الجمعة 19-04-2024 05:02:57 ص : 10 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

معوّقات بناء فقه الأمة (الحلقة 1) المعرفة المغلقة

الخميس 23 فبراير-شباط 2023 الساعة 08 مساءً / الإصلاح نت-خاص | عبد العزيز العسالي

 


أولا، ضبط المفهوم:

تعمدنا تركيب عنوان الحلقة بصورة تحمل التناقض تماما: معرفة، ولكنها مغلقة.

تركيب العنوان على النحو الآنف يستند إلى دلالات صريحة صحيحة يعرفها كل من انتظم في طلب الفقه الشرعي بل وفي دروس الوعظ الشرعي.

سيجد القارئ أنه لا فرق بين الفترة الزمنية في تكوين العقلية الفقهية طالت أو قصرت، بل إن الذي طال انتظامه يكون أكثر انغلاقا وعجزا عن فهم النص الشرعي وتنزيله على الواقع - مواجهة متغيرات الحياة.

وعليه يمكننا أن نؤكد على ما قلته مرارا: إن الأزمة المحورية المركزية في هذا الصدد هي غياب منظومة المنهج المقاصدي.

غياب منظومة المنهج المقاصدي انعكس سلبا تجاه تكوين العقلية الفقهية، والنتيجة هي "المعرفة المغلقة".

ثانيا، مكونات المعرفة المغلقة:

مفهوم المعرفة المغلقة توصلنا إليه من خلال النظر العميق في طرق وأساليب تكوين العقل الفقهي، وقد وجدنا أن تكوين العقل الفقهي يواجه ترسانة من "المغالق" العقلية، وإن شئت قل: أقفال يكتسبها طالب العلم الشرعي، حيث يصطدم بمنظومة متظافرة من المفاهيم المربكة والتي تحاصر فكر طالب الفقه الشرعي، والنتيجة الحقيقية هي أننا قد صنعنا عقلية "المعرفة المغلقة" بامتياز.

مفردات مكونات الترسانة الصانعة للمعرفة المغلقة هي موضوع السطور التالية:

1- التلقين لجزئيات الفقه، بدءا من المياه والطهارة... إلخ.

2- التلقين الأخطر: يصاحب التلقين للجزئيات تلقين أخطر يتضمن التأكيد على أهمية التقليد لمذهب فقهي معين وليس للدليل الشرعي.

3- مبررات التزام التمذهب: كثيرة هي المبررات التي لا تخلو من مغالطات مصحوبة بجرس صوتي وتقاسيم الوجه الموحية برهبوت فكري، ومنها قولهم: امش خلف "مذهب" وستجد نفسك ذات يوم في ساحل الشريعة جنبا إلى جنب مع كبار فقهاء المذاهب، وبدون اقتفاء مذهب محدد فالضياع والتيه.

4- الترهيب من اتباع الدليل: هذا الترهيب يأتي في إطار تحريم الانتقال بين المذاهب، ولو كان هذا الانتقال بحثا عن الدليل الأصح، وهنا يبرز أسلوب ماكر: "التنقل بين المذاهب" زندقة.

5- اتهم عقلك بالقصور: هكذا يقال لطالب العلم الشرعي الذي جاء ليبني فكره فقهيا لكنه يلاقي مغاليق وأقفالا مربكة تماما.. المهم لا تفكر، وإمام المذهب قد فكر لأجلك، ويجب تقديس إمام المذهب بل رجاله هكذا دون تفريق بين الاحترام والتقديس.

6- مفردات متن المذهب مقدم على الدليل: هذا المفهوم حاضر بقوة طيلة زمن التكوين، والمثال التالي بمثابة رأس الجليد: هذا شيخ حافظ للقرآن، وللنحو، ومتن المذهب، طاعن في السن، والمجتمع ينظر إليه بتعظيم بحسب المتوارث، فالحافظ هو العالم بلا نزاع.

باختصار، قلت له: يا شيخ، الحديث النبوي يقول: "لا تستقبلوا القبلة ببول ولا تستدبروها ولكن شرّقوا وغرّبوا"، هل هذا خاص بالجزيرة العربية أم بسائر البلدان؟ وأضفت قائلا إن سكان مصر إذا شرّقوا فقد اتجهوا إلى القبلة تماما.
أجاب: نص الشافعي أنه لا يجوز استقبال القبلة.
كررت السؤال: يا شيخ، الحديث يقول: "شرّقوا"، فهل يجوز لسكان مصر مخالفة الحديث؟
الجواب: الشافعي منع ذلك. وأضاف هذه المقولة: "الرأي ليل والحديث نهار".

انظروا إلى المقولة جيء بها دفاعا عن الحديث النبوي، ولكن المقلدين يستشهدون بها لصالح المذهب بطريقة فجة.. قل لي بربك إن لم تكن هذه هي صناعة المعرفة المغلقة فما هي إذن؟

7- طاعة ولي الأمر مقدمة على المذهب: الشيخ يملي على الطلاب نصوص المذهب قائلا: وعندنا لا يجوز للمرأة أن تملك بالمرأة ولو كان أبوها قد وكلها أن تملك بأختها.

شخص زائر للشيخ سأل: يا شيخ، المرأة أصبحت قاضية ومحامية ووكيلة نيابة وأمينة شرعية وصدر بها قرار تعيين من رئيس الدولة.
أجاب الشيخ بلغة لا تخلو من ارتباك قائلا: هذا المذهب، ولكن طاعة ولي الأمر مقدمة.

تلكم نماذج سريعة، وهناك إشكالات كثيرة ناتجة عن المعرفة المغلقة.

ثالثا، التقليد في أصول الفقه:

1- هذه إشكالية أكثر تعقيدا وأكثر خطورة على المستويات العليا من الفقهاء المقلدين للمذاهب، إنها الإشكالية الأسوأ في إغلاق التفكير الفقهي، كما أنها تصنع إشكاليات عدة في آن، منها التعصب الأعمى للمذهب، والانغلاق العقلي والممانعة، والعجز عن الفهم الأصولي أولا، والفشل في تقديم الحل ثانيا.

2- مفهوم أصول الفقه: أصول الفقه هي آليات لفهم النصوص، بمثابة مفاتيح بيد مهندس الماكينات، ولكن هذه الآليات، بسبب التقليد، تحولت إلى أقفال على التفكير الفقهي.

3- من فسر القرآن برأيه -وإن أصاب- فقد أخطأ.. هذا مفهوم حاضر بقوة، وهيهات هيهات للتفكير أن يلتفت إلى النص مهما كان صريحا، والحل هو التقليد والعجز.

4 الإجماع السيف المرعب: فهم الإجماع عند مقلدة الأصول يبعث على البكاء، كونه يعتبر نقل المتأخرين عن السابقين هو الإجماع.

من جهة ثانية، إذا رأى المقلد كلمة إجماع فلا يتحقق من صحة نقل الإجماع، ولا ينظر في دليل الإجماع، ذلك أنه تلقى مفهوما يقول لا يشترط النظر في دليل الإجماع، التسليم وكفى.

5- التكفير أسرع من البرق: لو جاء من يناقش بعلم ومعرفة فكرة حصول الإجماع في مسألة ما، فالمخالفة للإجماع هي عين الكفر.

باختصار، لا عبرة بأي دليل أمام السيف الصدئ، الإجماع، الذي يتم إشهاره في وجه البحث العلمي الصحيح، فالإجماع مقدم على الكتاب والسنة** والعياذ بالله.

رابعا، القياس:

1- السياق التاريخي الذي نشأت فيه فكرة القياس، انعكست على القياس تعقيدا بالغ الصعوبة.

2- فقر بالغ في الأمثلة: مهما بحثنا في القياس فلن نجد سوى مثال واحد هو: علة تحريم الخمر هي الإسكار، وبالتالي فالنبيذ حرام لأنه مسكر.

إنها معركة جدلية مذهبية في غاية العماية، فالعقل المقلد يقرأ 400 صفحة حول العلة دون أن يجد مثالا واحدا، ومع ذلك يصرخ قائلا: القياس هو المصدر الرابع للتشريع.

3- المصلحة الشرعية: المصلحة الشرعية تمت إضاعتها من قبل التقليد المذهبي في الأصول، وبالتالي فإذا جاء من ينظر إلى المصلحة فحكمه على الأقل مبتدع زائغ.

أكتفي بهذا القدر، على أمل اللقاء في الحلقة 2: السنة بين أزمة الفهم وأغبياء التغريب.

....................
هامش:

* تنويه:
- خلال الشهرين المنصرمين، ديسمبر ويناير، تحدثنا حول بناء شخصية الأمة في 5 حلقات، وحول بناء الأمة الوسط في 4 حلقات.

- للتذكير نشير بإيجاز إلى أبرز مكونات بناء فقه الأمة وهي: التوحيد، التزكية، عمارة الأرض، كرامة الإنسان، القيام بالقسط، العدل في الحكم، التعارف، الوسطية، التعاون على البر بما في ذلك فقه السنن الحاكمة للاجتماع.

** البحث في الدراسات الإسلامية، كتاب مقرر على طلاب الدكتوراه، د. عبد الوهاب أبو سليمان، ص 14، وص 27.

كلمات دالّة

#اليمن