الخميس 28-03-2024 22:50:17 م : 18 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

تفعيل المنهج المقاصدي في نطاق العرف المتجدد (الحلقة 2)المنهج المقاصدي.. مصدره، أساسه، آليّاته، غايته

الجمعة 23 ديسمبر-كانون الأول 2022 الساعة 04 مساءً / الإصلاح نت-خاص | عبد العزيز العسالي
 

 



تنويه:

أشرنا في نهاية الحلقة الأولى إلى أن موضوع هذه الحلقة سيكون حول وظائف المنهج المقاصدي المتفرعة عن الوظيفة المركزية.

غير أننا أرجأنا الحديث عنها إلى نهاية الحلقة، مراعاة لتسلسل واتساق المفاهيم والأفكار في ذهن القارئ، الأمر الذي استدعى البدء باستعراض مفاهيم أساسية وضرورية متصلة بالمكانة الدينية والشرعية للمنهج المقاصدي والمتمثلة في:

- مصدر المنهج المقاصدي.
- مصطلح المنهج المقاصدي حرفيا.
- آليّات المنهج المقاصدي.
- غاية المنهج المقاصدي.
- وأخيرا الوظائف الفرعية للمنهج المقاصدي.

أولا، مصدر المنهج المقاصدي:

يتميز المنهج المقاصدي بخصوصية مصدرية ربانية أساسها المحوري -إجمالا- كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وبتفصيل موجز، فإن المنهج المقاصدي متصل بالخصوصيات التالية:

1- مركزية التوحيد - أركان الإيمان كلها، فهذه الخصوصية المصدرية تعزز مكانة المنهج المقاصدي، نظرا للاتصال المتين بين عقيدة التوحيد، والقيم الكونية والخُلقية، والشريعة، والسن الحاكمة للاجتماع، ذلك أن القيم والسنن ونصوص الشريعة هي مكونات المنهج المقاصدي، وسيتضح كل ذلك لاحقا.

2- يستند المنهج المقاصدي إلى وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم التي قررها القرآن - عقيدة نظرية متمثلة في تعليم الكتاب والحكمة- أي ما يصلح الإنسان دينا ودنيا، قال تعالى: "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة".

وقد تكرر ذكر هذه الوظيفة الرسالية في القرآن كثيرا، الأمر الذي يعطينا المكانة الراسخة والمتينة والمتجذرة في أعماق العقيدة والتي هي أعظم مميزات المنهج المقاصدي - قرآنا وسنة.

3- يستند المنهج المقاصدي إلى مصدر البيان العملي -السنة العملية- التطبيق الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم تنفيذا للغاية الوظيفية التي رسمها له القرآن العظيم.

4- يستأنس المنهج المقاصدي بتطبيقات الصحابة رضي الله عنهم -العصر الراشدي- الذين قدموا تطبيقات فذة استجابة للمستجدات التي صاحبت قيام الدولة الإسلامية واتساع الفتوحات بل وعصر التابعين.

5- يستأنس المنهج المقاصدي بعودة الفقهاء إلى المنهج المقاصدي عبر التاريخ، سيما المنعطفات التاريخية الحادة التي مرّت بها الأمة الإسلامية.

6- يستند المنهج المقاصدي إلى الاتفاق بين الفقهاء حول الغاية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية وهي تحقيق مصلحة الإنسان دنيا وأخرى.

7- يتحقق الجانب التطبيقي للمنهج المقاصدي انطلاقا من النصوص الكلية الهادية للعقل والنظر إلى الواقع اقتداء بالسنة العملية للرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك عندما تتغير الأعراف وتحدث مستجدات كما حصل للصحابة والفقهاء عبر التاريخ.

إذن، مصدر المنهج المقاصدي هو الكتاب والسنة وليس الاجتهاد البشري.

- هذه المكانة الربانية الصادرة عن العليم الحكيم التي أكسبت المنهج المقاصدي مرونة في غاية القوة جعلته كفيلا باستيعاب كل المستجدات حسب الواقع الذي تعيشه الأمة ارتقاء ونهوضا حضاريا، أو حالة ضعف، قال تعالى: "فاتقوا الله ما استطعتم".

ثانيا، المصطلح اللغوي للمنهج المقاصدي:

1- مصطلح "منهج" ورد في القرآن حرفيا، قال تعالى: "لكل منكم جعلنا شرعة ومنهاجا".

2- الشّرْعة هي مجموع النصوص التفصيلية الجزئية الواردة في القرآن المنظمة لجميع جوانب الحياة.

3- المنهاج هو القيم الكلية التي وردت بصيغة إجمالية - الشورى نموذجا.. فالشورى أم القيم السياسية الحاكمة للاجتماع ويحتاج تحقيقها إلى وسائل مختلفة تحقق وتحمي مصلحة الفرد والمجموع، وفي مقدمتها الكرامة، والحرية، والمساواة، والعدل، والقيام بالقسط، وسائر الحقوق، وصولا إلى ترسيخ سبل السلام، وتصبح المقاصد ثقافة عامة لدى المجتمع كما سنوضح ذلك في محله.

4- مصطلح المنهج المقاصدي موجود في القرآن ورد من لدن الحكيم العليم في سياق جعل مصطلح المنهاج معادلا موضوعيا للشرعة، والهدف هو مواكبة المستجدات - "العرف المتجدد" في دنيا المسلمين.

ثالثا، آليات وطرق المنهج المقاصدي:

1- تعريف المنهج لغة هو: الطريق الذي يختاره الإنسان ويسلكه، كي يصل إلى هدفه المنشود.

2- تعريف المنهج اصطلاحا: المنهج في اصطلاح فلاسفة العلوم الإنسانية هو: مجموع الآليات والطرق الذهنية والإجرائية التي يسلكها الباحث في بحث قضية ما، كي يتوصل إلى حقيقة تلك القضية - سلبا أو إيجابا.

3- المنهج هو منطلق الباحث، ويستصحبه أثناء البحث، وعند التطبيق ومراعاة نتائج التطبيق ومآلاته.

4- هذا الوصف الإجرائي - بداية، ومواكبة، وتطبيقا، ومآلات، هو عين المنهج المقاصدي، ذلك أن المنهج المقاصدي ينطلق من بداية مقاصد الخلق، وأسرار التكليف، وعمران الأرض، فالله خلق الإنسان لغايات ثلات هي:
- العبادة: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون".
- التكريم للإنسان: "إني جاعل في الأرض خليفة".. "ولقد كرمنا بني آدم"... إلخ الآية.
- عمارة الأرض: أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها".
- إنزال تشريع مقدس يقرر كرامة الإنسان مطلقا، ويضبط سيره انطلاقا من غاية التوحيد والقيام بغاية عمارة الأرض وفق منهج الله التشريعي -التزام سبل السلام- تحقيقا للقيام بالقسط بين الناس، والقسط مصطلح قرآني يتضمن تحقيق كل مصالح الناس دنيا وأخرى.

إذن، المنهج يعني صحة المنطلق.

- التقييم المواكب للبحث، للتأكد من صحة الاستدلال.

- مراعاة المآلات - النتائج والآثار.

5- آليّات المنهج: الحقيقة أن القرآن ذكر سبع آليات في نصين إجماليين معادلين لمصطلح الشرعة والقرآن، قال تعالى: "شرعة ومنهاجا".. وقال تعالى: "ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم".

فالمنهاج معادل موضوعي للشرعة، والسبع المثاني معادل موضوعي للقرآن، والشرعة والقرآن يتكاملان، والمنهج والسبع المثاني يفسران بعضهما.

6- النص الجامع للدلالتين هو قوله تعالى: "الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم..." إلخ، فالتشابه يقصد به التكامل بين الألفاظ المتقاربة المتعادلة موضوعيا إلى جانب مجموع نصوص القرآن العظيم، فالقرآن يفسر بعضه بعضا باتفاق.

7- إذا نظرنا إلى أنواع الآليات الفقهية التي يحتاجها الفقيه عند القيام بالاجتهاد الاستدلالي حول قضية ما، سنجد أنها تلتقي مع السبع المثاني التي نص عليها القرآن في المصطلحات التالية: الحكمة، الميزان، البصيرة، الاستقامة، التفسير، التأويل، والوسطية.

هذه المصطلحات هي السبع المثاني، وهي الأدوات والآليات التي يجب على الفقيه أن يتقنها كآليّات وطرق إجرائية للاجتهاد.

الجدير ذكره أنه من الصعب استعراض طرق البحث التي سلكناها حتى وصلنا إلى هذا الاستنتاج.

الخلاصة:
- الحكمة هي مقصود النص.
- الميزان - فقه الموازنات.
- البصيرة هي إمعان النظر في الدليل والنتائج.
- الاستقامة هي التقوى، فليس كل منفلت يصلح أن يجتهد.
- التفسير هو إيضاح دلالة النص.
- التأويل هو تقديم الدليل الكلي على الدليل الجزئي لأن الكلي أقوى في تحقيق وخدمة وحماية المصلحة.
- الوسطية هي خصوصية أمة الإسلام فلا غلو ولا تشدد ولا تسيب وانفلات.

رابعا، وظائف المنهج المقاصدي:

في الحلقة السابقة ذكرنا أن عمل المنهج المقاصدي ينحصر في قضية مركزية محورية هي توجيه المجتهد إلى أقوى أدلة الترجيح.

من المعلوم أننا عندما نقول الوظيفة المركزية هي كذا، فالمقصود أن هناك وظائف متفرعة، ومما لا شك فيه أن الوظائف المتفرعة قد تكون أقوى، نظرا لوضوح دلالتها وقربها من القضية التي هي محل البحث والمعالجة.

أهم وظائف المنهج المقاصدي:

1- ردم فجوة الخلاف الفقهي بنسبة كبيرة.

الاختلاف الفقهي واسع جدا - أصولا وفروعا، ونحن بدورنا سنقدم أمثلة إجمالية حول اختلاف الفقهاء أصولا وفروعا.

- طرق الترجيح بين الأدلة الأصولية التي ذكرها الفقيه الرازي والآمدي وغيرهما بلغت 53 طريقة.

- الدكتور عبد المجيد السوسوة في أطروحة الدكتوراه ذكر طرق التوفيق والترجيح بين مختلف الحديث -انتبه أخي القارئ- مختلف الحديث فقط، فبلغت 120 طريقة، لكنه حدد ما يزيد عن 80 طريقة أنها محل اتفاق لدى كثير من الفقهاء والبقية محل اختلاف، وبعضها من اجتهاده هو.

- الفقيه الشوكاني، رحمه الله، وقف عند المصدر التشريعي الرابع - القياس الأصولي، فتوقف طويلا عند شروط ومسالك العلة التي يستند إليها المجتهد، فبلغت 36 شرطا ومسلكا، ثم ذكر 28 اعتراضا ضد تلك الشروط والمسالك، مؤكدا أنه لخص أهم المسالك والاعتراضات، ثم خرج بالنتيجة التالية إليك فحواها: اعلم رحمك الله فهذه المسالك والاعتراضات تنقطع دونها رقاب الإبل دون الوصول إلى حل أدنى القضايا بسبب غموض مسالك العلة من جهة، وكذلك الاعتراضات عليها من جهة أخرى.

- فقه المصالح في ضوء مسالك العلة القياسية: الأصوليون ذكروا المصالح تحت مصطلحات شديدة الغموض - أبرزها الإخالة، والمناسب الملائم، والمناسب المرسل، والأصل الموهوم.

قال كاتب هذه السطور: ويزداد الغموض والتعقيد بسبب قلة الأمثلة التطبيقية، فالمثال الحاضر عبر التاريخ هو: الخمر علته الإسكار، وعلة النبيذ هو السكر.. إذن، فالنبيذ حرام.

- ومثال مربك للعقل الفقهي حول المناسب المرسل أي المصالح، فقد قدموا المثال التالي: لو أن الكفار أخذوا أسرى من المسلمين ووضعوهم في مقدمة جبهة القتال، فعلى جيش المسلمين ينوي عدم قتل المسلمين ثم يقصف العدو فإذا مات الأسرى المسلمون فيغتفر للجيش.. هذا مثال افتراضي.

الخلاصة، حوصرت مصالح المسلمين ودفنت تماما، فتسلم الراية الحاكم السياسي مع فقهاء البلاط وظهرت التشريعات تحت مصطلح السياسة الشرعية أنها من حق الحاكم ونائبه، ولو حصل أن الحاكم شاور فقهاء الأصول فله الحق، أو لنائبه، ترجيح ما يراه.

وليس أخيرا..
- كل طرق الترجيح لم تخرج عن اختلاف الحديث، كون الروايات مختلفة جدا سندا ومتنا، ولا يوجد مثال حول المصالح المرسلة، بل إن فتاوى التفسيق والتبديع والرمي بالزيغ كل من يفتي بجواز دفع الزكاة للفقير نقدا نظرا لسيطرة التقليد الفقهي في متاهة الأصول على النحو الذي ذكرنا من جهة والعقليات الحرفية المعلبة من جهة أخرى كونها تمتلك طفرة نقدية تطبع مطوياتها وكتاتيبها.

إغلاق منافذ المنهج المقاصدي:

فقهاء الأصول السابقون واللاحقون شعروا بأزمة التأصيل الفقهي عندما واجهوا منعطفات تاريخية حادة ففتحوا نافذة المنهج المقاصدي، فنجحوا بحلحلة المستجدات من زاوية النظر المقاصدي، ولكن رعب الإرهاب الفكري والسياسي - مادي ومعنوي.. دفعهم إلى استخدام المغالطات والحيل اللغوية والتي تنطلي على العقلية المقلدة.

مثال واقعي صارخ: البنوك الإسلامية تعكس تلك الأزمة القديمة وصولا إلى الحيل والمغالطات اللغوية والنتيجة أقسى ظلما من البنوك الربوية.

تلكم معالم فشل العقل الفقهي فلم يستطع إنتاج نظرية سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية أو تربوية أو نفسية أو تاريخية.. قلت هذا لأني لم أقف على أية نظرية مما سبق حسب علمي، والتهمة تتجه إلى قصور الإسلام أنه ضد المصالح.

اعتذر تجاه التفصيل الموجز جدا فقد اقتضاه المقام ليتضح للقارئ أهمية الدعوة إلى تفعيل المنهج المقاصدي في مجال متغيرات العرف المتجدد سياسيا واقتصاديا وتربويا... إلخ.

خلاصة الخلاصات:

- الوظيفة الأولى للمنهج المقاصدي هي ردم فجوة الاختلاف الفقهي الآنفة الذكر.

2- غرس وترسيخ الطمأنينة لدى المسلم أن شريعته قادرة على حل المستجدات وتقديم أفضل المصالح.

3- غرس روح الشجاعة والثقة لدى الفقيه أنه اجتهاده شرعي ولم يخالف الشريعة طالما وهو ينطلق من إيمان وقيم خلقية، وقيم الخير والحق والعدل والسنن التي سخرها الله الحاكمة للاجتماع.

4- ترتيب سُلّم القيم والأولويات: فقه الأولويات ينطلق من الواقع المعيش وهو من صميم المنهج المقاصدي، وهذه الوظيفة أفردنا لها حلقة خاصة كما سنضيف أمثلة أخرى في بقية الحلقات.

5- اختيار أفضل الوسائل وأقرب طرق الاجتهاد: سبق وأن ضربنا مثالا - نموذج المجتمع المدني، وقلنا إن المنهج المقاصدي يقول: بما أن الغايات من خلق الإنسان هي عبادة الله وعمارة الأرض وكرامة الإنسان، فكل ما يحقق العبادة والعمارة ويحمي كرامة الإنسان -تحقيق مصلحة أو دفع مفسدة، فهو وسيلة مشروعة- نموذج المجتمع المدني، وهناك نماذج أخرى قادمة.

6- المرونة والوسطية: هذه إحدى وظائف المنهج المقاصدي فلا تيبس ولا غلو ولا تفر يط ولا إفراط، وإنما تقوى الله وعبادته حسب الاستطاعة.

7- الانفتاح الواعي ورفع الحرج: المنهج المقاصدي يقدم الرؤية الواعية المهتدية بالقضايا الكلية ويملأ الوجدان ثقة باختيار الوسيلة الأفضل والانفتاح الواعي على الأعراف المتجدد انطلاقا من القاعدة المقاصدية وهي رفع الحرج: "ما جعل عليكم في الدين من حرج".

وهذه القاعدة المنهجية المقاصدية تستند إلى 20 آية في القرآن وأكثر من 20 حديثا صحيحا.

8- خلق أرضية صلبة متينة: هذه وظيفة هامة جدا كونها تخلق أرضية منهجية متينة متجذرة في أصول العقيدة، ذلك أن الله الذي أمر بالإيمان وتطبيق الشريعة هو الذي جعل غايات الشريعة هي تحقيق مصالح الإنسان دنيا وأخرى، وبالتالي فالوسائل المحققة للمصالح والحامية لها يكون حكمها "واجب" لأنها تحمي مقاصد الشريعة، ومن هنا تقرر في المنهج المقاصدي قاعدة مقاصدية تقول: "للوسائل حكم الغايات".

9- مواكبة العرف المتجدد: بصيغة أكثر وضوحا هي أن من الوظائف البارزة مواكبة التطورات واستيعابها بمرونة شرعية من صميم الشريعة.

ورحم الله الفقيه الجويني إذ قال: من لم يعرف مقاصد الشريعة فهو بلا بصيرة بالشريعة.. ورحم الله الفقيه ابن القيم إذ قال: فقهاء السوء جعلوا شريعة الله قاصرة وتركوا الحكام يتسولون من أعداء الإسلام أحكاما وقوانين.

فكل طريق ظهر بها العدل وأسفر نوره كالصبح فثم شرع الله.

أكتفي بهذا القدر، فالوظائف كثيرة.. نلتقي بعونه سبحانه مع الحلقة (3): ترتيب سلم القيم وبناء الاجتماع.

كلمات دالّة

#اليمن