الأحد 05-05-2024 12:57:48 م : 26 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

القرآن وثقافة الحياة الأسمى (دراسة سننية) الحلقة الثانية: قيمة الأخوّة سنة الحياة الأسمى

السبت 19 أغسطس-آب 2023 الساعة 10 مساءً / الإصلاح نت-خاص-عبد العزيز العسالي

  

 

تمهيد:

تحتل قيمة الأُخوّة "المكانة المحورية" بين سنن الله الناظمة لبناء المجتمع المسلم، ذلك أن قيمة الأخوة هي -أولا- منظومة من القيم. وثانيا، أن المتتبع لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يجد أنه قد جعلها إحدى ركائز بناء المجتمع فور وصوله إلى المدينة المنورة، وهذه الحكمة النبوية التشريعية تلفت التفكير إلى مقاصد التشريع النبوي المنبثق من هدي القرآن الحكيم، ذلك أن منظومة الأخوة هي أشبه بالخيط الناظم لـ"حبّات السُّبْحة"، كيف لا، والقاموس اللغوي قد أطلق كلمة النظام على خيط السبحة، ثم تطورت دلالة النظام فأصبحت تطلق على الأنظمة والنظُم عموما، فإذا أضفنا التحذير النبوي من الوقوع في "حالة الغثائية" والتي تعني التبعثر والتفرق أشبه بحبّات السبحة التي انقطع نظامها - خيطها.

إذن، إذا تتبعنا مصادر التشريع النبوي العملي سنجد أنه صلى الله عليه وسلم قد طبّق مقاصد القرآن في مجال التشريع العام ومجال بناء المجتمع في آن، وتأتي قيمة الأخوة في مقدمة سنن الله في قيام المجتمعات، ذلك أن "قيمة الأخوة" احتلت خريطة منظومية واسعة بين مقاصد القرآن - عقيدة، وقيما كونية وخلقية وسنن اجتماعية وقوانين التسخير.

أيضا، وبإمعان النظر الفكري نجد أن التطبيق النبوي للقرآن قد صهر تلك المقاصد والقيم بصورة مثيرة للدهشة حقا، حيث تجلى لنا مجتمع المدينة في لوحة بديعة متكاملة محكمة البناء - أبعادا وعلاقات وغايات تعانقت كلها في إطار محوري هو خريطة قيمة الأخوة.

وهنا لا يتمالك العقل إلا أن يسجد تعظيما وتصديقا لصاحب الخلق والأمر، والقائل سبحانه: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا".

 

أنواع الأخوّة في القرآن:

القرآن تحدث عن نوعين من الأخوة.. النوع الأول: أٌخوّة الكرامة الإنسانية، قال تعالى: "وإلى مدين أخاهم شعيبا".. "وإلى عاد أخاهم هود".. "وإلى ثمود أخاهم صالح".. وهذا النوع من الأُخوّة يشمل كل بني الإنسان باستثناء المحاربين خلال فترة حربهم.. قال تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يظاهروا على إخراجكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين".

 

 النوع الثاني، أخوّة الإيمان:

 قال تعالى: "إنما المؤمنون إخوة".. وهذا النوع من الأخوة لا يتناقض مع النوع الأول من الأخوة العامة.

النوع الثالث من الأخوّة هو "أخوة المواطنة"، وهذا النوع يقوم على أساس الرقعة الجغرافية السياسية، وهذا النوع -أخوة المواطنة- شرّعه الرسول صلى الله عليه وسلم في سيرته العطرة نظريا في وثيقة المدينة، وعمليا على أرض الواقع الجغرافي، حيث نصت بنود الوثيقة على الدفاع المشترك ضد أي عدوان يستهدف المدينة المنورة.

الجدير ذكره أن أنواع الأخوة الآنفة الذكر مصدرها التشريعي "دين مقدس" ملزم أساسه التوحيد عقيدة وقيما وأخلاقا وعبادة وتشريعا.

وهنا نجد الفرق الشاسع بين المجتمع ذي الأخوة القائم على أساس ديني، وبين المجتمع المستند إلى ثقافة وقانون مادي، والتاريخ مليء بالأمثلة - فظاعة مجازر البوسنة، راوندا، وغيرهما نماذج مرعبة.

 

الهدف من الكتابة حول الأخوة:

أولا، الكشف عن مكانة وأهمية الأخوة ودورها السنني الحاكم للاجتماع. وثانيا، الكشف عن وظيفة سنن الله في الاجتماع ودورها المنهجي، كونها ضوابط معرفية منهجية ترسم حدودا لمعالم تنزيل مقاصد القرآن وقيمه على أرض الواقع كما دلت عليها السيرة العطرة بلسان الحال والمقال أنه لا تناقض بين قيم التشريع العام وسنن الله الحاكمة للاجتماع الإنساني.

والهدف الثالث هو رسم معالم تأصيل للثقافة الإسلامية انطلاقا من مقاصد القرآن وتطبيقات الرسول صلى الله عليه وسلم في سيرته العطرة.

على أنني لا أدعي القيام باستقصاء الأدلة حول الأهداف الآنفة ولكن حسبي أني فتحت نافذة للراغبين في إثراء الموضوع، ومع اعترافي بعدم قدرتي على استيفاء الموضوع، لكنني أزعم أني بذلت جهدا في لملمة أطراف الموضوع وتقسيمه إلى المحاور التالية:

 

المحور الأول، أسس الأخوة:

تتصل قيمة الأخوة بـ"مركزية التوحيد" اتصالا وثيقا، وتلك هي طريقة القرآن في الوصل بين القيم والسنن وركني الإيمان بالله واليوم الآخر، والقرآن زاخر بالنصوص في هذا الصدد، غير أنني سأكتفي بنصين، النص الأول: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون • واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها".. إذن يلاحظ ارتباط قيمة الأخوة بركني الإيمان بالله واليوم الآخر في غاية الوضوح، فقد بدأ بنداء الإيمان، وثنى بتقوى الله حق تقاته، وهذا هو ركن الإيمان بالله، وثلّث بالنهي وأداة الحصر "ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".. فالموت على الإسلام دلالة على ركن الإيمان باليوم الآخر.

أما الشاهد على "قيمة الأخوة" فقد اقترن بالامتنان الرباني الهادي إلى نعمة قيمة الأخوة: "فأصبحتم بنعمته إخوانا".. أي فقد كان حالكم على شفير جهنم فتحولتم بنعمة الله الهادية إلى نعمة الأخوة فدخلتم في نعمة الأمن والسلام، وهذا هو المقصود في سنن الله الحاكمة للاجتماع.

النص الثاني ورد في صيغة خبرية في غاية الإيجاز تضمنت ركني الإيمان، والقيمة الملازمة له، قال تعالى: "إنما المؤمنون إخوة".

والدليل الثالث في هذا المقام هو تطبيق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رسّخ عمليا قيمة الأخوة بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة كما هو معلوم، بل وصل الأمر إلى حد التوارث حتى نزلت سورة الأنفال: "وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله".. صحيح أن التوارث هنا لم يدخل حيز التنفيذ لكن المقصد القرآني واضح وهو ترسيخ وتجذير قيمة الأخوة والذي تجسد من خلال إرساء قيم أخرى - التكافل نموذجا.

الخلاصة، قيمة الأخوة تنبثق عن أساس عقدي - ركني الإيمان بالله واليوم الآخر.

 

المحور الثاني، التداخل:

ذكرنا أعلاه أن قيمة الأخوة هي منظومة محورية - خريطة قرآنية استوعبت عددا لافتاً من مقاصد القرآن - عقيدة وقيما كونية وسننا اجتماعية.. نعم لقد تكاملت تلك المنظومة القيمية وتداخلت حتى أدت دورها وثمارها الوظيفية كما سنوضح لاحقا بعد استعراض أبرز القيم المنضوية في إطار "قيمة الأخوة"، وفي طليعة أبرز القيم "الكفر بالطاغوت"، قال تعالى: "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها".

وقال تعالى: "والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه".

الجدير ذكره أن الكفر بالطاغوت تكرر ذكره في القرآن المكي والمدني على السواء، ذلك أن مركزية التوحيد لها وجهان، الأول هو إفراد الله بالعبادة، والثاني هو الكفر بالطاغوت، ومن دون الكفر بالطاغوت ومحاصرته في مجالات سنن الله في الاجتماع -بناء المجتمع وفق سنن الله- عقيدة، وقيما، وسياسة، وأخلاقا، وتربية، واجتماعا، واقتصادا، وإدارة، وما لم يتحقق الكفر بالطاغوت ومحاصرته، لم ولن يتحقق التوحيد - إفراد الله بالعبادة، هذا أولا.

أما ثانيا، فإن بناء المجتمع وفق منظومة سنن الله في الاجتماع هو الجانب العملي التعبدي الذي يتجلى من خلاله مفهوم الكفر بالطاغوت.

أما ثالثا، فبقدر التجسيد العملي لقيمة الأخوة تحضر شخصية الأمة - هيبة الأمة، نعم وبقدر حضور شخصية الأمة: "وأمرهم شورى بينهم" يتحقق الكفر بالطاغوت ومحاصرته، ذلك أن الشورى هي تحصين الأمة من بغي السلطات، وكلما التزمت الأمة مؤسسيا بسنة الله الاجتماعية ابتعدت عن حالة الارتخاء وأسوأه المتمثل في الركون إلى الظلمة.

أمّا بقية سنن الله الاجتماعية فهي: التعاون، التعارف، التكافل، التراحم، القيام بالقسط بين أفراد المجتمع عموما، حب الخير وفعله للجميع، العدل في القول ولو على ذي القربى بهدف إعادة الحق إلى صاحبه، الحرية، المساواة، تقديس الحقوق، الولاء للمبادئ - القواسم المشتركة، الصدق، التواصي بالحق - ربط القيم بمقاصدها ومآلاتها أي عواقبها، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حسن الجوار، حراسة الفضيلة، وحدة الهدف - روح الفريق "كأنهم بنيان مرصوص".. رفض الظلم والاستبداد أيا كان مصدره أو شعاره، وقس على ذلك تكن فقيها.

 

المحور الثالث، وظيفة منظومة الأخوة:

تجنبا لغموض المصطلحات والمفاهيم من جهة ونظرا للتداخل الحاصل بين الوظيفة والثمار يمكننا استعراض أبرز ثمار "منظومة قيمة الأخوة" وذلك فيما يلي: قلنا إن بناء المجتمع وفقا لسنن الله هو عبادة لله وتنفيذا لأوامره، فتلك العبادة "تربية عملية" للمجتمع وهذ الإجراء التربوي يصبح "عرفا متبع وثقافة مجتمعية راسخة".

ثانية الثمار: الفاعلية، أي الإنجاز في وقت قياسي وتكاليف أقل، وهذه الثمرة أقوى وأهم، ذلك أن كل فرد ينطلق من عقيدة أنه يعبد الله فلا يحتاج لرقابة خارجية، وفوق ذلك فكل فرد يعلم تماما النتائج والثمار الدنيوية المترتبة على التزامه بسنن الله وكذلك عظيم الأجر والثواب في الآخرة.

ومن أبرز الثمار تحصين الأمة من بغي السلطات: رفض الظلم والطغيان، والاستبداد، ومحاصرتهما.. ومن الثمار التجديد في الوسائل الأكثر ضمانا فيه تحصين المجتمع، ذلك أن الطغيان يبتكر الوسائل الملتوية خبثا وخساسة، فيغلفها بالدين تارة وباسم المصلحة تارة،... إلخ لغة الخداع والزيف.

لكن وعي المجتمع بسنن الله يثمر اليقظة والانتباه بل يتحلى بقدر كبير من وعي المسؤولية، فيسارع إلى كشف وسائل الطغيان والاستبداد من جهة، واجتراح وسائل - حسب العرف المتجدد لتحصين المجتمع من جهة ثانية، بل ويحث المجتمع تجاه أهمية تجديد التعليم والفكر والثقافة ودوره في بناء وحماية المجتمع حسب الزمان والمكان.

ومن الثمار: النزوع والتطلع إلى الهوية والاستقلالية، فالقرآن سجل هذا النزوع والتطلع في سورة فاطر وسورة الأنعام، قال تعالى: "وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا • استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينتظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا".

إذن، النزوع الفطري للاستقلالية وقيام أمة ذات هوية وكيان محترم، فقط يريدون نذيرا - رسالة سماوية كما هو حال فارس والروم فجاءهم النذير فلم يحترموا سنة الهداية فحرموا سنة التأييد والعون، ذلك أن سنة الله في التأييد والعون هي من أعظم ثمار الالتزام بسنن الله في الاجتماع.

ومن الثمار تحقيق التعارف والقبول بالاختلاف، ذلك أن الاختلاف سنة الله في الكون والاجتماع، فالاجتماع يقبل بالاختلاف التزاما وتنفيذا لسنة الله وهذا تفعيل لسنة التكريم الإلهي للإنسان، وهنا يتمتع المجتمع بسنة الحرية فينتج عنها ثمرة سنة الله - التأييد والعون فيتحقق الانسجام الاجتماعي.

ومن الثمار حضور الوعي والاعتبار بالتاريخ - الدروس والعبر، فالوعي المجتمعي بهذه السنة ينتج عنه سنة كثرة المصلحين، وسنة كثرة المصلحين تثمر سنة سلامة المجتمع من الدمار والفساد والتخريب: "وما كان ربك ليهلك القرى وأهلها مصلحون".. بصيغة أكثر وضوحا: تحقيق سنة السلام الاجتماعي وسنة الأمن والاستقرار.

 

المحور الرابع، تحقيق الغايات:

الوعي بسنن الله في الاجتماع يخلق لدى المجتمع استشعار الأزمات الداخلية والخارجية، وهذا الشعور الاستباقي يقود المجتمع إلى التخطيط ومواجهة الأزمة بالوسيلة المناسبة، قال تعالى: "وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين".. وهذا يعني أن صراع المجتمعات سنة الله في الاجتماع البشري، غير أن الثقافة السننية لدى المجتمع تفتح آفاقا سننية تحقق الأمن الحضاري الشامل للمجتمع، ومن ضمانات الأمن الحضاري: سنة امتلاك المجتمع لقراره، لكن وصول المجتمع إلى امتلاك القرار يمر بعدد من الضمانات السننية - كرامة الإنسان وقدسية حقوق الفرد والمجموع، وقيام سنة مؤسسة الشورى والتي بدورها تقود إلى تحقيق غاية أعظم هي سنة هيبة الأمة، وهذه الغاية تثمر غاية أعظم هي سنة حضور "شخصية الأمة" تصبح شخصية الأمة محل هيبة لدى السلطات، وهذه السنة تثمر سنة وغاية أعظم هي "معيارية الأمة"، أي تصبح الأمة محل تأسٍّ واقتداء في نظر الأمم الأخرى، ولكن تحقيق هذه السنن الغائية لا يحمي الأمة من كيد الأمم أو منافستها أو استلابها أو المساس باستقلاليتها.

باختصار، المجتمع الواعي بسنن الله في الاجتماع يسعى وفق خطط متدرجة وأولويات في بناء المجتمع بدءا من الاقتصاد، والحرب على فوضى الاستهلاك والتكديس في الأثاث واللباس وغيره - نموذج اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، فقد كان الشعبان على وعي تام بمآلات سنة الصبر على التقشف فتحمل الشعبان معاناة غير عادية وفي زمن قياسي نهضت الدولتان.

وقبل ذلك نموذج دولة الإسلام الفتية الناشئة في المدينة، حيث نجد الرسول صلى الله عليه وسلم قد قام بتربية الصحابة منذ اللحظات الأولى على وضوح الأهداف واستشعار المهددات والأزمات المستقبلية، وأوجد شبكة المعلومات وشبكة تعلم اللغات وكاتب الملوك لمعرفة مواقفهم... إلخ.

ومن خلال ما سبق من الوعي بالسنن استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم تحقيق الكثير من المفاجآت وأي مفاجآت، إنها مفاجآت تعطينا دلالات منها: الإحساس بالأزمة، والاكتشاف المبكر لأبعاد حجم التكتل القبلي، والتوجه لإدارة الأزمة بصورة مفاجئة الدالة على الجاهزية والفاعلية والانضباط والثبات لا يعرف التردد - مجتمع مختلف ومواقف غير متوقعة في أرض الحجاز والجزيرة العربية، فما إن اكتشف الرسول صلى الله عليه وسلم مؤامرة القبائل بقيادة قريش - غزوة الخندق، فانطلق إلى حفر الخندق بطول 5 كيلومترات وعمق 6 أمتار وعرض 6 أمتار وفي زمن قياسي، فكانت المفاجأة الصادمة للقبائل المتحزبة ضد دولة الإسلام الناشئة.

ورغم أن فترة الحصار طالت لكنها اصطدمت بصخرة فولاذية - الاعتزاز بالعقيدة والقيم والأنفة والإباء كما سجلتها السيرة العطرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ساوم أقوى قبيلتين - أسد وغطفان على ثلث تمر المدينة، غير أن الهدف الحقيقي الذي قصده الرسول صلى الله عليه وسلم هو الوقوف على الروح المعنوية لدى الأنصار، كونهم أكثر المتضررين تحت كلاكل الحصار.. نعم اتجه الرسول صلى الله عليه وسلم لمشاورة أهل الشأن - السعدان رضي الله عنهما، فوجد معنوياتهما عالية تنضح عزة وإباء وأنفة، حيث نطقا بحرف واحد قائلان: "لا والله يا رسول الله، أبعد ما أعزنا الله بالإسلام"... إلخ. هنا حضرت سنة التأييد الإلهي: "ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال".

وفي ذات الموقف نجد الرسول يعلم الصحابة ألا يسكروا بالنصر، وإنما علمنا القراءة السننية ببصيرة لكافة أبعاد سنن الواقع ليبني عليها معطيات خريطة المستقبل قراءة غير عاطفية، بعيدة عن المعجزات فخرج بقرار مرتكز على السنن قائلا: لن تغزونا قريش بعد اليوم ولكننا سنغزوهم.

نعم، وانطلق التخطيط نحو أول غزوات الرسول هي الحديبية، إنه قرار التقاط الفرصة ولكنه تميز بالمرونة التي يتوخى منها تحقيق أهداف دعوية، فكان الصلح الذي سماه الله فتحا مبينا.

وهكذا كل غاية تفتح طريقا إلى غاية جديدة، فالغاية من المواقف السابقة واللاحقة هي تحقيق أمن المدينة بكل أبعاده الحضارية - اجتماعي، سياسي، اقتصادي، هوية، استقلال.

ولا شك أن الوصول إلى هذا الهدف كان ثمرة لجهود مختلفة في البناء، انطلاقا من سنة الاجتماع: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني".. إنها بصيرة الالتزام بسنن الله - أولويات، تدرج، سياقات الواقع، موازنات، أساليب سننية تؤهل الأمة لاستحقاق سنن التأييد - العون الرباني: "والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم".. وعليه فلا غرابة إذا وصل ذلكم الرعيل إلى الشهودية الحضارية "شهداء على الناس"، فانطلقت المجتمعات تستقبلهم للتأسى، كونهم يتميزون بقيم إنسانية وحضارية عالية تخدم مصالح الإنسانية، وتحفظ كرامتها، وحريتها، وحقوقها... إلخ.

باختصار، قرر فلاسفة الاجتماع الغربيون أن أي حضارة تعتني بالجانب الاستهلاكي لدى الإنسان على حساب القيم فليست حضارة، لأنها تدمر الإنسان.

كلمات دالّة

#اليمن