أصل والـده من "يافع" أمُّه من سورة المسد
عرفته يمينا في تلفّته خوف وعيناه تاريخ من الرمد
من خضرة القات في عينيه أسئلة صفر تبوح كعود نصف متّقد
رأيت نخل "المكلا" في ملامحه شمّيت عنب "الحشا" في جيده الغيد
من أين يا بني؟ ولا يرنو، وأسأله أدن قليلا.. صَباح الخير يا ولدي
ضَمّيْتُه مِلءَ صَدري. إنَّه وطني يبقى اشْتياقي وذوبي الآن يا كبدي
*


يسعد صَباحك يا عمّي. أتعرفني؟ فيك اعتنقت أنا، قبّلت منك يدي
لاقيت فيك "بكيلا" "حاشدا" "عَدَنًا" ما كنت أحلم أن ألقى هنا بلدي
رأيت فيك بلادي كلّها اجتمعت كيف التقى التسعة المليون في جسد؟
*


عرفتُ من أنت يا عمّي، تلال "بنا" "عيبان" أثقله غاب من البرد
"شمسان" تنسى الثريّا فوق لحيته فاها وينسى ضحى رجليه في الزبد
"بينون" عريان يمشي ما عليه سوى قميصه المرمريّ البارد الأبدي
صخر من السدّ يجتاز المحيط إلى ثانٍ ينادي صداه : من رأى عُمُدي؟
*

ما اسم ابن أمي؟ "سعيد" في "تبوك" وفي "سيلان" "يحيى" وفي "غانا" "أبو سند"
*

وأنت يا عمّ؟ في "نيجيريا" "حسن" وفي "الملاوي" دعوني "ناصر العندي"
*

سافرت في سنة "الرامي" هربت على عمّي غداه قبرنا "ناجي الأسدي"
من بعد عامين من أخبار قتل أبي خلف "اللُّحيّة" في جيش بلا عُدد
أيام صاحوا: قوى "الإدريسي" احتشدت وقابلوها: بجيش غير محتشد
*

رحلت في ذلك التَّارِيْخ أذكره كأنها ساعة يا "سعد" لم تزد
صباح قالوا: "سعود" قبل خطبتها حبلى. و"حيكان" لم يحبل ولم يلد
و"الدودحيّة" تهمي في مراتعنا أغاني العار والأشواق والحسد
ودّعتُ أغنامي العشرين "محصنة" حتى أعود، وحتى اليَوم لم أعد
*
من مات يا ابني؟ من الباقي؟ أتسألني! فصول مأساتنا الطولى بلا عدد
ماذا جرى في السنين الست من سفري؟ أخشى وقوع الذي ما دار في خلدي
مارست يا عمّ حرب السبع متقدا تقودني فطنة أغنى من الوتد
كانت بلا أرجل تمشي بلا نظر كان القتال بلا داعٍ سوى المدد
*
وكيف كنتم تنوحون الرجال؟ بلا نوح. نموت كما نحيا، بلا رشد
فوجٌ يموت وننساه بأربعة فلم يعد أحد يبكي على أحد
وفوق ذلك ألقى ألف مرتزق في اليَوم يسألني: ما لون معتقدي؟
بلا اعتقاد، وهم مثلي بلا هدف يا عم ما أرخص الإنسان في بلدي!
والآن يا ابني؟ جواب لا حدود له. اليَوم أُدجي لكي يخضرَّ وجه غدي.

 

حين زار سيفُ الحَق إبراهيم نجلُ الإمام يحيى شرقَ أفريقيا عقب انضمامِه لحركة الأحرار اليمنيين في عدن، شاهدَ تلك المناظر المزرية، ورقَّ قلبه لحالهم فكتبَ إلى أخيه السَّيف أحمد: "أخي أحمد أمير لواء تعز، حفظه الله، وبعد: فإنَّ الحاضرَ يرى ما لا يراه الغائب، وقَدْ رأيت المناظر التي توجب غضبَ الله علينا، رأيتُ اليمانيين المشردين، العُراة الجائعين في كل شَارعٍ ومحل في أسمره، وأديس أبابا، وعدن وغيرها، ورأيتُ اليمانيين الذين يشكون أشدَّ أنواع الظلم الذي نزل بهم من أولي الأمر في اليَمن، فتركوا بلادهم فرارًا من الظلم الصَّارخ الذي أصابهم، وسمعتُ ما أذهلني، ولست بحاجةٍ إلى شَرح قضايا اليَمَن التي تعلمونها والله وتتغافلون عنها، غير أنه يجبُ علي أن أحيطكم علما أنَّ موقفَكم وموقفنا وموقف الحكومة محاطٌ بالخطر، ولذلك فأنا لا أسْتطيع الرجوعَ إلى اليَمَن بعدما تجلت لي الحقيقةُ الناصعَة، بيد أني أنصحُكم نصيحة أخٍ لكم أن تبدلوا خطتكم القاسيَة وأحكامَكم التي جلبت السخط وحب الانتقام في النفوس.."


ومما يبعث على الأسى أن اليمنيين في بِلاد المهجر ــ وهم بهذا السوء، من ضنك المعيشة ونكد الحال ــ كانوا يفضلون تلك البلدان على العودة إلى بلدهم، وكم هِي الفجائعُ التي كانت ترزؤهم حينما كانوا يسمعون أحيانا أن سُلطات هَذِه البلدان ستقوم بترحيلهم إلى بلدهم. وكفى بالمصيبة حين تسمع من يهددك بإعادتك إلى بلدك الذي جئت منه! ففي الوقت الذي يتشوق الكثيرون إلى العودة إلى أوطانهم فرحين مستبشرين، إلا أن اليمنيَّ ـ يومها ـ كان يرى ذلك من قبيل العذاب الأكبر الذي لا طاقةَ له به!


كفى بكَ داءً أنْ ترَى الموْتَ شافِيَا وَحَسْبُ المَنَايَا أنْ يكُنّ أمانِيَا.