عرفنا في الحلقة الثالثة أن المفكرين وفلاسفة الاجتماع قرروا باتفاق أن "ثقافة الإقلاع الحضاري" في أي مجتمع لم ولن يكتب لها الفاعلية ولا النجاح إلا بشرط واحد هو أنْ تكون مفاهيم وقيم ثقافة الإقلاع نابعة من داخل ثقافة المجتمع.

وكنا قد استعرضنا في الحلقة الثانية أدلة مفهوم الاستخلاف، وتوصلنا إلى اعتماد مفهوم الاستخلاف لاعتبارات هامة أبرزها تفاديا لأبرز عوامل الإخفاق.

 

وفي هذه الحلقة سنتحدث حول "وعي قيم الاستخلاف"، فنقول:

أولا: من نافل القول إن الوعي بقيم الاستخلاف شيء غير الاستخلاف، ذلك أن الاستخلاف في السياق القرآني أعم دلالة، فكل الناس خلائف في الأرض، وكل من يعمل وينتج في مجال ما هو يؤدي نوعا من عمارة الأرض والاستخلاف.

وعليه يمكننا القول إنا إذا وعينا قيم الاستخلاف ذهنيا وأتقناها ممارسة، هنا نكون قد وضعنا أقدامنا على أول درجة من درجات سلم ثقافة الإقلاع الحضاري.

ثانيا: مفهوم الاستخلاف في القرآن له شروط مبدئية، وله قيمه الفكرية والأخلاقية. ولكي يصل القارئ معنا سريعا إلى وعي قيم الاستخلاف، نذكره بالقاعدة القرآنية التي كشفت عن فلسفة إصلاح المجتمعات، والمتمثلة في النص القرآني المعروف "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".

إذن، تغيير ما بالأنفس هو أول قيم الاستخلاف. كما أن الوعي بأساليب ووسائل وإجراءات التغيير أهم من العلم المجرد بمفهوم التغيير.

  

أولويات قيم الاستخلاف

- عرفنا أن أول شروط الاستخلاف هو تغيير ما في الأنفس. وسنستعرض أهم قيم الاستخلاف كونها أهم الأولويات، انطلاقا من معارف الوحي فنقول:

- بما أن الإنسان هو صنع العليم الخبير الحكيم المهيمن المحيط، فإن العليم الخبير سبحانه أعلم بالوسائل الأكثر فاعلية في تغيير النفس والمجتمع نحو الصلاح.

- معارف الوحي كما نصت على أول شرط في طريق الاستخلاف، فإنها أيضا قد نصت على أهم أولويات قيم الاستخلاف وذلك على النحو التالي:

أولا: الكفر بالطاغوت ثم الإيمان بالله، "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم".

ماهو الطاغوت؟ هو اسم جاء اشتقاقه بصيغة مبالغة من الطغيان، غير أن معارف القرآن تعطينا دلالات أبعد وأشمل وأوسع.

نلاحظ أن القرآن لم يقل "يكفر بالطغيان"، وإنما قال "بالطاغوت"، أي المتجبر المفسد المهلك للحرث والنسل، ذلك أن الطغيان ربما قد يكون معه شيء من العدل أو الاستقامة. قال تعالى: "فاستقم كما أُمرت ومن تاب معك ولا تطغوا..."، وقال سبحانه: "وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد".

بكلمة، الطاغوت هو المستبد المفسد المهلك للحرث والنسل، كما نصت الآية في نفس سورة البقرة. وبما أن معارف الوحي قد كشفت بجلاء وفرقت بين الطاغوت والطغيان، وبما أن المجتمع العربي عموما واليمني خصوصا يمارس فيهما إهلاك الحرث والنسل، وبما أن جزءا من النخبة أصبح يعي خطورة الاستبداد، وأصبح مفهوم الاستبداد حاضرا في كل الأدبيات والخطاب العام والخاص، وكون مفهوم الطاغوت قد التقى بمفهوم الاستبداد في إهلاك الحرث والنسل، فإننا سنتعاطى مع مفهوم الاستبداد مقررين أن أول قيم الاستخلاف هو الكفر بالاستبداد، فنقول:

1- الاستبداد، هذا المفهوم الطاغوتي لم يستطع الشيطان أن يمارسه، نعم الشيطان تخلق بالكبر والحسد لكن فساده وحسده وكبره لم يصل إلى حد دعوة الآخرين إلى عبادته كما فعل فرعون، ولم يدَّعِ علم الغيب ولا إحياء الموتى كالنمرود، ولم تسجل لنا الكتب السماوية أن الشيطان أفسد الحرث والنسل.

نعم سجلت عنصرية الشيطان "أنا خير منه..."، لكن وحي السماء لم يسجل أن الشيطان أفسد الحرث والنسل وسفك الدماء وهتك الحرمات والأعراض وكرامة الإنسان في سبيل عنصريته. ألا نكون قد ظلمنا الشيطان إذا قلنا إن المستبد شيطان؟
الحقيقة أن وصف المستبد بالشيطان الأكبر فيه تجنٍّ وظلم للحقيقة.

2- الكفر بالاستبداد يعني رفضه ذهنيا ونفسيا.

3- الكفر بالاستبداد يعني محاصرة الاستبداد، وفضح منظومته التي يتكئ عليها بدءًا من الحمل الكاذب المسمى زورا "ديمقراطية"، وبالتالي مصادرة الشرعية الساسية التي جاء بها الشرع المقدس باسم الديمقراطية المزورة والدين الشيطاني الدجال.

4- الكفر بالاستبداد يعني فضح كل جلاوزة الاستبداد من تجار ووجاهات وعمائم وجهل.

5- الكفر بالاستبداد يعني أنه عدوان على دين الأمة ومقدساتها وحقوق الأمة وكرامتها، كون الاستبداد ينسف تعاليم الوحي من أساسها وتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر النبوات.

6- الكفر بالاستبداد، لأنه عدو الأخلاق وأحكام الشرع.

7- الكفر بالاستبداد، كونه المفسد للحرث والنسل، ولأنه عدو العلم والنهوض الحضاري.

8- الكفر بالاستبداد، كونه عارٍ من أي فضيلة فيلجأ إلى التمسح بالعمائم وبالتدين الكاذب كبناء المساجد ودور التحفيظ ليغطي فضائعه.

9- الكفر بالاستبداد يعني الكفر بكل ما يشرعن للاستبداد تحت أي مسمى.

10- الكفر بالاستبداد لأنه عدو الأنبياء والمرسلين والمصلحين عبر تاريخ البشرية، تأملوا الآية 21 من سورة آل عمران: "الذين يقتلون النبيين والذين يأمرون بالقسط"، إنهم المستبدون وجلاوزتهم الملعونين.

11- الكفر بالاستبداد يعني تجريمه وإدانته ومحاصرته ومحاكمته.

12- الكفر بالاستبداد يعني أنه حرام على الإنسان أن يتنازل عن حريته كما يحرم عليه أن يتنازل عن فرائض وتعاليم دينه.

13- الكفر بالاستبداد يعني الحفاظ على دماء الإنسانية المعصومة في كل الأديان السماوية والنظم الوضعية.

14- الكفر بالاستبداد يعني تقليم أظافره وتجفيف منابعه أيا كانت.

15- الكفر بالاستبداد يعني السعي الدائب إلى تفكيكه، ومن ثم مطاردته في الأسرة والمسجد والمدرسة والجامعة وكل مرافق العمل.

16- الكفر بالاستبداد لأنه الإيدز الذي يفقد الأمة مناعتها التي تقارع الظلم والطغيان فتذل الأمة وتنبطح وتصبح موطأة الأكناف لكل مفسد داخلي ومحتل خارجي.

17- الكفر بالاستبداد لأنه يفسد العلاقات المجتمعية ويكرس الجهوية والطائفية والشللية ويدمر النسيج المجتمعي وهذا أخطر من الحرب.

18- الكفر بالاستبداد الأسري الاجتماعي والذي يطالعنا بثماره المرة وأخطر من أي خطر، حسب محامي اتحاد نساء اليمن بتعز، والذي صرح بأن 700 حالة خلع في مديرية من مديريات ريف تعز خلال فترة الحرب، كون رب الأسرة المستبد قتل أو مات أو عجز بسبب غياب العلاج فانطلقت الفتيات المكرهات لا يلوين على شيء فقط سوى التخلص من العيش الكريه. هذه إحدى كؤوس الاستبداد الطاغوتي المفسد للحرث والنسل.

19- الكفر بالاستبداد كون إحدى الفتيات أكرهت على الزواج بمن لا تريد في ريف إب المتاخم لمديرية السلام فجاءت بعصابة ليلية وقتلوا الزوج الشاب (25 ربيعا) قبل عشرة أيام وتم تغطية القضية بحفنة من الفلوس.

20- الكفر بالاستبداد في الحقيقة يبدأ من تحرير الطالب الجامعي الذي يعيش رهابا ثقافيا وطاغوتيا وإداريا، رهبوت الأستاذ الجامعي الذي تضخمت ذاته وأصبح لا يرى إلا ذاته.

أحد التربويين عاد من اليابان فحدثنا قائلا إن الأستاذ في اليابان يقول للطالب في الصف الرابع الأساسي: يا أستاذ فلان. والمعلمة أيضا في اليابان تقول للفتاة: أنتِ اليابان. يا ترى هل الأستاذ الجامعي عندنا أصبح لا يفرق بين الاحترام والاستبداد؟

إنن علم النفس يقدم توصيفا دقيقا لتلك النفسيات المستبدة بأنها عانت استبدادا قاسيا في الجامعات التي تخرجت منها، وبالتالي جاءت تتقيأ مخزونها الوبيئ في جامعاتنا، والأسوأ أن المدرس الجامعي يعتبر هذا الكهنوت الإفسادي المستبد ركنا أصيلا في تكوين شخصية الطالب.

ألا تتملكك الدهشة ويذرعك القيئ وأنت تلاحظ طالبا يتقدم لمناقشة الماجستير، وتفاجأ بأن أحد أعضاء اللجنة أقام الدنيا ولم يقعدها، لأنه وجد في البحث كلمة "وقد قمتُ"، فاستشاط غضبا قائلا للطالب: من أنت حتى تكتب بضمير المتكلم؟ هذه جريمة! وإنما قل: قام الباحث. ضحك بعض العقلاء الحاضرين الذين سلمهم الله من الإهانات الجامعية، فنادى الطالب بصوت مرتفع معرضا بالأستاذ: أنت لا ضمير لك فانتفخ الأستاذ ابتهاجا، وهات يا غباء.

يكاد يكون الطغيان في الجامعات محل تسليم بين أعضاء هيئات تدريس الجامعات إلا من رحم الله. لقد ناقشتُ بعض الدكاترة الذين يدعون إلى التمرد على كل القيم، فوخزته بسؤال: هل دعوتك هذه يدخل فيها الطالب الجامعي إلى عالم التمرد؟ فظل يثرثر نصف ساعة رفضا وتبريرا.

21- الكفر بالاستبداد يعني إشاعة جو من التحرر الفكري والاجتماعي والتربوي مصحوبا بمفاهيم التفريق الجوهري بين الاحترام وتقديس الطغيان.

22- الكفر بالاستبداد يعني إيجاد جو تحرري، كوننا نعلم أن جيل الحرية لن يأتي بين عشية وضحاها، وإنما سيولد جيل الحرية من رحم إشاعة التحرر التي ستظل تدوي طيلة عقدين من الزمن فأكثر.

23- الكفر بالاستبداد يعني غياب النفاق، ويعني غياب التملق الاجتماعي.

24- الكفر بالاستبداد يعني إطلاق العنان للأرواح أولا والعقول ثانيا والأجساد ثالثا والفكر رابعا والعلم خامسا والعروج الحضاري سادسا.

25- الكفر بالاستبداد يعني استنشاق عبير الحرية فلا يستطيع أيا كان أن يفسد قيم المجتمع أو محاربة هوية المجتمع.

26- الكفر بالاستبداد يعني تطبيقا وامتثالا للقاعدة الكلية المقاصدية التي شرعها الله قائلا: "لا إكراه في الدين"، فكيف نقبل بمن يأتي لينفث سمومه وإفساده تدميرا للمجتمع، متحديا كرامة المجتمع، ضاربا عرض الحائط بقيم المجتمع وأعرافه السليمة.

27- الكفر بالاستبداد يعني احترام إنسانية الإنسان وكرامته.

28- الكفر بالاستبداد يعني رفض الزيف الديني والدجل والتضليل ودفن العنصرية والتسيد على الأرواح سواء كان ببندقية قاتل أو بصاق عمامة.

29- الكفر بالاستبداد يعني حفظ مقدرات وبقاء هيبة الأمة والشعب أمام أعدائها.

نلتقي في الحلقة القادمة، بعون الواحد الأحد، نستكمل بقية قيم الاستخلاف.