الخميس 12-12-2024 14:50:47 م : 11 - جمادي الثاني - 1446 هـ
آخر الاخبار

الإصلاح والهوية الوطنية

التمرحل النضالي كخيار استراتيجي في النضال

الإثنين 01 مايو 2017 الساعة 05 مساءً / التجمع اليمني للاصلاح - خاص

ثابت الأحمدي

تكلمنا في حلقة سابقة عن الروافد الأساسية للثقافة التي شكلت وعي وثقافة الإصلاح في بعد العام 1990م ممثلة في رافدين أساسيين: الاستفادة من تجربة الإخوان المسلمين المصرية التجديدية، وثقافة الرعيل الأول من المصلحين اليمنيين وخاصة جيل الثلاثينيات فالأربعينيات وما بعدهما..


ونتناول هنا الدور النضالي الذي شكلته تجربة الشهيد محمد محمود الزبيري في مرحلته الأولى منذ عودته من القاهرة، وخاصة في العهد "اليحيوي" وكيف سعى أو حاول الإصلاح بالكلمة أولا، ثم كيف تحول إلى مرحلة تالية من النضال السياسي المعارض بعد أن عجز ـ كما عجز رفاقه المناضلون ـ في إقناع الإمام بضرورة التغيير والإصلاح السياسي، بسبب العقلية المتخلفة للإمام يحيى يومها، والتي هي امتداد لعقليات آبائه وأجداده السابقين من لدن الهادي وانتهاء بحفيده محمد البدر..


وقبل الحديث عن تفاصيل هذا النضال في صورته الأولية، تجدر الإشارة إلى أن ثقافة الزبيري مزيج في بواكيرها الأولى من ثقافة المدرسة الصنعانية، أو ما يسمى بالمدرسة الزيدية القائمة على الاجتهاد وتقديم العقل في قضايا الفقه الإسلامي، ثم من التأثر بثقافة وفكر الإخوان المسلمين في القاهرة التي لم تبتعد كثيرا عن ثقافة المدرسة الزيدية التي كان يحملها المجدد والمناضل الزبيري، خاصة وقد نهل من دار العلوم بالقاهرة، فجمع على نحو نادر بين الثقافتين ومازج بينهما، متخذا من الأولى البعد الوطني ومن الثانية البعد المثالي والروحي، الأمر الذي جعل منه مدرسة في النضال والفكر والسياسة؛ لاسيما وقد كان الرجل على قدر كبير من الاستنارة والتعمق التاريخي، وفي كتابه: "الإمامة وخطرها على وحدة اليمن" ما يكشف عن هذا العمق الأصيل في ثقافته وفكره، كما أن في أعماله الشعرية الرائدة ما يشي بطبيعة العقلية المستنيرة التي تميز بها.


يقول رفيقه علي ناصر العنسي: "أول تجمع لنا كان ونحن في القاهرة عندما كنا ندرس في الأزهر، وبدأنا الاتصال بشباب ينشطون ضمن الإخوان المسلمين، ومنهم الشيخ حسن البنا الذي كان يرى أن اليمن أنسب البلاد لإقامة الحكم الإسلامي الصحيح، وأن المناخ مناسب للإخوان المسلمين ليعملوا فيها؛ فكان يهتم بنا اهتماما خاصا، ويولي عنايته بشكل أخص لكل من الزبيري والمسمري اللذين كان يعتبرهما شخصيتين متميزتين، ومن هنا بدأت الحركة الوطنية بين الطلاب اليمنيين".


لذا أسس هناك في القاهرة أثناء دراسته "كتيبة الشباب اليمني" عام 1940م كأول منظمة سياسية معارضة للنظام الفاسد، ومعه بعض زملائه اليمنيين، ليقطع دراسته في العام 1942م ويعود إلى صنعاء، يحمل هَمَّ الوطن أجمع، وهمَّ إصلاح النظام الكهنوتي الجائر، الجاثم على صدر الشعوب قرونا من الزمن.


عاد الزبيري من القاهرة ـ وأي مدينة هي في تلك الفترةـ!! منبهرا بجمالها وحضارتها وثقافتها السائدة آنذاك التي شكلها رموز كبار في التجديد الثقافي والفكري من مختلف التيارات، مثل الإمام محمد عبده ورشيد رضا والبنا، وطه حسين وسلامة موسى والعقاد والمنفلوطي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وغيرهم، فأراد مجاراة القاهرة في صنعاء وإن في حدها الأدنى؛ غير مدرك ربما أن عقلية كاهنها الأول "الإمام يحيى" غير عقلية الملك فاروق أو عبد الناصر بعد ذلك.!


على أية حال.. اقترب الزبيري من الإمام يحيى مادحا، وبين ثنايا المدح دعوات الإصلاح وصوت الضمير، من منطلق "القول اللين" فلعل وعسى.. اقترب منه وبين يديه مشروع "جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" كمدخل أساسي للنضال، عارضا إياه على الإمام يحيى الذي لم ترقه الفكرة من أساسها، ومن ضمن ما قال فيه الزبيري، طامعا في الصخرة الصماء أن تلين، قوله:


نور النبوة من جبينك يلمعُ * والملك فيك إلى الرسالة ينزعُ
يكفيك أن المصطفى لك والدٌ * أفضت إليك به الفضائل أجمعُ
يكفيك أن الدين وهو مشردٌ * من سائر الأقطار نحوك يفزعُ
لا غرو أن تحميه فهو أمانةٌ * من جدكم في عرشكم مستودعُ
من أين يأتيك العدو وأنت في * أرضٍ تكاد صخورها تتشيعُ
يا ابن النبوة أين نذهب عنكمُ * والغرب منتظرٌ لنا يتطلّعُ
تالله لو حاد إمرؤٌ عن أمركم * لم يأوه إلا "التفرنج" موضعُ
ما للعباد سواك إلا فتنة * عمياء أو كفرٌ يضل ويصرعُ


ومع هذا فقد بدا وكأنه يحرث في البحر أو يرقم على الهواء، فلا جدوى من دعواته، فخطب خطبة في الجامع الكبير، نادى فيها بضرورة الإصلاح وتطبيق تعاليم الدين ورفع الظلم عن كاهل الناس، فكانت هذه الخطبة هي بداية الصراع الحقيقي بينه وبين الإمام الذي زج به في السجن بعدها مباشرة لمدة تسعة أشهر، خرج بعدها من السجن، بنَفَس ثوري جديد وقد حسم أمره باتجاه النضال المباشر دون هوادة، معلنا ذلك في قصيدة هي من أشهر قصائده الثورية، وهي:

خرجنا من السجن شمّ الأنوف كما تخرج الأسد من غابها
نمر على شفرات السيوف ونأتي المنية من بابها
ونأبى الحياة اذا دنست بعسف الطغاة وإرهابها
ونحتقر الحادثات الكبار اذا اعترضتنا بأتعابها
ونعلم أن القضا واقع وأن الأمور بأسبابها
ستعلم أمتنا أننا ركبنا الخطوب حناناً بها
فإن نحن فزنا فيا طالما تذل الصعاب لطلابها
وإن نلق حتفاً فيا حبذا المنايا.. تجيء لخطابها
أنفنا الإقامة في أمةٍ تداس بأقدام أربابها
وسرنا لنفلت من خزيها كراماً، ونخلص من عابها
وكم حية تنطوي حولنا فننسلّ من بين أنيابها


والحق أن هذه القصيدة كانت بداية النفير العام، وأشبه ما تكون بالبيان السياسي الثوري الأول في طريق النضال، مع بقايا أمل ـ هو من طبيعة أي سياسي مهما كان الجو ملبدا بسحب اليأس ـ على السيف أحمد، نجل الإمام الذي أوهم الزبيري ورفاقه بمكره الخبيث أنه قريب منهم، وأنه سيعمل على تنفيذ مشروعهم الإصلاحي إذا ما غادر أبوه الحياة، وظل بصيص من أمل معقودا عليه من قبل الزبيري ورفاقه، فلم يغلقوا الباب وأبقوه مواربا، لعل وعسى..!

ويبدو أن الزبيري قد أعاد الكرة من جديد مع الإمام أحمد بعد ذلك، فمدحه مطلع مشواره السياسي معه، آملا في الحد الأدنى من الإصلاح السياسي الذي طالما وعدهم به سابقا، كما في قوله:

يا آل يحيى سلام من رياض نهى ينهل مسكاً عليكم منه مدرارُ
كم كابد الناس من ليل أناخ بهم كأنما ضاع إصباحٌ وإسفارُ
حتى طلعتم وما في قطرنا أحدٌ يشكُّ أنكم في القطرِ أقمارُ
وأنكم من ضلال الغرب متعصم وأنكم لقصور الدين عُمّارُ
أنقذتم أمةً كادت تمزقها مخالبٌ من أعاديها وأظفارُ
فأقبلت تترامى تحت ظلكم كما تهب إلى الأوكار أطيارُ
وجئت يا ناصر الإسلام تبعثهُ كأنما أنت للإسلام تكرارُ


ولما لم يُجد النضال السلمي معه نفعا تحول الزبيري إلى مرحلة ثانية من المواجهة المباشرة من خارج اليمن بحدية أكثر، وكانت تلك القصائد الرنانة بنَفَسها الثوري الهائج، منازلة الإمامة وبكهنوتها الزائف، داعيا إلى نظام جديد بعد أن كان ينادي بإصلاح النظام..


الشاهد في هذه السردية الاستطرادية هو التمرحل النضالي في المواجهة والنضال لدى هذه المدرسة التي مشى الأبناء فيها على خطى الآباء، منذ تلك الحقبة وإلى اليوم، ولم يكن النفير العام في صورته النهائية أو الثورية الملحمية بصيغتها الشعبية إلا الميسم الأخير وقد عجزت قبله كل الحيل والطرق..!