الثلاثاء 19-03-2024 05:59:21 ص : 9 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

شرايين سبتمبرية تتكلم.. (الحلقة الأولى: سبتمبر.. اليمن، الإنسان، المجد)

الإثنين 20 سبتمبر-أيلول 2021 الساعة 11 مساءً / الإصلاح نت-خاص / عبد العزيز العسالي
 

 

مستهل:
سبتمبر المجد يا ميلاد عزتنا
إنا وهبناك أرواحا وأجفانا
فاسحق ذوي البغي والأطماع مقتحما
أهل العمالات من جافى وعادانا
يا ثورة الشعب يا منهاج وثبتنا
يا صيحة الحق يا فردوس عليانا
كل الدسائس يا أيلول عاجزة
عن أن تعوق يا أخطار مسرانا
الله والمجد والتوحيد غايتنا
والموطن الحر أرجاء وإنسانا
(عقيد عبد الله معجب)
  
يوم ولد اليمن مجده:
هذا عنوان كتاب للأستاذ عبد الغني مطهر، رحمه الله، والذي تولى منصب محافظ تعز بعد انطلاق ثورة الـ26 من سبتمبر المجيدة عام 1962.

لقد انطلق الشعب اليمني كالطوفان الهائج يكتسح الكهنوت مقتحما أوكار الطغيان، تحدوه رغبة وطنية يسمع صوتها في الأعماق قائلا: أيها اليمني اصنع مجدك أرضا وإنسانا.

لقد كابد الشعب اليمني ويلات الطغيان الكهنوتي السلالي الحاقد والذي ضرب على الشعب اليمني أسوارا من العزلة الشاملة.

دور الشعر التأريخي

حتى نقترب بالقارئ العزيز، سنقتبس القليل من الشعر الثائر الذي سجل الكثير من فضائع الكهنوت السلالي الحاقد على الشعب اليمني، إنها إلماحات لكنها كثيفة، تمثل رأس جبل الجليد.

أولا، أبو الأحرار الشهيد الزبيري، رحمه الله، سجل شعره الكثير والكثير ملفتا أنظار العالم أولا، ومؤرخا للأجيال القادمة تلكم الرزايا التي عاشها الشعب اليمني قائلا: 
خرجنا من السجن شم الأنوف
كما تخرج الأسد من غابها
نمرّ على شفرات السيوف 
ونأتي المنيّة من بابها.

هنا يسجل أبو الأحرار الحالة المزرية التي طوّحت بالشعب اليمني فرزح سجينا داخل أرضه التي حولها نير الطغيان والكهنوت إلى سجن كبير طيلة أربعة قرون.

إنه شعب عرف بشجاعته الأبية فلماذا رضخ لعيشة الأموات التي يرفضها كل حر أبي وطني شريف؟

لا، ها هو الشعب خرج يزأر كالأسود الحبيسة وها هو يقتحم أبواب المنايا -عنوة- بحثا عن أشرف وسائل الموت، وهي الطريقة التي يختارها الأحرار رفضا للموت المهين المفروض عليهم كأنهم ليسوا أسودا، وإنما قطعان في زريبة.
 
ثانيا، د. عبد العزيز المقالح:
يوما تغنى في منافينا القدر 
لا بد من صنعاء وإن طال السفر
لا بد منها حبنا أشواقها
تدوي حوالينا إلى أين المفر؟
وبكل مقهى كم شربنا دمعها
الله، ما أحلى الدموع وما أمر
وكم رقصنا في ليالي عرسها
رقص الطيور تخلعت عنها الشجر
 
إنها عيشة المنافي، لا فرق بين المقيم داخل الوطن أو خارجه، الجميع يعيش مرارات اليمن، بما فيها صنعاء المستباحة بقرار كهنوت عام 1948.

إن الشعب اليمني يحتسي دموعه المُرّة، لكن التشوف إلى القادم جعل الأحرار يرقصون للعرس الثوري القادم، فتحولت تلك المرارات إلى رشفات امتزجت فيها الحلاوة بالمرارة، هذا التشوف الراقص المستبشر عاشه أحرار ذلكم الجيل الثائر كما في الشاهد التالي: 

ثالثا، البردوني رحمه الله

أتدرين يا شمس ماذا جرى؟
سلبنا الدجى فجرنا المختبي
أتدرين أنّا سبقنا الربيع
نبشر بالموسم الطيب

إنها تطلعات النفوس الضامئة إلى العدل والحرية والمساواة ودفن الكهنوت السلالي الحاقد ودعاواه المأفونة المتعفنة.
 
الحقيقة: أجزم أننا عاجزون عن تصوير المآسي التي دمرت اليمن أرضا وإنسانا.

غير أن شاعرنا البردوني، رحمه الله، استطاع بموهبته الفذة تصوير حالتي ما قبل فجر الـ26 من سبتمبر وما بعده قائلا:

فولّى زمان كعرض البغي
وأشرق عهد كقلب النبي

رحمك الله أيها العبقري، لقد جادت قريحتك برسم الصورة الأدق والتي لم ولن يصل إليها غيرك.

رابعا، مؤشرات أخرى

إننا من خلال هذه المؤشرات التي مارسها الكهنوت والطغيان ضد الشعب المقهور المنكود، هدفنا تذكير الأجيال كي تقرأ وتعي ما هو زمان "عرض البغيّ".. إنها مؤشرات بسيطة لكنها ترجمة واضحة لأقوال الشعراء أعلاه. 

1- امتلأت المطامير (مدافن الطعام) التي يجبيها الكهنوت باسم الزكاة ويتم إيداعها في المطامير لوقت الحاجة.

لقد تجرع الشعب ويلات الجوع، وقد حاول العقلاء تقديم المقترح للإمام يحيى أن يقدم ذلك المخزون إنقاذا للشعب وتكون "دَينا" في ذمة المواطنين إلى موسم حصاد محاصيلهم فيسددوا بيت المال، ولكن هيهات كانت قلوب شلة الكهنوت الحاكم صغيرا وكبيرا أقسى من الصخر الصّوان.

طالت فترة التخزين سنوات ففسد الطعام وتحول طينا في جميع المدافن، فأمر الحاكم الخبيث بإخراجها ليلا ورميها من أعالي الجبال بعيدا عن الأعين، مؤكدا لمنفذي العملية أنه ربما يكون هنالك بقايا حبوب صالحة للاستهلاك قضما بأفواه من لا يستحقها.

2- أحمد يا جناه: 
لا يقل حقدا وخسة عن والده، فقد روى معلمي في المعلامة وأنا طفل بأنه وصلت شاحنة دقيق إلى المخا من إحدى الدول دعما إنسانيا لبطون شعب عانى ويلات المسغبة، وهرع المواطنون إلى باب مقام الكهنوت بتعز وظلوا منتظرين ثلاثة أيام، لكن الكهنوت أمر بإغراق الكمية في البحر تحت ذريعة أنه صنعها الطغيان، وربما صدرت عن بائس جائع قائلا: رضي الله عن إيطاليا أو أمريكا أغاثتنا بالدقيق. 

وعادت الحشود طاوية خائبة بل والأدهى أنها مجرمة في حق الدين والشرع وحق الله. 

وللعلم فإن معلمي "التقليدي" مرتاح لموقف الطغيان أنه الحامي لحمى الدين، هكذا الطغيان هيهات أن يرحم ولا يترك رحمة الله تقترب من الجوعى. 

3- الشاعر الثائر مغبش: 
الشاعر الشعبي النزيه الثائر الرحيم للشعب الحاج أحمد مغبّش يروي لي مؤكدا بالقسم الغليظ أنه وقف صبيحة يوم أمام المقام بتعز فوصلت شوالات (جواني) الكدم الخاص بالعكفة وتم تقسيمها، وبعد انصراف العكفة تهافت حشد من الجوعى على بقايا فتات في أسفل الشوالات وعلا الصراخ فإذا بالكهنوت الطاغي يصل ويصرخ: "ما هذا؟"، فرد العكفي: "جياع يا مولانا يتهالكون على بقايا"،
فظهر الحنق على وجه الطاغي وأمر فورا بصرف مبلغ لشراء أرانب ودجاج يتم تربيتها خلف المقام على تلك البقايا، وتم تنفيذ الأمر وحضرت الشوالات كالمعتاد في اليوم التالي، وظل الجوعى منتظرين لكن العكفة أخذوا البقايا ورموها للأرانب والدجاج. 

4- أربع وستون جارية: الحرمان من نفايات الكدم ليس سوى قلامة ظفر للطغيان الكهنوتي، كيف لا، وها هو الطغيان يخرج للعلاج في إيطاليا مصطحبا 64 جارية، مشددا وبصرامة من اقتراب أي صحفي إيطالي يصور ذلك الحشد، ومع ذلك تم التصوير والنشر.. طبعا هذا الحشد ليس كل ما في قصر الكهنوت فالعدد أكثر.

5- النذور خاص بالإمام: 
كتب عبد الكافي محمد سعيد مسرحية بعنوان "نذرا يامولاي نذرا"، واتفق معه دماج صاحب رواية
"الرهينة"، خلاصة النذر أن الإمام خصص ساعة في بعض الأيام بواسطة العكفي لمن لديه نذر يقدمه للإمام لأنه لا يجوز النذر أبدا إلا للإمام ابن الإمام ابن الإمام.

الخلاصة:
إن المبالغ المقدمة في النذر تافهة جدا قد لا تتجاوز في أحسن الحالات ريالين فرنصي، وأضاف صاحب الرهينة أن العكفي يتسلمها من طلاب البركة وهو في حالة يرثى لها ويقدمها للإمام بكل إجلال وتقدير فيتسلمها الإمام القابع في باب القصر فيتمتم بالدعاء كي يسمعه طالب البركات.

وهنا عين العكفي الجائع تتابع برجاء، وربما همس العكفي بأن الحاجة لديه ماسة جدا، فيبهرر الإمام صامتا لثوان ثم يقول: لا يجوز لغير ابن الإمام وينفتل منصرفا نحو الداخل، وأحيانا يكتب الإمام بعض الحروز الطاردة للجن والمبلغ أقل بكثير من مبلغ النذر.

6- التمزيق الطائفي: 
قبيلة المذهب هي حامية الكهنوت وبقية الشعب هو طعم لتلك القبيلة الجاهلة الحامية للمذهب، سأقتصر على البيت الشاهد فقط، يقول الزبيري رحمه الله في قصيدة "العجوز وعسكري الإمام" مصورا حوارا مقززا بين العكفي والعجوز الباكية البائسة، بعد سماعها هريف العكفي أنه يريد الكبش غداء أو الديك ويريد ويريد،
فتقول العجوز للعكفي:

ماذا تريد؟ أتريد ضريبة الكوخ (مأواها)؟ لا كانت قوائمه. تدعو على كوخها، واصفة إياه أنه ليس مسكنا يستحق الضريبة.
أم تريدون ضريبة قبري الذي لم أصل إليه بعد؟ وهنا نصل إلى البيت الشاهد بلسان العكفي:

إني إذن راجع للكوخ أهدمه
يا شافعية إن الكذب دأبكمو

7- شتات لا يوصف:
في قصيدته "غريبان وكأنهما البلد"، يقول البردوني، رحمه الله، مصورا لقاء شاب يمني بعجوز يمني في المهجر كاشفا أن جل رجال اليمن شيوخ وشباب مهاجرون بلا هوية إلى الحد الذي يكون لليمني أكثر من اسم، لأنه يأخذ جواز أحد العائدين ويتسمى باسمه ذلك العائد وهكذا تتكرر حالة استعارة الجواز من أكثر من شخص، فيقول واصفا بدقة ضياع الهوية اليمنية: 

ما اسم ابن أمي سعيد
في نيجيريا حسن 
وفي غانا أبو سندِ
وأنت يا عم في تبوك يحيى
وفي الملاوي دعوني ناصر العندِ

إذن، لا مبالغة إذا قلنا إن انفجار ثورة الـ26 من سبتمبر في وجه الكهنوت والطغيان والسلالية الحاقدة كانت انعتاقا من أسار التخلف المخيم على شعب بأكمله وعزلة وضياع هوية وشتاتا وجوعا وحرمانا.

الحقيقة أن الشعب اليمني كان رحيما ودودا تجاه الجلادين، ذلك أنه لم يسارع إلى الانتقام القاسي.

لقد كثر الضجيج ضد الثوار أنهم قتلوا بعض الأبرياء بعد قيام الثورة، ونحن هنا نبادر أولا إلى إدانة تلك التصرفات، لكننا أيضا نبادر متسائلين كم عدد الذين قتلوا ظلما بتلك التصرفات الهوجاء؟ إنهم 38 شخصا لا غير وبعضهم قتلوا لأغراض شخصية بحتة.

إن شعبا رزح أربعمئة عام تحت آلاف الويلات لهو رحيم رحيم وصاحب قيم، هكذا قول واحد، مع إدانتنا لما حصل للعدد الآنف الذكر.

يتردد بلسان بقايا الكهنوت أن ثورة 26 سبتمبر كانت انقلابا لا ثورة، وقد سقط في هذا التدليس مثقفون ورددوه مع الفلول، والصواب هو أن الثورة بدأت بعدد من العسكر والمدنيين ولكنها انتهت بخروج شعب مستميت في سبيل الكرامة وإنسانية الإنسان من أجل الحرية والعدالة والمساواة، إنها معركة الهوية والتاريخ والحضارة.

نعم ثورة شعب، وأقرب شاهد هو وصول جيش الثورة إلى جبال صعدة مطاردين فلول الكهنوت من كهوف صعدة المتاخمة لدول الجوار وذلك بعد عام من الثورة، حيث سجل التاريخ مواقف بطولية للرجال وفي طليعتهم الشاعر الثائر الضابط الذي جمع بين السيف والقلم، حسب د. عبد العزيز المقالح، الذي قال إن الشاعر عثمان أبو ماهر هو الوحيد الذي جمع بين السيف والقلم وعرفته جبال صعدة مطاردا فلول الملكية ومعه أعداد كثيرة من أبناء الشعب.

نعم، خرج الشعب مكافحا مناضلا، والشواهد بالآلاف، تصفع دعاوى الكهنوت أن الـ26 من سبتمبر إنما هو انقلاب.

للثورة الأم يا أعداء
صحوتنا
لها أقمنا من الهامات أركانا
بالحقد موتوا وذوقوا نار حسرتكم
فقد نسجنا لجهل الأمس أكفانا

أكتفي بهذا القدر، نلتقي بعونه سبحانه مع الحلقة الثانية: سبتمبر وعودة الكهنوت.

كلمات دالّة

#اليمن