الخميس 28-03-2024 12:32:04 م : 18 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

من مقاصد القرآن: فقه منظومة سنن الواقع (الحلقة 2) مؤهلات الأمة الوسط.. تفعيل منظومة سنن الواقع

السبت 21 يناير-كانون الثاني 2023 الساعة 06 مساءً / الإصلاح نت - عبدالعزيز العسالي

 

 

أولا، لماذا تفعيل منظومة سنن الواقع؟ هل بالإمكان معرفة مقاصد القرآن ومقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم في تفعيل منظومة سنن الواقع؟

الجواب: لن نكون مبالغين إن قلنا إن الإجابة على الأسئلة الآنفة تحتاج وقفات طويلة، لكن وبعد طول نظر في مقاصد القرآن، والتأمل في مقاصد جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم فكريا، استخلصنا الإجابات التالية.

 

لماذا السنن؟

1- تفعيل مبدأ التسخير الوارد في القرآن: "وسخر لكم ما في السموات والأرض جميعا منه".

هذا التسخير الكوني جزء لا يتجزأ من عقيدة الإيمان بالله وكتبه، وهو مراد الله وقضاؤه الكوني المضطرد الذي لا يتغير.

2- نص القرآن أن المقصود من خلق الإنسان هو عبادة الله وعمارة الأرض وفقا لمبدأ التسخير.

3- بما أن الإنسان هو مناط التكليف - عبادة وعِمرانا، فها هو الإنسان منذ أن سكن آدم الأرض، بل وكل واحد من ذريته من لحظة خروجه إلى هذا الوجود، ها هو محاط بالسنن الحاضنة المختلفة حتى وفاته.

فهذه من القضايا البديهية المدركة بالعقل البسيط، كونه يتعاطى مع منظومة السنن الحاضنة للوليد بدءا من سنة التدفئة للوليد فور خروجه مرورا بالرضاع... إلخ.

4- معيار الفكر والثقافة: إذا أردنا معرفة درجة المفكر والمثقف والفيلسوف، فالمعيار هو موقفه من السنن - اكتشافا لها، وإدراكا لعلاقاتها وأبعادها ونتائجها ومآلاتها - استشراف المستقبل سلبا وإيجابا.

وغياب معيار منظومة السنن لديه، فليس مفكرا ولا مثقفا ولا عبرة بحفظه لخزائن الكتب فهو بمثابة "فلاشة" أو "سِي دي" وما شابه ذلك.

 

ثانيا، الجهاد الفكري للرسول صلى الله عليه وسلم.. أهداف ومقاصد:

الجهاد الفكري في السنة العملية للرسول صلى الله عليه وسلم علمنا الالتزام بتعاليم القرآن - إرساء عمليا مقاصديا، استثمار مبدأ التسخير وتطبيقا منهجيا لوظيفته صلى الله عليه وسلم في تعليم الكتاب والحكمة كما رسمها القرآن وترسيخا للنظرية المنهجية الكلية في القرآن، في قوله تعالى: " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني".. وإليك أبرز المقاصد والأهداف النبوية:

1- منهجية إرساء مؤهلات الأمة الوسط.

2- منهجية إرساء المنظومة الشاملة لواقعية سنن الأمن الحضاري - حماية للأمة من المهددات الداخلية والخارجية*.

3- إرساء منهج الاقتداء الداعي إلى امتلاك مؤهلات الريادة - تبوؤ مركز "الأمة الوسط" والحفاظ عليه، والاستمرار فيه.

4- إرساء منهجية الوعي الفكري والثقافي الناطقة بلسان المقال والحال: أن مؤهلات مكانة الأمة الوسط هي التزام مقاصد القرآن في تفعيل منظومة سنن الواقع، وأن تفعيل منظومة سنن الواقع هي جزء من عقيدة الإيمان بالله وبكتابه وبرسوله.

 

ثالثا، لمحات من الجهاد الفكري للرسول صلى الله عليه وسلم:

1- السرية التامة في بداية الدعوة.

2- حركة الرسول صلى الله عليه وسلم -تاجرا في أسواق الحجاز وما جاورها- للتجارة والدعوة في آن، وهنا سنّتان متداخلتان - الاعتماد على الذات - تجاريا، وفي ذات الوقت، توظيفا للعلاقات والتعارف والوجاهة والثقة الناتجة عن الدبلوماسية التجارية. ونجد أن القرآن سجل هذا التصرف النبوي السنني، ولكن بلسان خصوم الرسالة، قال تعالى: "وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق".

3- استحقاق التأييد السنني من الله: قريش تحارب الدعوة وتناصب الرسول أسوأ أنواع العداء والإيذاء والتنكيل بالصحابة الذين ليس لهم قبيلة تحميهم.

السنة الواقعية الاجتماعية في الجزيرة جعلت قبائل الجزيرة أفرادا وجماعات تتجه إلى اعتناق الإسلام، ذلك لو أن قريشا دخلت في الإسلام سيكون موقف بقية القبائل هو الرفض بل والسخرية من قريش، ولسان الحال والمقال هو أن قريشا بدؤوا بسدانة الكعبة وادعاء السيادة المكية وأخيرا أعلنت أنها صاحبة رسالة سماوية. إذن، سيكون موقف قبائل الحجاز ويثرب وغيرها هو الإعراض عنادا لقريش.

وتلك هي طبيعة القيم القبلية، فجاءت سنة التأييد الرباني، أن قريشا ترفض وتحارب الإسلام، فتأتي القبائل مسلمة وحامية.

4- تفادي سُنة تآكل الذاكرة المجتمعية: الرسول صلى الله عليه وسلم يتخذ عددا كبيرا من الكُتّاب - يكتبون القرآن، إلى جانب حفظه في الصدور، وهنا سنة منهجية في التوثيق يجب على الأجيال التعاطي معها بقوة، ذلك أن الذاكرة الجمعية تتآكل بمرور السنين فتتلاشى الفكرة وتتقزم، إلى الحد الذي تشُذّ فيه الأفهام إلى حد النقيض.

5- أسماء السور.. بذور الحضارة: التدوين والتوثيق النبوي للقرآن المجيد، ووثيقة المدينة وصلح الحديبية وغيرها، يرسخ جانبا هاما من منظومة سنن الواقع تجسيدا لبذور الحضارة الواردة في أسماء بعض سور القرآن التي نزلت مبكرا -في العهد المكي: "اقرأ باسم ربك"- قراءة الكتاب المسطور وقراءة الكون المنظور.

- القلم: "نون والقلم وما يسطرون".

- الحديد: "أنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس".

فالقراءة والقلم هما أساس الحضارة - نظريا وطريقة منهجية، والقلم يثبت ويدوّن ويوثّق، والحديد هو القوة المادية: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة".

باختصار، نجد سنة التدوين والتوثيق أرست وجسدت سنن اجتماع وتاريخ وحضارة.

6- إقامة سوق تجارية - بورصة: وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأقام سوقا تجارية خاصة بالأوس والخزرج، ولا يعني هذا مقاطعة أسواق اليهود، ولكنه تخطيط للمستقبل - خطوة نحو استقلالية الأمة، بل وركيزة اقتصادية تمثل إحدى المؤهّلات البارزة تكوينا للأمة الوسط.

7- الاستقلال الديني والثقافي: قال تعالى: "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها".

هذا النص المجيد يقول لنا:

- إن الاستقلال الثقافي كان حاضرا بقوة عند الرسول صلى الله عليه وسلم، بل لن نكون مبالغين إذا قلنا إن استقبال الكعبة قد مثّل هاجس استقلال مؤرّقٍ للرسول صلى الله عليه وسلم -"نرى تقلّب وجهك في السماء"- نرى تقلّب، صيغة فعل مضارع، مستمر، أي أن الرسول طال دعاؤه ورجاؤه لله أن يعطيه الله قبلة غير قبلة المسجد الأقصى.

- هاجس الاستقلال الثقافي كان حاضرا لدى الصحابة كسائر الأهداف التي رسخت روح الصمود والثبات والتضحية والمبادرة، الأمر الذي يدل على تعليم الحكمة في التربية النبوية - أهدافا، ووظائف، ومآلات، فانظر أيها القارئ العزيز في هذا الموقف: الدوران 180 درجة.. صحت الروايات أن الوحي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم بشأن الصلاة إلى الكعبة المشرفة وذلك عند صلاة العصر، فتوجه الرسول صلى الله عليه وسلم فورا إلى الكعبة، وبعد انتهاء الرسول انطلق أحد الصحابة إلى بعض جهات المدينة وكان فيها مسجد فوجدهم يصلون إلى بيت المقدس فقال لهم: أشهد أن القبلة تغيرت.. فالتف المصلون فورا صوب مكة.

الجدير ذكره أن استدارة الصحابة كانت بلغة الهندسة 180 درجة، ذلك أن استقبال مكة يجعل بيت المقدس خلف ظهر المصلي تماما والعكس صحيح. بصيغة أوضح، أن إمام المسجد تحول إلى مكان آخر صف، وآخر صف تحول إلى مكان الإمام.

 

الدرس السنني الواقعي هنا يعني:

 - أن هاجس الاستقلال الثقافي والديني كان حاضرا بقوة في ذهنية الصحابة - حاضرا أهمية، وهدفا، ووظيفة، ومآلا، والدليل أنهم استداروا فور سماعهم كلام الصحابي دون تردد، الأمر الذي يعني تطلع الصحابة واشتياقهم إلى تغيير القبلة بخلاف مواقف أخرى تكررت من الصحابة يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن قضايا جديدة بهدف التأكّد قائلين: يا رسول الله أوحيٌ هو؟

8- الواقع الذي يصنعه الآخر.. نموذج الربا في أسواق المدينة: هذه سنة واقعية جسدها التعليم النبوي عمليا، علما بأن النصوص القاطعة قد نزلت مسبقا، قال تعالى: "وما أتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون" (الروم، 39).. هذه سورة مكية، وفي آخر سنة 8 أو أول سنة 9 هجرية نزلت الآية: "يمحق الله الربا ويربي الصدقات".. لاحظ أيها القارئ أن النصين اتحد معناهما تماما، غير أن النص الأخير نزل بعد الهجرة بثماني سنوات، ومع ذلك لم يعلن الرسول صلى الله عليه وسلم تحريم الربا واضعا إياه تحت قدميه إلا في حجة الوداع، ذلك أن أسواق مكة والمدينة تخضع للاستيراد من كل أسواق الجزيرة العربية، وإعلان تحريم الربا سيكون فيه حرج اقتصادي واجتماعي وتجاري، فالتاجر القادم من أطراف الجزيرة إما أنه لم يدخل الإسلام، وإما أنه لم يصله البلاغ، وبالتالي لن يتنازل عن معاملاته المعهودة.

لقد كانت هذه السنة الاجتماعية مؤثرة في واقع أسواق مكة والمدينة، فتعامل معها صلى الله عليه وسلم من موقع النظر إلى منظومة سنن الواقع فأعلنها بحضور عشرات الآلاف من الحجيج يوم حجة الوداع، وهنا نقلها آلاف الحجاج بما لا يدع مجالات للشك في أطراف الجزيرة العربية، وهنا تكون الحجة قد قامت على الجميع، وبالتالي فلن يقدم أحدٌ على تعاطي الربا وستمضي أمور التجارة بانسياب دون نزاعات.

9- معركة مؤتة واتفاق تبوك: حقد فارس والروم ضد دولة الإسلام الجديدة في صحراء الحجاز بلغ حدا لا يطاق لديهما.

كانت دولتا فارس والروم على إحساس منهما بخطورة قيام الدولة القائمة على أساس ديني سماوي تمتلك قرار سيادتها واستقلالها، حيث كان المنافقون يمدونهما بكل جديد، فترسخ حقدهما تجاه الدولة الجديدة ذات الاستقلالية، فقررت الروم معركة مؤتة. واختار الرسول صلى الله عليه وسلم أن تكون المعركة على مقربة من دولة بيزنطة - الأردن حاليا، والهدف السنني هو قطع حبل التفكير الطامع باقتحام المدينة.

تلا ذلك سنة 9 هجرية خروج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تبوك المتاخمة للفرس والروم، وانتهى الموقف بمعاهدة وعدم القتال.

 

هذا التصرف النبوي الفذ حقق أهدافا عدة أبرزها:

- سنة إرباك الخصوم المتربصين بدولة الإسلام حيث أصبحت حدودهما مهددة.

- الهدف الأهم تكامل منظومة الأمن الحضاري للدولة الإسلامية في المدينة وبقية قبائل الجزيرة العربية التي أصبحت كلها مسلمة بل مستعدة للدفاع عن الأرض الإسلامية.

- تتويج منظومة سنن الأمن الحضاري بآخر مؤهلات الأمة الوسط.

 

10- العهد الراشدي:

 - سمعت دولتا فارس والروم بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فتطلعتا إلى ابتلاع دولة الإسلام، فكانت جيوش المسلمين تهاجم في جبهتين في آن.

- لشواهد كثيرة جدا لا يتسع المقام لإيراد بعضها التي جسدت منظومة الأمن الحضاري وقيام الأمة الوسط.

ولكن إجمالا أشير إلى منظومة أعمال الفاروق السياسية والإدارية والقضائية حيث تجاوزت 72 عملا - أوليات الفاروق في بناء الدولة.

وحسب المستشرق الألماني المعاصر، أفريتش شتيبات، في كتابه "الإسلام شريكا"، قال إن كان محمد قد وضع بذرة الدولة المستقلة، فإن ابن الخطاب أقام جذع الدولة وسيقانها وفروعها... إلخ.

رابعا العهد الراشدي: الفاروق يستشرف مستقبل المؤهلات، ويستحضر المآلات:

بعد معركتي القادسية واليرموك، اتجه الفاروق رضي الله عنه إلى الشام وأقام مؤتمر الجابية خارج دمشق، وجمع قيادة الجيش في الجبهتين وقرر إيقاف الفتوحات.

وكان هدف الفاروق يعكس عمق الوعي الفاروقي بمنظومة سنن الواقع الداخلي للأمة الإسلامية التي اتسعت رقعتها، الأمر الذي يعني مدى إدراك الفاروق لأهمية البناء الداخلي لواقع الأمة المتسع المتجدد، فالواقع بحاجة إلى بناء الوعي الثقافي المنظومي السنني الشامل حتى يضمن قوة البناء الداخلي، وقد التزمت قيادة الجيش بالاتفاق الذي انتهى باغتيال الفاروق.

تلكم هي لمحات سريعة حول منظومة سنن الواقع الهادفة إلى إرساء مؤهلات الأمة الوسط.. نكتفي بهذا القدر على أمل اللقاء بكم في الحلقة الثالثة حول منظومة أخرى.

.............................

* سنتحدث تفصيلا في الحلقة الثالثة.

كلمات دالّة

#القران