الخميس 25-04-2024 23:47:18 م : 16 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

نظرية الأخلاق بين الفلسفة والإسلام.. دراسة مقارنة

الإثنين 20 ديسمبر-كانون الأول 2021 الساعة 10 مساءً / الإصلاح نت-خاص-عبد العزيز العسالي

 

 

أولا، ضبط المصطلح:

بعد بحث مضنٍ لم أجد في قواميس اللغة مصطلح "أخلاق".

مفردة "أخلاق" في القواميس بعيدة كل البعد عن معناها الشائع عندنا، ذلك أن مفردة الأخلاق تعني:

- بقايا الملبس الممزق والمهترئ والواهي، وهو معنى مرادف للأسمال، فيقال فلان ملابسه أسمال، أي بقايا ثياب ممزقة.

ومن معاني "أخلاق":

- الحصوات الصغيرة الملساء يقال لها أخلاق، نظرا لصغر حجمها ونعومة ملمسها الذي يؤدي إلى تناثرها وتفرقها وعدم تآلفها واستقرارها.

 - الصباغ الباهت حُمرته يقال له خلوق، وفلان يضمخ شعر رأسه ولحيته بالخلوق أي بمادة الزعفران.

- القرآن أطلق مصطلح "خُلُقٌّ".. قال تعالى: "وإنك لعلى خلق عظيم". وهو المصطلح الوحيد في القرآن المتصل بمعنى القيم السلوكية - العملية الدالّة على رسوخ جذور التزكية في أعماق العقيدة.

 - خُلُقٌ، في ظاهره مفرد لا جمع له، ولكن عند التأمّل العميق نجد أن القرآن قد استعمل هذا المصطلح لأنه شامل يجمع بين جذور مكونات التزكية العقدية للقلب بالتقوى والتزام جوارح وتصرفات المسلم ومراعاة مقاصد التزكية، وهذا معنى قوله تعالى: "ويزكيهم".

مصطلح مقارب هو "خَلاق"، هذا مصطلح قرآني مختلف المعنى تماما حيث يعني النصيب الواهي من الثواب.. قال تعالى عمن يتعاطوا السحر: "ولقد علموا لمَن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق"، أي من نصيب في ثواب الآخرة، وإنما هي خدعة دنيوية شيطانية شبيهة بالأسمال وقطع القماش الواهي الممزق.

 - المعنى الجامع بين أخلاق وخلاق، وهو الضعف والركاكة والاهتراء والتمزق، ولهذا نجد أن القرآن لم يستعمل مفردة "أخلاق" وإنما استعمل "خُلق"، والفرق كبير وجوهري.

 

- تعريف الإنسان:

مفهوم الإنسان من خلال معارف الوحي ودلالاته، الإنسان هو: كائن، آدمي، اجتماعي، عاقل، حر، أخلاقي، فنان.

هذا المفهوم قادم من المصطلح القرآني المتمثل في التكريم الإلهي للإنسان.. قال تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" (الإسراء : 70).

- الإنسان في التعريف الفلسفي هو:

- حيوان ناطق.

- كائن حي لا يختلف بيولوجيا عن سائر الكائنات الحية.

- عند أفلاطون وديكارت وفرويد الإنسان متطور عن حيوان القرد.

 

ثانيا، منظومة القيم:

- القيم نوعان: الأول، منظومة القيم العالمية وهي الكونية في الاستعمال المعاصر.

وبما أن القرآن نذير وبشير للعالمين ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فيمكننا القول إن منظومة القيم العالمية في الفلسفة المعاصرة يطلق عليها القيم الكونية.

- منظومة القيم العالمية أو الكونية هي محل اتفاق بين سائر الناس، فالرحمة والعدل والحرية والصدق والكذب والأمانة... إلخ، يتفق العالم حولها مبدئيا من الجانب النظري، لكن الخلاف يأتي عند التطبيق.

- منظومة القيم العالمية في القرآن تتمثل في: الرحمة، كرامة الإنسان، القيام بالقسط، العدل، الحرية، المساواة، الإحسان، والوسطية.

والإحسان بمعناه الحضاري يعني: الإتقان، الجودة، الكمال، الجمال، النظام، وحب النظام.

- يلاحظ القارئ كثافة وخصوبة المعنى في منظومة القيم العالمية - الإحسان نموذجا. ولا غرابة، ذلك أن تلك الكثافة والخصوبة مستمدّة من القول الثقيل.. قال تعالى: "إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا".

والقول الثقيل يعني أنه متعالٍ لا متناهٍ، كوني، وهذا يجعلنا أمام أعظم خصائص ومميزات منظومة القيم الإسلامية، ذلك أن منظومة القيم العالمية الإسلامية هي عقيدة ودين وتشريع ملزم لمن آمن برسالة الإسلام.

هناك خصائص ومميزات سنذكرها عند استعراض منظومة القيم الخلقية.

 

النوع الثاني، منظومة القيم الخلقية هي:

- الخلق والسلوك العملي، وهذه المنظومة أوسع وأكثر عددا، وقد وسمها القرآن بمصطلح "التزكية".

- مصدر التزكية عقديا وسلوكيا هو "تقوى الله"، ومن هنا تأتي قوة الالتزام كونها نابعة من الذات - عمق الإنسان.

 

خصائص القيم الخلقية:

- إخلاص النية: استحضار النية عند ممارسة أي تصرفات خلقية إيجابية.

 - هذه الخصيصة تمثل أعظم رقابة على الذات تتقاصر دونها جميع أنواع الرقابات.

 - الاتساق والتكامل.

وهذا يعني أن منظومة القيم الخلقية، أي تصرفات الشخص السلوكية، متداخلة مع العقيدة والتشريع ولا انفصال بينها أبدا، وستتضح خطورة الانفصال بين العقيدة والسلوك من خلال استعراض مقصد واحد من مقاصد التزكية والمتمثل في المثال السلبي التالي الدال على عظمة الاتساق القيمي في الإسلام، هذا المثال نموذج للفلسفة الوضعية المادية.

 

الفيلسوف كانط:

الفيلسوف الألماني الألمعي كانط قرر مرارا وتكرارا في كتبه أنه قد ألزم نفسه بالقيم الخلقية بقناعته الذاتية، أي أنه لا يحتاج إلى دين أو رسول يعلمه.

 

وطال الجدل بينه وبين مخالفيه، وذات يوم حضر بعض زملائه فسألوه: ماذا لو طرق باب غرفتك أطفال وهم في حالة هلع يصرخون أن سفاحا يلاحقهم وبيده سكين يريد ذبحهم فطلبوا مساعدتك فما أنت فاعل؟

أجاب: أقول لهم اختفوا تحت السرير.

قالوا: فماذا لو وصل السفاح ودق باب غرفتك وفتحت له ورأيت السكين بيده وسألك: أين الأطفال فما موقفك؟

أجاب: أقول له إنهم تحت السرير.

كيف؟ أين قيمك الخلقية؟

أجاب: لا يهمني إجرام السفاح فأنا ملزم بقول الحقيقة.

كيف ستقول الحقيقة والمآل هو قتل أطفال أبرياء؟

أجاب: أنا أخلاقي تدفعني أقول الحقيقة.

السؤال هنا: هل القيم الخلقية متسقة عند هذا الفيلسوف/الفلاسفة؟ أم هي أخلاق - أسمال ممزقة وحصوات متناثرة؟

الجواب: بما أن محورية كرامة الإنسان مفقودة عند الفلسفة الوضعية، فلا غرابة أن نجد القيم غير متسقة لأنها أسمال لا تشكل قطعة قماش ساتر فضلا عن كونه جميل.. لا غرابة أن نجدها حصوات ملساء لا تستقر فضلا عن تكوين نسق منتظم متآلف.

وكذلك غياب الرحمة، وغياب النهي عن المنكر، وغياب محاربة الفساد، وغياب التعاون على البر والتقوى، وغياب قيمة السلام الاجتماعي... إلخ، فالسبب المباشر وراء غياب الاتساق القيمي يعود إلى غياب الإيمان بالغيب فغاب التقوى، فانفرط اتساق القيم، وهنا نلتقي بفساد مصطلح "أخلاق" حسب تسمية الفلسفة المادية الوضعية.

ثم للقارئ أن يتساءل قائلا: إذا كانت القيم غير متسقة لدى الفلسفة الوضعية فهل تعاليم الإسلام تجيز قول الكذب؟ الجواب قطعا: لا.

إن تعاليم الإسلام في هذا المقام لا تجيز الكذب فحسب، بل توجب الكذب والزور لإنقاذ الإنسان من موت محقق، ذلك أن الإنسان مكرم ومستخلف وكل نصوص الشرع جاءت لحفظ وحماية حقوقه، وهنا تتجلى عظمة منظومة القيم الخلقية المتداخلة مع العقيدة والشريعة والإخلاص والنهي عن المنكر والفساد في الأرض وإرساء سبل السلام والتنمية والاستخلاف والنهوض الحضاري، فهذا كله دين.

ثالثا، نماذج للمنظومة الخلقية: الرحمة، محاصرة الظلم، مكافحة الطغيان، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، التعاون على البر، الأمانة، العلم، الصدق، الإحسان، الرفق، الإنفاق، حب السلام... إلخ.

 

رابعا، مكانة التزكية:

 التزكية هي إحدى الوظائف البارزة لرسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.. قال تعالى: "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة".

 

خامسا، وظيفة التزكية:

1- مقاصد التزكية تنطلق من مكانتها ووظيفتها الدينية، فهي روح المقاصد الشرعية وقلبها النابض، ذلك أن المقاصد بدون خلق وسلوك عملي منضبط متسق متكامل مع العقيدة والتقوى فالمقاصد هيكل جاف، وبالتالي فالاحتيال عليها سهل وتحويلها مصلحة مادية خاوية لا روح لها لأن الشريعة هدفها الصلاح الإنساني.

 

2- أبعاد التزكية:

للتزكية أبعاد وعلاقات بواقع الحياة ولها الأثر البارز في استقامة الحياة وسيرها بأمن ونظام.

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

 

3- التنمية المجتمعية:

علاقة التزكية الخلقية بالتنمية المجتمعية الشاملة وقوة بناء النسيج المجتمعي المتين، ووحدة الهدف والصف.

 

4- الأرضية السياسية:

التزكية الخلقية تمثل الأرضية الصالحة للبناء السياسي الحادي للعقول نحو الأهداف الإستراتيجية العامة والحامي والخادم لقيم المجتمع، فالأمن المجتمعي، والتعاون، والحب والشجاعة في الحق، ومحاصرة ودفن الطغيان وتجفيف منابع الاستبداد والظلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإنفاق في سبيل التدين الصانع للحياة، وتحويل الأفكار إلى آليات حامية للحقوق، والتعاطي مع السنن الحاكمة للاجتماع وبناء الإرادة، والتواصي بالحق والصبر، وتحويل الشورى إلى آلية متخصصة.. "ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم".

يستنبطون أي يتدارس المتخصصون واقعهم ويقتربون منه ويتشاورون ابتداء ويتشاورون تنفيذا، ذلك أن القرآن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بممارسة الشورى التنفيذية مع أصحابه.

الخلاصة:

 - إن الخلق الإسلامي لا ينفصل عن جذور العقيدة المرتكزة على الإيمان بالغيب.

 - الخلق في الإسلام هو روح التشريع وقلبه النابض.

 - الخلق روح الحياة والحضارة في الإسلام.

 - الخلق الإسلامي الزاكي يوجه السياسة بل هو الموجه الناظم لمصالح الحياة دينا ودنيا.

كلمات دالّة

#اليمن #الاسلام