الجمعة 19-04-2024 08:01:30 ص : 10 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

الانفصال بين السياسة والقيم.. مكيافيللي أم العلمانية؟

الجمعة 31 ديسمبر-كانون الأول 2021 الساعة 08 مساءً / الإصلاح نت-خاص-عبد العزيز العسالي

 

 

مستهل:

شاع في وسط النخبة العربية - الليبرالية، واليسارية - الماركسية، والقومية، أن السياسة لا علاقة لها بالقيم، أي منظومة القيم الكونية ومنظومة القيم الأخلاقية، مؤكدين أن الأصل هو الفصل بين السياسة والقيم والأخلاق.

لكن هذا القول لاقى رفضا وممانعة في أوساط الفكر الإسلامي، وبعد صراع مرير بادرت شخصيات ادعى أصحابها أنهم يسار إسلامي، وهم ماركسيون وعلمانيون حتى النخاع رفعوا شعار البحث العلمي وتجديد الدين الإسلامي، فقدموا فذلكات قلبوا فيها الحقائق، أفضلها أنها سطحية 100% تفتقر إلى الإحاطة والعمق، وبعضها تستند إلى روايات مكذوبة لا يقبلها عقل، وخلاصة فذلكاتهم أن معاوية وبني أمية والعباسيين فصلوا بين السياسة والقيم وأنهم كانوا علمانيين وأن الدولة لا تبنى إلا بالعلمنة.

ورغم هذا الغلاط الهزيل، فقد استجاب القلة في أوساط الفكر الإسلامي، والسبب هو التقليد، أو الظهور بالموضوعية، مستدلين على دعواهم بأن الشورى تم تجميدها بانتهاء عهد الراشدين، وأن التاريخ الإسلامي عاش في العلمانية، وهذا سفهٌ وأي سفه؟ لأنه قائم على قراءة سطحية مستندة إلى الجهل والضلال بمفهوم ودلالات وأبعاد العلمانية أولا، وقائم على المغالطات وقلب الحقائق ثانيا.

الخلاصة هي أن تلك الاستجابة الانفعالية هي نتيجة انبهار بمادية الغرب وثقافة الاستهلاك، وصولا إلى تسليع القيم، فانطلق المنهزمون باحثين عن مستند يوارون به سوأتهم الثقافية، يتخبطون تخبط المهووس.

دوافع الكتابة:

ما سبق كان دافعا لكاتب هذه السطور يستهدف إعادة النظر في دعوى الفصل بين القيم والسياسة ولكن من خلال العودة إلى كتاب "الأمير" للمؤلف الإيطالي نيكولاس مكيافيللي، متحريا الدقة من خلال مطالعة استقصائية للكتاب الآنف من الغلاف إلى الغلاف، وذلك على النحو التالي:

أولا، المنهج الأمين:

المقصود بالمنهج الأمين سياق ظهور الكتاب زمانا ومكانا، ذلك أن فلاسفة مناهج البحث العلمي متفقون أن السياق الظرفي هو المنهج الأمين في فهم الأقوال والأفعال، أي أن:

 - السياق يقدم ترجمة للمفردات المتداولة في ذلك الظرف.

- السياق يترجم المفاهيم القادمة من تركيب الجمل.

- يستند السياق إلى الطريق المتداول في الخطاب في ذلك الظرف.

- يوضح الملابسات التي بلورت تلك المفاهيم وما اكتنزته من مضامين وكذا الحمولات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية... إلخ. باختصار، كل كلام هو ابن بيئته، عدا الوحي المعصوم.

 

ثانيا، من هو مكيافيللي؟

- نيكولاس مكيافيللي رجل قانون (مستشار قانوني في إحدى ولايات دولة إيطاليا)، ويرى بعض المؤرخين أن تلك الولاية كانت العاصمة الثانية في إيطاليا.

- عصر مكيافيللي:

يعود ظهور مكيافيللي إلى الثلث الأول من القرن الـ16 الميلادي تقريبا.

- فترة بروز مكيافيللي تحديدا كانت ظهور دعوة مارتن لوثر صاحب فكرة الإصلاح الديني وظهور مذهبه البروتستانتي في وجه الكنيسة الكاثوليكية المتحكمة بالعقول والقلوب والأرواح واحتكار تفسير الكتاب المقدس.

- وجه مارتن لوثر الضربة القاصمة إلى الكنيسة فعلا، حيث تمثلت في ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الدارجة في مدن وقرى ألمانيا، وهنا استطاع كل من القارئ والسامع العاديين فهم معاني الكتاب المقدس.

- دعوة مارتن لوثر لاقت تشجيعا من ملك بروسيا.

وكان ذلك الملك تواق إلى حكم مستقل رافضا الانصياع للبابا، حيث تمردت كثير من مدن أوروبا فانفجرت الحروب بين بابا روما الأكبر وبقية مدن أوروبا بهدف إخضاع المدن البعيدة وإعادتها إلى حظيرة إمبراطورية البابا.

في ذلك الظرف انقسمت إيطاليا إلى 31 ولاية، كل واحدة مستقلة عن الأخرى ويحكمها بابا، وحسب مؤرخين أن كل بابا كان يحصّن مدينته بأسوار ويعد الجيش لمهاجمة الولايات الأخرى بهدف إضافتها إلى ولايته.

طالت الحرب أكثر من عقدين تقريبا، مكيافيللي المستشار القانوني في ولاية فلورنسا، كان يعتصره الألم وتمزقه الحسرة وهو يشاهد حربا عبثية يستفيد منها الباباوات أولا وأخيرا، في حين أن أمير الولاية أو الملك لا يجرؤ على معارضة البابا خشية أن يرسله إلى جهنم.

-طال تفكير مكيافيللي بحثا عن طريقة تلملم وتجمع شمل إيطاليا المشتت وتعود بها إلى دولة مركزية قوية تمنع الحروب الطاحنة.

وتوصل مكيافيللي إلى أن الحل يكمن في "أمير" قوي صارم مستبد يمتلك جيشا قويا يخضع به كل المدن ويوحدها بعيدا ويسعى إلى إزالة السبب الوحيد للحروب المتمثل في الباباوات الذين يدعي كل واحد منهم أن طاعته وحده هي عين طاعة الله والبقية شياطين.

عمل مكيافيللي على أخرج كتابه (الأمير) أي الأمير المنشود لتوحيد إيطاليا، فانتفض الباباوات كلهم ضد الكتاب والمؤلف واشتد الجدل بقوة، غير أن مكيافيللي صمم على ذلك الأمير المستبد القوي - جيش القوي قراره والقوي هدفه- فلاذت الكنيسة إلى التحصن بالأخلاق، واصمة فكرة مكيافيللي بأنه عدو الأخلاق، والهدف الكنسي واضح، فالأخلاق هي الدين والعكس صحيح، لكن مكيافيللي كشف حقيقة التمسح بالأخلاق بأنها أطماع البابا، وعليه، فإذا كانت الأخلاق هي أطماع البابا فهي مرفوضة ولا مكان لها إزاء سياسة الأمير في توحيد إيطاليا وإعادة هيبتها من خلال قيام دولة قوية.

 

ثالثا، المنهج الأمين:

ليس دفاعا عن مكيافيللي، وإنما ندعو إلى النظر المنهجي الأمين:

لا شك أن القارئ قد فهم تلك الظروف التي مرت بها إيطاليا. واتضح أن مكيافيللي كان صاحب هدف سامي وهو وحدة الدولة ووضع حد للحروب العبثية التي فجرت شلالات الدماء لصالح الكهنوت.

واتضح كذلك أن الظرف الزمني تضمن جدلا واسعا تمحور في اختباء دعاة التمزيق خلف الدين والأخلاق، وأن مكيافيللي استطاع تعرية المفاهيم الملتوية والغلاط البابوي وأنها ليست من الأخلاق.

- أن الأخلاق إذا كانت هي ما يدعيه الباباوات فهي مرفوضه لأن إيقاف شلال الدماء هدف إنساني وطني سامي، مقدم على تلك الدعاوى والنزوات تحت مظلة الأخلاق، وكذلك إعادة وحدة الوطن بعد تمزيقه.

 

النتيجة الأولى:

- مفهوم الأخلاق التي رفضها مكيافيللي شيء مختلف تماما عن القيم والأخلاق الإنسانية والدينية.

- دعاوى الباباوات لو كانت صحيحة لصمدت أمام عاصفة النقد التي لاقت تقبلا جماهيريا سحب البساط من تحت قدم التسلط الكنسي.

- إذا افترضنا صحة دعوى الباباوات وهو افتراض لا غير، فإن مصلحة إيقاف الحروب ونزيف الدماء وتوحيد الوطن يعد مصلحة أكبر من احترام نزوات البابا الذي يرى أن الأخلاق هي المساس بمصالح تسلط البابا.

إذن نحن أمام قاعدة عقلانية تنطلق من مآلات الفعل ونتائجه وهي جلب أقوى المصلحتين.

من جهة ثانية، كيف يمكن القبول بفصل القيم عن السياسة، وهل إقامة الحكومة والنظام السياسي جاء للعربدة أم لحماية كرامة الإنسان؟ أي تناقض وتهافت تعيشه النخبة العربية اليسارليبرالية؟

النتيجة الثانية: من الذي ألصق بمكيافيللي تهمة فصل القيم والأخلاق عن السياسة؟

الحواب: في حدود اطلاعي أستطيع القول إن:

- الثورة الفرنسية هي التي جاءت بالعلمانية بمفهومها المعاصر، وذلك بعد مكيافيللي بقرن ونصف القرن تقريبا وربما أكثر، ولكن الثورة بحثت عن مستند من التاريخ فوظفت كلام مكيافيللي.

 

اليسار العربي:

ربما اليسار العربي أيضا غالط الجمهور اقتداء بالثورة الفرنسية.

- ربما أن الترجمة لكلام مكيافيللي كانت خطأ، وهذا أيضا ينطبق على تحليلي لكلام الرجل، إذ قد تكون الترجمة التي وقفت عليها أيضا خطأ.

لكن المنهج الأمين المتمثل في السياق الظرفي يساعدنا على أن الصواب هو ما ذكرناه من توجيه سليم لأقوال الرجل.

- نخبة اليسار العربي والليبرالية العربية أسقطت عامدة مفهوم الأخلاق الكنسية على منظومة القيم الإسلامية الكونية والأخلاقية.

نخبة العلمنة العربية نظرت إلى فقهاء الإسلام عبر التاريخ من زاوية نظر النخبة العلمانية الأوروبية إلى الكنيسة وهذا خطأ فادح، ذلك أن البابا قتل الساسة والملوك وكل المخالفين له، في حين أن علماء المسلمين قتلهم الساسة وسجنوهم وأهانوهم ونفوهم، وكان النفي أقل عقوبة، وكثير من العلماء ماتوا في السجون مثل أبو حنيفة، والشافعي ضربوه بعصا غليظة فمات بعد يومين، ومالك كسرت ذراعه وخلعت كتفه، وابن تيمية مات في السجن، وابن القيم أهين وضُرب وجُرّد من ملابسه وطيف به في الشوارع، وابن رشد وابن حزم تم نفيهما بعد سجنهما وأحرقت كتبهما، ولست مبالغا إن قلت إن مئات من علماء المسلمين هكذا قضوا حياتهم.

 

النتيجة الثالثة:

- السياسة في الإسلام أخلاق وقيم وذلك من خلال التعريف المفهومي في الإسلام أنها التدبير، والتدبير هو الرعاية واختيار أفضل التدابير.

- النخبة العربية أرادت أن تعربد كما يحلو لها فكرسوا الفصل بين القيم والسياسة.

 

- تعريف السياسة في الإسلام:

هي تصرف يكون معه الناس أقرب إلى الحق والعدل والصواب، ولو لم يقله الله ولا رسوله.

- خالد الحسن، أحد رجالات فلسطين ملتزم وكان سكرتير عبدالناصر للقضية الفلسطينية وكان مثقفا بارعا، قال: من تعاريف السياسة في الثقافة الغربية هي "فن الممكن"، وهذه عبارة مطاطة وخطيرة خلاصتها ما يمكن فعله فليكن.

لكن الرجل قال إنه يمكننا الجمع بين المفهوم الإسلامي والغربي الآنف فنقول: السياسة فن الممكن مع مراعاة العدل وتحقيق أقوى المصلحتين أو دفع أقوى المفسدتين، وهنا نلتقي مع المفهوم الإسلامي: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ومفهوم مصلحة شامل كل المصالح دنيا وآخرة، فردية وجماعية سياسية وغيرها.

نلتقي بعونه سبحانه..

كلمات دالّة

#السياسه #القيم