الخميس 02-05-2024 00:38:57 ص : 23 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

تفعيل المنهج المقاصدي في نطاق العرف المتجدد (الحلقة 1) المنهج المقاصدي.. مفهومه، موضوعه، غايته

الأربعاء 21 ديسمبر-كانون الأول 2022 الساعة 06 مساءً / الإصلاح نت - خاص | عبد العزيز العسالي

 

تمهيد:

كثيرة هي الكتابات حول مقاصد الشريعة الإسلامية - رسائل الماجستير، وأطروحات الدكتوراه، وبحوث ترقية إلى أستاذ مشارك، وأستاذ دكتور، وهناك كتابات كثيرة، بل اتسع الحديث في هذا الصدد من خلال انعقاد الندوات الموسعة يحضرها مفكرون كبار وأكاديميون متخصصون الذين يقدمون بحوثا علمية دقيقة، وأوراقا تعقيبية، تتلوها مناقشات طويلة في مجال الفكر المقاصدي، وكذلك كتابات في المجلات البحثية... إلخ.

وبحكم اهتمامنا المبكر في مجال الفكر المقاصدي، فإننا لم ندخر جهدا - بحثا عما سبق ذكره من تلك المخرجات.. صحيح أننا في يمننا الحبيب لم يصل إلينا إلا القليل من تلكم الكتابات، والقليل منها وجدناها تحمل عناوين ومضامين جديدة وإيجابية تعطينا دلالة ناتجة عن تراكم فكري مقاصدي مشجع، كما أن ذلك التراكم يعطينا برهانا أن الفكر المقاصدي انطلق ولن يتراجع، علما أنه لاقى ولا زال يلاقي الصعوبات المربكة، نشير إلى أبرزها وهي:

- العجز المكتسب: العجز المكتسب الذي أغلق العقل الفقهي.. بصيغة أكثر وضوحا أن العقل الفقهي استسلم للتقليد المذهبي في أصول الفقه، فحاصر ذاته باسم العلم، ولكن الحقيقة أنها "معرفة مغلقة"، ذلك أن الفكر الأصولي الموروث حمل إجابات وحاجات تأثرت بهموم السياق التاريخي فكريا وثقافيا وسياسا... إلخ، ولا يختلف عاقلان أن همومنا وتطلعاتنا الثقافية في واقعنا المعيش مختلفة تماما.

- عقلية اليسار والليبرالية: غالبية العقلية الليبرالية واليسار لا زالت محنطة بالتقليد للوافد، والقليل منها انعطف بخبث ماكر رافعا شعار التجديد المقاصدي، فانكشفت دعواها أنها غلّفت أيديولوجياتها المنحرفة المنفلتة بشعار التجديد الديني من منطلق مقاصد الشريعة.

هذا التحريف أضاف إرباكا آخر لدى العقل الفقهي، فتكاثرت مخاوفه.

- الاقتصار على أمثلة التراث: غالبية النتاج المعاصر في مجال الفكر المقاصدي للأسف اقتصر على أمثلة التراث دون غيرها، الأمر الذي استدعى أنواع الجدل القديم إلى الصدارة معززا بلغة سد الذرائع أمام العقلية الليبرالية اليسارية.

الخلاصة: جهود الفكر المقاصدي اجتازت عقدين ونصف العقد وزيادة، غير أنه لا زال في إطار التراكم، بل إن الإسهامات التي نراها جديدة على قلتها، ها هي عالقة باجترار الأمثلة من الموروث.. فأين المشكلة؟

لا شك أن الأسباب كثيرة، لكن في نظري أن الاقتصار على نقل الأمثلة والشواهد من التاريخ الفقهي، مهما كانت المبررات المنهجية سليمة، فقد أسهمت في تكريس المخاوف الفقهية، ذلك أن استيراد الشواهد من التاريخ الفقهي يثير كل الملابسات التي صاحبتها في السياق التاريخي الذي كان ذا أبعاد عقدية، إضافة إلى التسيٍب والانفلات الليبرالي اليساري الهادف إلى العبث بدين الأمة عموما، فالعقل الفقهي وجد أن العبث هو نفسه قديما وحديثا.

التفعيل المنهجي المنشود:

من خلال الاستعراض الهادئ للنتاج الفكري المقاصدي المقروء والمسموع، والوقوف على أسباب مخاوف العقل الفقهي، توصلنا إلى القرارات التالية:

1- إطلاق مفهوم "المنهج المقاصدي" بدلا من مقاصد الشريعة: إطلاق مفهوم "المنهج المقاصدي" لم يأتِ بطريقة اعتباطية وإنما يستند إلى أقوال فقهاء المقاصد وفي مقدمتهم الشاطبي وابن عاشور اللذَيْن قررا أن مقاصد الشريعة علم قائم بذاته.

تلاقت عبارات بقية فقهاء المقاصد في القديم والحديث عند معنى كلام الشاطبي وابن عاشور، لكن بسبب الحضور الطاغي -ذهنيا- للاستشهاد بأمثلة التراث تحول إلى ترسانة من الجنادل في طريق الاقتناع باستقلالية المنهج المقاصدي.

2- تفعيل المنهج المقاصدي في مجال حياتنا الدنيوية، ذلك أن هذا المجال زاخر بالمتغيرات سياسيا واقتصاديا... إلخ.

الفوائد والثمار الأولية:

- إمكانية العقل الفقهي وقدرته على استيعاب الواقع، ذلك أن مجال قضايا حياتنا المعيشة ماثل أمام العقل الفقهي، وبالتالي فهو قادر على إدراك المصالح والمفاسد من خلال الواقع الموّار تطبيقا ومآلات.

- إزالة جل المخاوف: تحديد الاجتهاد التجديدي في مجال متغيرات الحياة سيزيل لدى جل الفقهاء تلك المخاوف تجاه العقيدة والشريعة الغراء.

- وصول العقل الفقهي إلى الاقتناع في زمن قياسي، ذلك أن النقاش سينحصر في مجال الوسائل، وأجزم أن العقل الفقهي -جّلّه- يمتلك حصيلة فقهية في ميدان الوسائل، بل إن القاعدة المقاصدية حاضرة بقوة في الذهنية الفقهية مفادها: "يغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد"، وأيضا القاعدة المقاصدية "للوسائل حكم المقاصد والغايات".

- اقتناع العقل الفقهي بموضوع الوسائل في مجال الحياة، كونها حاضرة في الذهنية الفقهية تنظيرا وثقافة عملية في غاية الوضوح.

3- العُرْفُ المتجدد: زيادة في الإيضاح فقد حددنا عنوان السلسلة أن تفعيل المنهج المقاصدي المنشود هو ميدان العرف المتجدد، ذلك أن مبدأ العرف المتجدد يعتبر "أبرز قاعدة" أصولية محل اتفاق بين سائر فقهاء المقاصد وفقهاء الأصول وفقهاء الفروع، كون العقل الفقهي يدرك تماما أن العرف متجدد دائما، كما أن مبدأ العرف حاضر في النص القرآني الكلي.. قال تعالى: "خذ العفو وأمر بالعرف".. فالعرف مبدأ مقاصدي أصولي فقهي يستند إلى الفطرة السليمة وبه يتحقق العدل وتستقيم به مصالح الناس.

وعليه نكتفي بما سبق، كـ"تمهيد"، علما بأن الموضوع سيتضح أكثر، من خلال شرح مفردات العنوان وذلك فيما يلي.

أولا، مفهوم المنهج المقاصدي وأبعاده ومكوناته:

إذا قلنا المنهج المقاصدي فإن المفهوم الذي يتبادر إلى الذهن يعطينا الدلالات المنهجية التالية:

1- يتصل المنهج المقاصدي بمقاصد الخلق الإلهي للإنسان، وأسرار التكليف وغاياته المتمثلة في: توحيد الله، وتزكية للنفس، وعمارة الأرض وفق تعاليم القرآن الهادي للتي هي أقوم والهادي إلى الرشد.

2- يتصل المنهج المقاصدي بحكمة الشريعة الحاضرة في نصوص القرآن الجزئية والكلية.

3- يتصل المنهج المقاصدي بقيد الدين عقديا، قال تعالى: "قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم".

4- يتصل المنهج المقاصدي بالقيم الكونية الحاضنة المؤسسة لبناء المجتمع إنسانيا وحضاريا، وأبرزها: مركزية التوحيد، عمارة الأرض، التزكية، التكريم الإلهي للإنسان، الحرية، المساواة، العدل، الحقوق، العلم، العقل، الإحسان، والوسطية.

5- يتصل المنهج المقاصدي بالقيم الخلقية، ومقاصدها المتمثلة في بناء شبكة العلاقات الاجتماعية، بدءًا من القيام بالقسط، كما سنوضحه في الحلقات القادمة.

6- يتصل المنهج المقاصدي بمبدأ التسخير الرباني للكون، وتحديدا السنن الحاكمة للاجتماع، سياسيا واقتصاديا... إلخ.

7- يتصل المنهج المقاصدي بالعقل والتفكير المهتدي بنصوص الشرع إلى مواطن الحكمة الشرعية الجزئية والكلية والغائية المتمثلة في الصلاح الإنساني - مصلحته دنيا وأخرى.

8- يتصل المنهج المقاصدي بكل ما يخدم حياتي الفرد والمجموع من الضروريات والوسائل الخادمة لها المتمثلة في الحاجيات والتحسينيات والتي هي متداخلة متخادمة فيما بينها.

9- يتصل المنهج المقاصدي بوظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي السنة العملية في تعليم الحكمة: "ويعلمهم الكتاب والحكمة".

10- يتصل المنهج المقاصدي بترتيب سلم أولويات القيم من خلال معرفة الواقع، الأمر الذي يقربنا من مولدات إنتاج الحضارة، ووسائل النهوض الحضاري للأمة.

إذن فالمنهج المقاصدي علم متكامل حاضر بقوة في نصوص القرآن وكلياته، متصل بمركزية التوحيد إيمانا وقيما حاضنة، وقيما خلقية والسنن الحاكمة للاجتماع، والعقل، وترتيب سلّم الأولويات، وغير ذلك مما سبق ذكره.

ثانيا، موضوع المنهج المقاصدي:

1- الموضوع المحوري المركزي للمنهج المقاصدي هو ترجيح أقوى "الأدلة الشرعية" من حيث قوة الدليل، واستشراف المآلات والنتائج والآثار المترتبة على تطبيق الدليل من حيث جلب أقوى المصالح، أو دفع أقوى المفاسد أو تقليلها.. وبضرب المثال يزول الأشكال.

2- المجتمع المدني نموذجا: اخترنا قضية المجتمع المدني كمثال تطبيقي للقضايا الهامة والمستجدة في ميدان الاجتماع السياسي، نوضحها في البند التالي.

3- إذا نظرنا في وظيفة المجتمع المدني من خلال المنهج المقاصدي، سنجد أن المجتمع المدني هو "آليّة" تؤدي وظيفة هامة جدا هي: حفظ وحماية كرامة الإنسان - حرية، وعدالة، وتحقيق المواطنة المتساوية للفرد والمجموع، وهناك وظائف أخرى أفردنا لها حلقة خاصة.

4- يقرر الفقهاء باتفاق أن المنهج المقاصدي هو حماية الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال، والحرية.

وأثبتت التجارب أن منظمات المجتمع المدني - نقابات، وجمعيات، واتحادات، وأندية، وأحزاب، تعتبر آلية ناجحة تحقق بواسطتها حماية حقوق الفرد والمجموع.

كما أثبتت التجارب أنه كلّما كان الوعي الشعبي أكثر إدراكا تجاه "آلية" المجتمع المدني كانت نتائج الحماية أكثر جلبا للمصالح وأقوى حصارا ودفعا للمفاسد إداريا وسياسيا... إلخ.

5- الحكم الشرعي مقاصديا: المنهج المقاصدي يقرر قائلا: بما أن المجتمع المدني هو آلية - يعني هو وسيلة وظيفتها حماية الإنسان، وحماية الإنسان هي الهدف الذي قرره المنهج المقاصدي بأن الشريعة جاءت لتحقيق حماية الإنسان - جلب مصلحة، أو دفع مفسدة، وبما أن حماية الإنسان هدف، فإن المجتمع المدني وسيلة.

إذن، يتفق الفقهاء أن الوسيلة لها حكم الغاية والهدف، وهذا يعني أن إقامة المجتمع المدني يعتبر واجبا بحكم الوظيفة التي يؤديها.

الخلاصة، إن موضوع المنهج المقاصدي يجعل الفقيه أكثر طمأنينة وثقة في الاستدلال - وسيلة تخدم غاية بصورة واضحة لا غموض فيها ولا لبس.. وزيادة في الطمأنينة نجدها في المحور التالي.

ثالثا، إطلالة على المنهج الجزئي:

اختلفت الفتاوى الفقهية وتشعبت، ولا زال الاختلاف ضارب الأطناب تجاه كل القضايا المستجدة ومنها المجتمع المدني.

سبب الاختلاف هو غياب المنهج المقاصدي واللجوء إلى الأدلة الجزئية التالية:

1- المجتمع المدني بدعة، لم يشرعه الله ولا الرسول.

2- المجتمع المدني تقليد للغرب الكافر، والحديث يقول: "من تشبه بقوم فهو منهم".

3- بما أن المجتمع المدني بدعة، فإن الدستور بدعة، وأيضا الانتخابات بدعة، والبرلمان بدعة، والدستور بدعة، وتحديد مدة زمنية للحاكم بدعة، والتعددية السياسية بدعة، والفصل بين السلطات بدعة، بل والجمعيات الخيرية بدعة.

4- فإذا سألنا أصحاب الفتاوى الآنفة: هل البدعة تكون في قضايا العقيدة والشعائر التعبدية - صلاة، صيام، زكاة... إلخ، أم في مجال الوسائل الدنيوية؟ الجواب عندهم: البدعة في الدين فقط.

إذن البدعة ليست في الوسائل الدنيوية، والدليل أنكم تستعملون السيارة والطيارة والميكرفون والشرنقات والحاسب... إلخ، فما الفرق؟ لا جواب غير المكابرة وإطلاق التبديع والتضليل على المنهج المقاصدي وحملته بل واستباحة دمائهم والعياذ بالله.

5- الحقيقة الغائبة: إذا نظرنا إلى سبب ذلك الخلاف الفقهي والتحريم... إلخ، نجد أن هناك حقيقة غائبة على غالبية العقلية الفقهية الجزئية المقلدة، وقد تكون مغيّبة عمدا لدى البعض، وذلك لأسباب سياسية، كما سنوضح لاحقا.

وعليه، أيا كانت الأسباب والدوافع فهي تعود إلى أن هناك حقيقة غائبة عند الوعاظ، وهذه القيمة المقاصدية هي غياب إنسانية الإنسان، فالعقلية المقلدة تعيش غيبوبة حضارية قاتلة.

6- مآلات الاستدلال بالجزئيات: إطلاق فتاوى البدعة والتضليل... إلخ، تجاه الوسائل والآليات قادت إلى مآلات كارثية خطيرة تدميرية - إفساد مهلك للحرث والنسل، وهذه أبرز الكوارث:

- تحصين الطغيان والشرعنة للاستبداد.
- تدمير الشعوب، وتخدير العقول والقلوب باسم الدين ظلما وفجورا للقبول بالاستبداد والظلم والجور والتعسف والسجن.

- الكذب على الله ورسوله باسم الدين، وبطح الشعب لجلد الظهور وأخذ الأموال ومصادرة كرامة الشعوب وتزوير إرادتها وسلب حرياتها.

- تحويل الشعب إلى قطيع يمتلكه الجزار يقتله متى شاء.. نكبة الشعب اليمني نموذج إجرامي غير مسبوق وكذلك شعوب الربيع العربي، حيث تم تحويل الجيش والأمن إلى مليشيا تقتل الشعوب.

إذن، أخي القارئ العزيز ما حكم العقلية الجامدة الذاوية في وهاد الغيبوبة الحضارية؟ فهل قتل الشعوب وتدمير مقدرات الأمة والأوطان غير كافية؟

7- هناك وظائف كثيرة هامة متفرعة عن الموضوع المحوري للمنهج المقاصدي سنستعرضها في الحلقة القادمة.. نلتقي بعونه سبحانه.

كلمات دالّة

#اليمن