الثلاثاء 19-03-2024 10:07:15 ص : 9 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

مقاصد الصيام (الحلقة 1) تحرير الروح

الأربعاء 22 مارس - آذار 2023 الساعة 10 مساءً / الإصلاح نت - خاص - عبد العزيز العسالي
  


قبس من الذكر الحكيم:

قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" (البقرة، 183).

- القرآن المجيد يهدينا إلى مقاصد النصوص بوضوح لا لبس فيه ولا غموض.

- تضمنت سورة البقرة خمس آيات هادية واضحة الدلالات حول تشريع الصيام ومقاصده.

- غير أننا سنسلط الضوء حول مقاصد الصيام بصورة موجزة وذلك فيما يلي:

 

أولا، مقاصد الصيام تحرير الروح:

1- نصوص القرآن الهادية دلت أن الإنسان مكون من عنصرين: الطين، والنفخة الإلهية العليا.. "إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين".

2- بديهي أن العنصر الطيني يقوم على:
- الملذات الحسية - طعام، شراب، نوم، لباس، زواج... الخ.
- الروح يحتاج إلى غذاء خاص يتناسب ونورانية الروح، لأن مصدرها النفخة النورانية العليا المقدسة.

3- الله العليم بما خلق اقتضت حكمته إمداد الإنسان بما يقيم جسده وروحه في آن، وصدق الله القائل: "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير".

وبما أن كتلة الجسد تتغذى بالشهوات، فإن الشهوات قد تحجب الروح عن مصدره النوراني الأعلى، لكن من رحمة الله العليم بضعف الإنسان، فقد اقتضت حكمته ورحمته تشريع محطات تغذية الروح حتى يتمكن من قيادة الجسد نحو التزكية صقلا واستكمالا لفضائل الروح واقترابا من مصدرها - تحقيقا وصولا إلى مكانة "النفس المطمئنة".

وبناء على ما سبق، نكون قد فتحنا نافذة على العنوان المحوري وفروعه في السطور التالية:

  

أولا، تحرير الروح:

1- عقيدة التوحيد هي المحطة الأولى لتحرير الروح، ذلك أن الروح لا تستقر ولا تطمئن ولا تأنس إلا بالقرب من مصدرها العلوي النوراني المقدس: "ونفخت فيه من روحي".

2- عقيدة التوحيد أساس تحرير الروح وانعتاقها من شهوات الجسد.

3- مفهوم تحرير الروح يعني أن الروح تحلق عاليا حول العرش.

4- التمرد على الشهوات: التحليق عاليا حول العرش يعزز تحرير الروح بثلاثة عوامل هي: لذة الانتصار على الشهوات، والتمرد عليها، أما العامل المحوري هو عدم الخضوع للمخلوق، وهنا يكون المؤمن قد امتلك ناصية الحرية - تحرير الروح، وهنا يدخل المؤمن إلى مكانة النفس المطمئنة، فيقوى ثباته، كونه أصبح مدركا، واثقا، أن الحياة الحقيقية هي حياة الروح، ولا حياة حقيقية للروح إلا بالقرب من خالقها، وهنا يصبح الروح متحكما في قيادة الجسد.

وبما أن الإنسان يعيش في الأرض مع الزوجة والولد ومتطلبات العيش والصراعات، فلا شك أنه يتأثر بدرجة أو بأخرى كونه مخلوق ضعيف: "وخلق الإنسان ضعيفا".. هنا اقتضت حكمة الخالق العليم تنويع مصادر "تحرير الروح"، وهذا المصدر هو موضوع المحور التالي.

  

ثانيا، مقاصد الصيام - تحرير الروح:

1- الصيام هو المحطة الثانية لتحرير الروح، نجد ذلك في النص الأول قائلا: "كتب عليكم الصيام".

2- إيضاح الهدف المقاصدي - "لعلكم تتقون".. يا الله.. لك الحمد يا رحيم.. فهو سبحانه لم يقل اسمعوا وأطيعوا، اغمضوا أعينكم واستجيبوا لي فأنا أعلم بما ينفعكم.. نعم هو عليم بخلق الإنسان، ولكنه خاطبه بوضوح المقاصد والأهداف بأن مقصد الصيام يستهدف تحقيق التقوى في النفس المؤمنة.

3- محطة الصيام لها دور غير عادي في تعزيز "تحرير الروح"، غير أن شهوات الجسد وملذات الحياة وزهرتها ومطالب الزوجة والولد... إلخ، كل ذلك له أثره على الروح، فيأتي الصيام - أياما معدودات.. يقول للروح: تحرر من أقوى الشهوات الملازمة للجسد والمربكة لك أيها الروح.

نعم، تحرر من الملذات وإن كانت حلالا، تحرر ساعات النهار فقط ليس كثيرا.

4- التقوى - مقصدا وهدفا: مفهوم التقوى هنا له مقصد تربوي تزكوي عميق الدلالة نجده في: "لعلكم تتقون".. هكذا يجب أن تتجه الروح المؤمنة إلى مصدرها العلوي، ذلك أن البعض قد يذهب إلى فهم سطحي مفاده "الصيام تأجيل فترة تناول الطعام"، فجاء النص الهادي يحدو العقل والروح والوجدان قائلا: "لعلكم تتقون".

5- رضا الله هو دافعك وهدفك: اعلم أن حقيقة التقوى هي الفوز بمكانة أعلى، إنها مكانة "ورضوان من الله أكبر".. خلّ عينك على الهدف الأسمى.

  

ثالثا، المقاصد التربوية:

بما أن تحرير الروح هو الهدف المحوري للصوم - الفوز برضوان من الله أكبر، فهل هنالك مقاصد وأهداف أخرى؟

الجواب نعم: هنالك أهداف.. هنالك قيم سامية طالما خطبها إليها العقلاء ذوو الهمم العالية، وعجز أمامها عُبٍاد الشهوات على مستوى الأفراد والجماعات والشعوب والدول.

سنشير إلى أبرز الأهداف الفرعية وهي:

1- بناء الإرادة القوية: تحقيق مقاصد الصيام -التقوى- أقوى عوامل بناء الإرادة، ذلك أن سمو الهدف ونبل الغاية والمقصد (الفوز برضوان الله) يرسخ الثقة بالنفس ويخلق الوعي الراشد إلى درجة أن المؤمن يسمع صوتا يحدوه قادم من مسارب اللاوعي قائلا: "من لمح نور الرضا هان عليه ظلام التكليف".

وعليه، فلا نستغرب عظمة الانتصارات التي حققها المسلمون في كبريات معارك الجهاد والفتح الإسلامي والتي غيرت مجرى التاريخ.

أترك التعليق للقارئ الكريم.

2- العيش للمبادئ: هذه القيمة ملازمة لبناء الإرادة، ذلك أن قوة الإرادة تأتي من قوة التزام المبادئ والعيش لها.

3- تحطيم صنمية الأشخاص والأشياء: قوة الإرادة، والعيش للمبادئ، لا تجتمع مع صنمية الأشخاص ولا مع اللهاث وراء الأشياء - معادلة واضحة المنطق - إمّا مبادئ، وإمّا أشخاص.. ولكن أنّى لذوي الطباع اللاهثة وراء الأشياء اللاعقة لأحذية الأشخاص أن تتحرر أرواحهم؟

وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم

4- تحقيق التغيير: هنا معادلة تقول: إرادة + مبادئ = تغيير.

نجد مكونات المعادلة الآنفة تبدأ من أوليات عادية هي تغيير عادة المؤمن - فترة تناول الطعام + الالتزام بفريضة الصيام + استحضار مقصد الصيام - تحقيق التقوى + تحليق الروح حول العرش= تحرير الروح> قوة إرادة> عيش للمبادئ> تحقيق التغيير.

يمكنك أيها القارئ العزيز تسريح النظر دقائق لترى الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم خرج من مكة مطاردا، وبعد سنوات لا تتعدى أصابع اليدين يدخل مكة ثم يصل إلى تبوك، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم بعقد ونصف العقد يكون الصحابة قد غيروا ثلث الكرة الأرضية.

سيقال تلك معجزات نبوة، والجواب: تلك الانتصارات كلها كانت وفق سنن إلهية، ابتداء من تحرير الروح... إلخ ما سبق.

الجدير ذكره أن من أبرز القيم التربوية الاجتماعية الإنسانية والحضارية "قيمة الإنفاق"، لكننا نأمل تحريرها في حلقة خاصة.

 

رابعا، محفزات عالية القدسية:

1- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: "عبدي يدع طعامه وشرابه من أجلي".

وفي صيغة أكثر عمقا ودلالة: "عبدي يضع لذته وشهوته من أجلي، اشهدوا يا ملائكتي أني قد غفرت له".

2- الصوم لي وأنا أجزي به: هذا التحفيز القدسي متكامل الدلالات أبرزها الثناء العظيم من جبار السموات والأرض، يحمل استفهاما تقريريا يحمل الإشادة قائلا: عبدي "يدع شهوته، لذته" من أجلي - إنه عين المعنى "لعلكم تتقون".

إذن، الصوم لي، والجزاء عندي لا يعلمه أحد غيري.

تلكم هي أبرز مقاصد الصيام المتصلة بذات الإنسان أولا، وأبرز القيم المنبثقة عنها ثانيا.. على أمل اللقاء بعونه سبحانه في الحلقة الثانية.

كلمات دالّة

#اليمن