الجمعة 29-03-2024 08:55:07 ص : 19 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

التيارات السياسية ودورها قبل ثورة سبتمبر62

الجمعة 21 يوليو-تموز 2017 الساعة 10 مساءً / الاصلاح نت/ خاص/ ثابت الأحمدي

   

في البداية تجدر الإشارة إلى أنه لم يكن ثمة تيارات سياسية فاعلة بالمعنى التجريدي لمصطلح التيارات السياسية خلال فترة حكم الإمامة في النصف الأول من القرن العشرين، كما هو الشأن لدى بقية البلدان العربية التي كانت قد عرفت العمل السياسي بصورة مؤسسية أو شبه مؤسسية وناضجة إلى حد ما، في كل من القاهرة وبغداد وبيروت ودمشق والجزائر، وذلك بسبب الوضع المتخلف للبلاد الذي تعمدته الإمامة، وكل ما في الأمر بدايات أولية لمعارضة سياسية، استهدفت طبيعة الحكم بدرجة رئيسية ووحيدة، فرضتها الظروف الموضوعية آنذاك، وكانت تفتقر فيما تفتقر لآليات العمل النضالي عدا الحد الأدنى من المنشورات الصحفية التي لا ترقى إلى اسم صحف، خاصة في الشمال الذي كانت تجثم عليه الإمامة الكهنوتية، وإن كان الجنوب متقدما أكثر في هذه الناحية، ولديه المطابع والصحف، والتي أسهمت بدورها في مناوأة الإمامة ومنازلتها، فقد كانت عدن حاضرة اليمن، وربما حاضرة الجزيرة العربية في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، ومثلت رئة يتنفس منها المناضلون الذين ألجأتهم الظروف إلى الفرار من صنعاء إليها، منذ بداية الأربعينيات حتى قيام الثورة في 62م، كما مثلت صنعاء أيضاً رئة أخرى لعدن في فترة من فترات النضال الوطني؛ لذا لم تتولد فكرة اقتلاع النظام الملكي من جذوره واستبداله بنظام جمهوري مغاير له شكلا ومضمونا إلا في وقت متأخر من مراحل النضال السياسي، وإلا فقد كان رجالات الإصلاح يدورون حول فكرة الإمام العادل، وإصلاح النظام من داخله فقط، كما هو الشأن في ثورة 48م الدستورية التي أسقطت الإمام يحيى، واستبدلته بصهره "زوج ابنته تقية" الإمام عبدالله الوزير الذي يحمل نفس الفكرة الإمامية، وهي الأفضلية السلالية والعرقية، وأيضاً انقلاب 55م في تعز، إذ سعى الانقلابيون من الضباط، وعلى رأسهم المقدم الثلايا إلى عزل الإمام أحمد واستبداله بأخيه عبدالله الذي كان أقل تعصباً وطغياناً منه. ولا نكاد نعثر على وثيقة من بين وثائق العقد الخمسيني لضباط سبتمبر 62م، تشير إلى تغيير النظام جذرياً، بل إنه إلى العام 59م والكثير منقسمون بين تيارين اثنين، كانا قد بدءا في الظهور منذ العام 1957م، وكل منهما يرى أحقية زعيمه في الحكم.

الأول: التيار الحسني، نسبة إلى الأمير الحسن بن الإمام يحيى، المناوئ لتوريث العرش لابن أخيه محمد البدر ابن الإمام أحمد، ومنتظراً نهاية أخيه ليحل محله، وقد التف حوله بعض من المقربين، أغلبهم من المحافظين من الأسرة الحاكمة، وبعض الأسر التقليدية في صنعاء وما حولها؛ بل وامتد الدعم له إقليميا من بعض الدول المجاورة لمساندته، وخلفها الولايات المتحدة الأمريكية، علما أن أخاه الإمام كان قد نفاه إلى أمريكا عقب انقلاب 55م، بعد أن حسم أمر ولي العهد لصالح ابنه، وكان بمنصب رئيس الوزراء.

الثاني: التيار البدري، نسبة إلى ولي العهد محمد البدر ابن الإمام أحمد، ومعه أيضاً بعض الشخصيات الأخرى المستنيرة، أبرزهم الزبيري والنعمان والإرياني، وإن كان الزبيري أقل إطراء على البدر من النعمان، وأيضا محمد عبد الملك المتوكل، والشيخ الأحمر، وأحمد محمد الشامي، صاحب الفكرة من أساسها، كما ذكر هو في كتابه رياح التغيير في اليمن، وأنه قد نظم قصيدة في ذلك، وهو على شاطئ البحر في مدينة الحديدة، كما كان يقف إلى جانبه نظام مصر عبدالناصر يومها، وخلفهم المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفيتي يومها. وهؤلاء يرون أحقية البدر بالإمامة بعد أبيه.

ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن فكرة ولاية العهد ليست من بنات أفكار ما يسمى بالمذهب الزيدي الذي هو في حقيقته هادوي (نسبة إلى الإمام الهادي)، بل لقد كان الإمام الهادي نفسه يعيب على خصومه السياسيين العباسيين فكرة ولاية العهد، ويعيب توريث الحكم من بعده، مقررا أن الحكم لمن يخرج شاهرا سيفه، داعيا لنفسه؛ لكن ما تم عمليا أن أول من ورث الحكم بعد الهادي نفسه هو ابنه من بعده، في أغرب مفارقة سياسية ودينية بين مثالية الديني وبرجماتية السياسي!! وتوارث أغلب الأئمة هذه الفكرة، فكانوا يورثون أبناءهم من بعدهم..

ولم يبدأ العقد الستيني إلا وقد بلغ الصراع بين التيارين أشده، إذ لكل أتباعه ومشجعوه، سواء من داخل البيت الحاكم نفسه أو من خارجه، وسواء من القوى الثورية الجديدة أو غيرها، بل وحتى القوى الإقليمية، كما أشرنا. وهذه الحالة وإن اتسمت بطرف من السلبية بالنسبة للثوار الأحرار الذين لم يقدموا بديلاً قوياً من أوساطهم، واكتفوا بالبديل من البيت الإمامي نفسه، إلا أنها قد لعبت دوراً إيجابياً من وجه آخر، متمثلاً في توسيع الشرخ وهوة الخلاف بين البيت الحاكم نفسه الذي انقسم إلى حسنيين وبدريين، وظل الخلاف محتدما بينهما حتى عقب قيام الثورة؛ حيث توحد الاثنان، وتنازل الحسن عما يراه حقا له وقد أعلن نفسه إماماً لليمن عقب شيوع خبر مقتل الإمام البدر تحت أنقاض دار السعادة صبيحة يوم 26 سبتمبر. وكان هذا الخلاف داخل الأسرة الحاكمة أحد عوامل انهيار المملكة المتوكلية الذي ساعد الثوار في الشهور الأخيرة على سرعة الحسم والتواصل مع مصر عبدالناصر، والتجهيز للثورة التي تكللت بالنجاح وهروب البدر ملتحفا زي النساء باتجاه همدان، ومنها إلى كحلان حجة، فالمحابشة، فالخوبة، ومنها فر إلى خارج الوطن..

وعلى أية حال.. تسارعت الخطى، من اتجاهين:

الأول: تآكل نظام الحكم من الداخل، بالخلافات الداخلية، وأيضاً بمرض الإمام أحمد، وقد صار مقعداً عاجزاً عن الحركة بعد حركة اللقية والعلفي في الحديدة، ومحاولة قتله حتى وفاته يوم 19 سبتمبر 62م. وقد سمعتُ من الوالد المناضل صالح سحلول: أن الإمام أحمد قال لنجله البدر آخر أيامه وهو في حالة غضب منه: "إذا حفظت شرفنا أسبوعاً واحداً بعد مماتي يحشوا ذقني بالنعال"!!. وفعلاً فقد صدقت نبوءته، فلم تمض غير ستة أيام حتى انفجرت ثورة الألف عام في وجه الطغيان. علماً أن الإمام أحمد حاول في العام 61م أن يعمل على تمتين علاقة ولي عهده البدر مع المملكة العربية السعودية، لضمان استمرار حكمه بعد وفاة والده، كما ذكر ذلك الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني في مذكراته، إلا أن كل ذلك لم ينفع أمام ثورة الشعب.

الثاني: بتنامي الوعي الثوري، وتواصل تنظيم الضباط الأحرار مع نظام مصر عبدالناصر، والتسريع بالعمل الثوري، ولم تكن الثورة في الحقيقة إلا القشة التي قصمت ظهر البعير، إذ كانت ملامحها وإرهاصاتها واضحة، بل لقد تسربت أخبارها إلى الإمام البدر نفسه، الذي بدوره استشار قائد حرسه الزعيم السلال، فرد عليه السلال ببرود: "انتبه يسمعوك بايفعلوا ثورة من صدق" في إشارة ذكية منه إلى طمأنته، وإلى أن الخبر كاذب من أساسه.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا بقوة: هل كان الزعيم السلال، قائد حرس الإمام البدر على تنسيق وتواصل مع الضباط الأحرار المناوئين صراحة للبدر خلال التسعة الأشهر الأولى قبيل اندلاع الثورة؟ هذا ما لم تذكره الوثائق والمصادر التي نُشرت حتى الآن، إلا أني سألت نجل الزعيم السلال، اللواء علي عبدالله السلال، عضو مجلس الشورى، في مقيل خاص معه ذات يوم نفس السؤال بمنزله: هل كان الوالد السلال على ارتباط بتنظيم الضباط الأحرار منذ تأسيس التنظيم قبل الثورة بتسعة أشهر تقريباً؟ فأجاب: "نعم. وهذا مذكور في مذكراته التي لم تطبع إلى الآن".