الخميس 18-04-2024 20:21:53 م : 9 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

غياب المنهج المقاصدي وأثره على ملكة النظر الفقهي (الحلقة 1)

الخميس 19 مايو 2022 الساعة 05 مساءً / الإصلاح نت-خاص | عبد العزيز العسالي
 


دور المنهج المقاصدي في تكوين الملكة الفقهية

أولا، مقدمات هامة لا بد منها:
المقدمة الأولى: ما هو المنهج المقاصدي؟
الجواب: المنهج المقاصدي هو إجابة على سؤال: لماذا؟ أي ما الحكمة الشرعية التي أرادها النص أو النصوص الشرعية، سيما في ميدان متغيرات الحياة، فنصوص الشريعة في هذا الميدان جاء النص الجزئي لجلب مصلحة كذا أو لدفع مفسدة كذا، أو الهدف من نصوص الشريعة كلها تحقيق مصلحة الإنسان دنيا وأخرى، وحمايتها.

المقدمة الثانية: هل في القرآن لفظ منهج؟
الجواب: نعم، تضمن القرآن حرفيا لفظ "منهج"، قال تعالى: "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا" (المائدة، 48).

أيضا نص القرآن الكريم على مقومات المنهج، وآفاقه، ومكوناته، ولكن لا مجال للتفصيل في هذا المقام.

المقدمة الثالثة: نصوص الشريعة الخاتمة -قرآنا وصحيح السنة- ثابتة خالدة وهي المصدر الأساسي للمنهج المقاصدي.

المقدمة الرابعة: غياب المنهج المقاصدي وعدم تفعيله في التكوين الفقهي أدى إلى نتائج خطيرة بل وآثار أكثر خطورة.

أهم النتائج الخطيرة هي الشتات في الفتوى الفقهية إلى حد التناقض، بل اتهامات وصلت إلى درجة التكفير.

أخطر السلبيات:
الشتات الآنف في الفتوى الفقهية فتح الباب للعلمانيين داخل العالم العربي والإسلامي والمتربصين بالشريعة في الدوائر الصهيومسيحية ولسان حالهم ومقالهم: من نصدق؟

وأخطر من ذلك ظهور الدعاوى السلالية العنصرية المنافية لمبادئ المساواة والعدل والتي نتج عنها انسحاق كرامة الإنسان وسحق الشعوب وتحصين الطغيان، وصدق الله القائل: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" (النساء، 82).

المقدمة الخامسة: تناقض وفصام لدى بعض المفكرين الإسلاميين.. انتبه أخي القارئ، مفكرين إسلاميين، ناهيك عن الوسط الوعظي الفقهي.

هذا مفكر إسلامي من الدرجة الكبيرة وصاحب منتدى عربي مشهور، في مداخلة له في منتداه حول العقوبات الشرعية سمعته يقول إن ورود العقوبات في الشريعة الهدف منه الردع وليس التنفيذ.

قلت في نفسي: لعل المقام لديه لا يتسع للتفصيل. وفي اليوم التالي وفي مداخلة أخرى حول مقاصد الشريعة سمعته يقول: مقاصد الشريعة لا يجوز النظر فيها فهي آخر ما ينظر فيه الفقيه، لأن المقصود منها إلغاء النصوص.

لقد تملكتني الدهشة والذهول أن يصدر هذا التناقض الخطير عن مفكر إسلامي، فالعقوبات لا داعي لتطبيقها، يا غرايب؟

وكيف نحمي الكرامات والحقوق والخصوصيات إن لم تكن كرامة الفرد وخصوصيته وحقوقه دون استثناء هي مقاصد الشريعة، فما الذي يحمله هذا التفكير؟

إن لم تكن العقوبات الشرعية آليات لحماية أهداف الشريعة ومقاصدها المقدسة المتمثلة في حماية الدين والنفس والعرض والعقل والمال والحرية والعدل والمساواة وغيرها من المبادئ المقدسة، فماذا بقي لنا من حقوق مقدسة؟

وقبل وبعد وفوق ذلك، مفكر بهذا الحجم، والذي كثيرا ما ينعي على الوعاظ والخطباء واصفا إياهم بالقصور المعيب، وفجأة يسقط في هوة عقليتهم قائلا إن مقاصد الشريعة مرفوضة لأنها تلغي النصوص.

باختصار، هذا التهافت نتيجة للغيبوبة الفكرية والحضارية القادمة من غياب التكوين الفكري والفقهي وفقا للمنهج المقاصدي.

المقدمة السادسة: المنهج المقاصدي مصدره نصوص القرآن والسنة بلا أدنى ريب، والقول بغير هذا هو الكفر بالشريعة.

مصدر اللبس:
يتفق فقهاء الأصول أن المنهج المقاصدي يقوم على عشرات النصوص الشرعية، وبالتالي يجب تقديمه في الترجيح عند اختلاف النصوص الجزئية، لأن مكونات المقصد الشرعي أكثر، وبالتالي هي الأقوى ويجب تقديمها على النص الجزئي الواحد.. إنه تقديم الأقوى على القوي لا غير.

ونظرا لاختلاف الطبعات أحيل القارئ على كتاب المستصفى، للغزالي، آخر فقرة تحت عنوان "الأصل الموهوم نهاية القياس".
ثانيا، المنهج المقاصدي.. أهميته ومكانته:

الكلام هنا واسع جدا لكننا سنسلط الضوء بإيجاز أولا، وضرب أمثلة تقريبية ثانيا، على النحو التالي:

1- المنهج المقاصدي كفيل بإنشاء عقلية فقهية ناضجة ذات ملكة قادرة على النظر والبحث العميق.

2- إذا تم تنشئة وتكوين العقل الفقهي انطلاقا من المنهج المقاصدي فهذا كفيل بتقليل الاختلاف والشتات والصراع والتنابز والتكفير والتضليل.

3- الفقيه الكبير المجتهد مصطفى الزرقاء رحمه الله يقول: المنهج المقاصدي يكون صاحبه أشبه بشخص جالس على قمة جبل عال، وتحته مدينة، وبيده نظارة مكبرة فهو ينظر إلى الداخلين إلى المدينة والخارجين منها، وبالتالي يستطيع معرفة المنطلقات والنهايات لتلك التحركات.

4- الفقيه العملاق القرافي رحمه الله يقول: إذا انعقد إجماع العلماء حول قضية ما، وخالفهم فقيه صاحب نظر مقاصدي فلا عبرة بذلك الإجماع. ويقول: يبطل قضاء القاضي وفتيا المفتي إذا خالف قواعد المنهج.

5- الفقيه الشاطبي رحمه الله قال إن الشرط الأول والأخير لبلوغ درجة الاجتهاد هو إتقان المنهج المقاصدي.

6- الفقيه السيوطي رحمه الله قال إن المقاصد قبلة المجتهدين وكعبة القصاد وإليها يتجه المجتهدون في اجتهادهم.

7- الفقيه الطاهر بن عاشور رحمه الله يقول: المقاصد هي المنهج القادر على مواكبة الواقع الحضاري للأمة صعودا وهبوطا، اي أن المنهج المقاصدي يمنح الفقيه ملكة للتفريق بين الأولويات والترجيح بين جلب أقوى المصالح ودفع أقوى المفاسد وفقا للواقع الحضاري الذي تعيشه الأمة، معللا أن تطبيق النصوص الجزئية في واقع الحياة يستقيم في حالة استقرار المجتمع بخلاف الواقع المتغير المضطرب، فلا يستقيم فيه تنزيل النصوص الجزئية وإنما يستقيم معه تطبيق المنهج المقاصدي "جلب مصالح ودفع مفاسد".

وهناك عشرات الأقوال حول مكانة وأهمية المنهج المقاصدي ودوره في تكوين الملكة الفقهية الراسخة.

ثالثا، تقريب مفهوم المنهج المقاصدي:

سنحاول صياغة أمثلة تقريبية لمفهوم المنهج المقاصدي وهي ما يلي:

1- الفقيه الذي تم تكوينه على أسس المنهج المقاصدي هو أشبه بالمهندس والقائد للمعدات، إنه يمتلك الدراية والقدرة على النظر في المشكلة التي عطلت السيارة أو غيرها فيتجه لإصلاح العطب، فأين هذا من شخص لا يجيد سوى القيادة فقط؟

2- الفقيه المقاصدي يشبه شخصا لديه ملكة الهندسة المدنية وملكة إنشاء البناية وتنفيذها فهو لا ينتظر المهندس يحدد نوع أحجار الأساس في الأرض "السبخة" ولا طريقة تفصيل الخارطة وتوزيع غرف المبنى.

3- الفقيه المقاصدي يستطيع تحديد أبعاد وخطورة القضية محل البحث ونتائجها السلبية دينا واجتماعا، وبالتالي فهو لا يطلق الفتوى إلا على أسس متينة كفيلة بمواجهة الإشكالات والتقلبات السريعة، وشتان بين بناء مؤسس على قواعد ضاربة وراسخة، وبين فتوى الواعظ التي لا تقوم على أساس سوى الطوب المطروحة على أرض هشة.

نعم قد يستفاد من هكذا مبنى كنانا وظلالا ولكن هيهات لهكذا بناء أن يصمد؟ وهل بناء عشة زنك يستطيع تحمل بناء عشرة طوابق مثلا؟

رابعا، دوافع الكتابة:

تجليات غياب المنهج المقاصدي:

يتفق علماء النفس والتربية والإدارة وغيرها أن نجاح أي فكرة يكون من خلال مخرجاتها، فإذا جاءت المخرجات ضعيفة غير قادرة على تلبية أو مواكبة أو تقديم حلول لقضايا المجتمع فلا مفر من إعادة النظر في مدخلات تلك القضية الفكرية... إلخ.

إذن، أبرز دوافع الكتابة حول المنهج المقاصدي والتعريف بأهميته ومكانته هو ذلكم الشتات الفكري المتناقض المتصارع إلى حد التكفير والتضليل والتفسيق والتبديع، وسيل التناطح وإثبات الذات المغلف بدعوى الدفاع عن العقيدة والشريعة لم ولن يستقر عند حد، لأننا أمام جزئيات تفتقر إلى منهج محوري مركزي تنتظم في إطاره عشرات بل مئات الجزئيات.

الأكثر غرابة هو أن كل فريق فقهي يستند إلى كمال الشريعة الإسلامية - عدلا وإنصافا وفكرا ومصلحة للفرد وبناء شبكة علاقات المجتمع وحماية وحدة النسيج المجتمعي.

بربكم، أي حماية، وأي بناء، والوسط الفقهي والذي يفترض أنه باني الوحدة الفكرية حول القواسم المشتركة، ها هو يتناحر بصورة لا يعرفها العقل العامي البسيط؟

خامسا، الآثار:

غياب المنهج المقاصدي والشتات الفقهي الناتج عنه فتح الباب للمتربصين بالإسلام وتشريعه الكامل التام المقدس من علمانيين عرب ومستشرقين حيث يطلقون بخبث أخطر المطاعن والتشويه الحاقد قائلين إنه لو كانت مصادر الإسلام معصومة مقدسة كاملة فلم هذا التناقض؟

الأثر الأخطر:
ظاهرة الإلحاد في أوساط الشباب بصورة غير مسبوقة، ولا شك أن عامل التكنولوجيا له الدور في تعزيز التفكير الهش.
إن فضاءاتنا العربية الإسلامية رازحة تحت غيوم كثيفة من الثقافات الوافدة.

قراءتي لظاهرة الإلحاد:
من خلال رصدي لما يصلني من رسائل تتضمن كلاما إلحاديا وعند إمعان النظر فيها أجد أن السبب الأكبر يعود إلى التربية الدينية في المدرسة والمسجد ووسائط الشبكة، والسبب إغفال كبير للبعد العقلي في حكمة التشريع ومقاصده، حيث يتم الشحن الروحي الديماغوجي اللاعقلي للطفل، ولأن الواقع الثقافي والاجتماعي والحروب والفقر... إلخ يدفع الشباب المتدين إلى التساؤل: كيف أفهم الدين؟ فلا يجد غير لغة تحمل العداء الديني للعقل، فتكون النتيجة إلحادا، لكنه في حقيقته إلحاد يعكس أزمة نفسية لا غير.
تلكم هي أخطر وأبرز النتائج والآثار بسبب غياب المنهج المقاصدي ويتفرع عنها آثار كثيرة.

تلك صورة واضحة وموجزة حول المنهج المقاصدي.. بقي موضوع الحكم على الشخص المعين.. فهذا موضوع الحلقة الثانية بعونه سبحانه..

كلمات دالّة

#اليمن