الجمعة 26-04-2024 02:54:42 ص : 17 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

رحلة البحث عن الذات التائهة

من ثورات المفكرين الأحرار إلى الضباط الأحرار إلى الشعوب الحرة

الإثنين 24 يوليو-تموز 2017 الساعة 10 مساءً / الاصلاح نت - خاص/ ثابت الأحمدي

 

لا شيء ثابت في هذه الحياة غير التغيير نفسه الذي يعد سنة كونية لازمة للخلق مذ وجدوا. ففي الحياة من مظاهر الجمود بقدر ما فيها من مظاهر التجديد والثورة على هذا الجمود، حتى ليبدو أن أحدهما يأتي من الآخر، كما يأتي الليل من النهار، وكما يأتي النهار من الليل؛ بل إن النبوات نفسها لم تأت إلا من ظلمة الجاهليات، كما تأتي الجاهليات بعد ترنح دعوات الأنبياء والمصلحين. وبهذا تدب الحياة وتستمر من نقائضها. وصدق البردوني حين قال:

موت بعض الشعب يحيي كله  إن بعض النقص روح الاكتمال

تفقد الأشجار من أغصانها       ثم تزداد اخضراراً واخضلال

 

حين دشن معاوية بن أبي سفيان مشروع "الجبرية" في الفكر الإسلامي وجلب له من المنظرين ما جلب، كان لابد أن تنشأ من وجه مغاير لها "القدرية" كرد فعل مباشر ونقيض، وذي طابع سياسي وفكري أيضاً، لتأتي بعد ذلك "المرجئة" رد فعل على الاثنين معا، كحل وسطي بين طرفين لا يلتقيان.

وحين شاع المجون والترف ومظاهر البذخ بسبب الغنى الفاحش في مجتمع العصر العباسي كانت الصوفية دعوة صارخة للتقشف والزهد وترك الملذات والانقطاع للعبادات..

 

وحين علا صوت العقلانية المعتزلة على يد أحمد بن أبي دؤاد في عصر المأمون كان لابد "للنقلانية" الحنبلية أن تحضر على يد ابن حنبل في عهد المتوكل، "ناصر السنة" وفقا للتعبير الحنبلي.. وهكذا تتوالد الأشياء من نقائضها..

 

في العصر الحديث حين تغول الجمود وشاع التقليد، حتى بدت الأمة كأنها تعيش عصورها الأولى، وربما عصور ما قبل التاريخ كان لابد لأصوات المصلحين أن تصدح بالتجديد والثورة على كل قديم بالٍ، لم يعد من العصر ولا ينتمي إليه.

 

منذ مطلع القرن العشرين، بل من قبله أيضا بعقود قليلة برزت بعض الأصوات على الساحة العربية منددة بطبيعة الحال الذي آلت إليه الأمة، فكان صوت المجدد جمال الدين الأفغاني (1838 – 1897م) أولى هذه الأصوات التي شبهها البعض بكرة النار الملتهبة، ما لامست شيئا إلا وأشعلت فيه اللهيب، قاطعا الفيافي والقفار في سبيل دعوته الإصلاحية من أفغانستان إلى الهند فإلى أفغانستان ثانية ثم إلى الهند ثانية فمصر فالأستانة فمصر مرة ثانية، فلندن ثم باريس، ثم إلى إيران، ومنها إلى روسيا، فإيران مرة ثانية، ثم البصرة بالعراق، ثم إلى لندن مرة ثانية، ثم عودته إلى الاستانة العثمانية ثانية، وفيها توفي، ونُقل ضريحه عام 1944م إلى كابول بأفغانستان، مسقط رأسه.

 

وخلال كل رحلاته هذه خطب مئات الخطب، وحاضر مئات المحاضرات، وكتب مئات المقالات، مناديا بالتجديد والنهوض العلمي والسياسي وترك الجمود والتقليد، ولذا طالما اصطدمت دعواته التجديديه بكثير من آراء الحكام وتوجهاتهم أينما ذهب، حتى إنه مات ميتة مشبوهة كما يذكر البعض؛ لكن على أية حال، لم يمت حتى كان قد أسس مدرسة فكرية إصلاحية لها تلاميذها ومريدوها في الشرق والغرب.

 

على ذات المنوال، تابع الخطو تلميذه، وأحد كبار مشائخ الأزهر الشريف الإمام محمد عبده الذي اشترك معه في إصدار "العروة الوثقى" "وقد سميت باسم الجمعية التي أنشأتها، وهي جمعية تألفت لدعوة الأمم الإسلامية إلى الاتحاد والتضامن والأخذ بأسباب الحياة والنهضة، ومجاهدة الاستعمار، وتحرير مصر والسودان من الاحتلال، وكانت تضم جماعة من أقطاب العالم الإسلامي وكبرائه وهي التي عهدت إلى الأفغاني بإصدار الجريدة لتكون لسان حالها".

 

قال عنه الفيلسوف الفرنسي الشهير آرنست رينان: "قد خُيل إلي من حرية فكره و نبالة شيمه، وصراحته، وأنا أتحدث إليه، أنني أرى وجهاً لوجه أحد من عرفتُهم من القدماء، و أنني أشهد ابن سينا أو ابن رشد، أو أحد أولئك المصلحين العظام اللذين ظلوا خمسة قرون يعملون على تحرير الإنسانية من الإسار".

 

تلا الإمامَ جمال الدين الأفغاني تلميذُه الإمامُ محمد عبده 1849م – 1905م الذي يعد "واحدًا من أبرز المجددين في الفقه الإسلامي في العصر الحديث، وأحد دعاة الإصلاح وأعلام النهضة العربية الإسلامية الحديثة؛ فقد ساهم بعلمه ووعيه واجتهاده في تحرير العقل العربي من الجمود الذي أصابه لعدة قرون، كما شارك في إيقاظ وعي الأمة نحو التحرر، وبعث الوطنية، وإحياء الاجتهاد الفقهي لمواكبة التطورات السريعة في العلم، ومسايرة حركة المجتمع وتطوره في مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية. وقد تأثر به العديد من رواد النهضة مثل عبد الحميد بن باديس ومحمد رشيد رضا وعبد الرحمن الكواكبي".

 

تلا الاثنين معا: محمد رشيد رضا 1865 ـ 1935م. فأسس مجلة "المنار" على نهج مجلة "العروة الوثقى" وقد تأثر بأستاذه وشيخه محمد عبده وأخذ عنه و"لم يكد يمضي شهر على نزوله القاهرة حتى صارح شيخه بأنه ينوي أن يجعل من الصحافة ميدانًا للعمل الإصلاحي، ودارت مناقشات طويلة بين الإمامين الجليلين حول سياسة الصحف وأثرها في المجتمع وأقنع التلميذ النجيب شيخه بأن الهدف من إنشائه صحيفة هو التربية والتعليم ونقل الأفكار الصحيحة لمقاومة الجهل والخرافات والبدع وأنه مستعد للإنفاق عليها سنة أو سنتين دون انتظار ربح منها". وقد مثلت مجلة المنار منبرا للثقافة ومنصة للعلوم والفكر لرجالات تلك الفترة، مستفيدة أيضا من فكر علماء ومفكرين كبار كان لهم حضورهم القوي مثل الشيخ عبدالرحمن الكواكبي الذي يعتبر أحد رواد التجديد ومقارعي الاستبداد في الوطن العربي، وكتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" فريد في موضوعه، ومرجعية إلى اليوم، ولا تكاد تخلو منه مكتبة عامة أو خاصة.

 

هذه الحالة الفكرية لهذه الكوكبة شكلت كوة الضوء الأولى والفنار الأكبر لرجالات الفكر والإصلاح في المنطقة العربية، وتحديدا مصر من الرواد بعدهم، مثل طه حسين وحسن البنا والعقاد وسلامة موسى وتوفيق الحكيم، والغزالي وغيرهم الذين انتشرت كتبهم في أرجاء الوطن العربي والعالم الإسلامي، وشكلوا مرجعيات فكرية وثقافية لأتباعهم إلى اليوم.

 

على أية حال.. أفضت هذه الحالة من التثاقف والجدل الفكري والصراع العلمي إلى خلق حالة جديدة أخرى تشكلت منتصف الخمسينيات إلى ما بعدها في ظاهرة أسماها البعض "ظاهرة الضباط الأحرار" الذين يعتبرون الامتداد النضالي والثقافي لرجالات الفكر والتنوير، والمتأثرين بهم بصورة مباشرة وغير مباشرة، وأبرز رجالاتها جمال عبدالناصر في مصر وأحمد بن بيلا في الجزائر، وعبد الكريم قاسم في العراق، والزعيم عبدالله السلال في اليمن ومعمر القذافي في ليبيا، وكلهم دعمتهم مصر عبدالناصر آنذاك، فتم تحرير شعوبهم من الاستبداد الداخلي ومن المستعمر الخارجي. علما أن الجيش كان هو المؤسسة الوحيدة المنظَّمَة تقريبا في الوطن العربي خلال تلك الحقبة قبل تبلور الأحزاب السياسية والمنظمات الجماهيرية ومؤسسات المجتمع المدني التي كانت حلما في أذهان الجميع، فكان أن قاد الضباطُ الأحرارُ شعوبَهم لتخليصها من المستبدين والمستعمرين، واستجابت لهم، ملتفة حول هذه المشاريع الثورية، طامحة بغد أفضل، وقد كان أفضل على أية حال، وإن لم يكن بالمستوى المطلوب.

 

وأخيراً.. ومع نهاية العام 2010م ومطلع العام 2011م اندلعت ظاهرة "الشعوب الأحرار" التي انحرفت مساراتها الثورية السابقة عن عهدها، وبدأ الطغيان يطل بقرونه من جديد، ثارت هذه الشعوب، ولا تزال في حالة ثورية ممتدة، وصولا إلى تحقيق أحلامها وطموحاتها مهما كلفها من ثمن. وقد وصل التغيير ووصلت الثقافة والحس الوطني إلى قاع المجتمع، بعد أن كان ذلك مقصورا في البداية على نخبة الفكر والثقافة، فعلى الضباط الأحرار، أما اليوم فالمجتمع كله يغلي، والمجتمع كله مدرك للتغيير ومساهم بصورة مباشرة في عملية التغيير، على الرغم من أنه لا يزال يدفع الثمن أضعافا مضاعفة إلى اليوم لاسباب كثيرة، منها الذاتي ومنها الموضوعي. وبقدر ما تدفع هذه الشعوب من المعاناة والألم بقدر ما ستخرج به من نتائج في الحفاظ على مشاريعها وأحلامها الجمعية، فالشعوب لا تتعلم مرة واحدة.