الجمعة 19-04-2024 10:01:57 ص : 10 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

قراءة في نظرية الإمامة كما ابتدعها يحيى بن الحسين الرسي (الحلقة الأولى)

الأحد 29 يناير-كانون الثاني 2023 الساعة 05 مساءً / الإصلاح نت-خاص | توفيق السامعي

في أكبر لغمٍ عرفته البشرية منذ خلقها الله، ما زال انفجاره يدوي في اليمن قرناً بعد قرن، ويحصد ملايين اليمنيين قتلاً، ويشرد الملايين غيرهم، ويهلك الحرث النسل، أكبر من أية قنبلة نووية، هو لغم الإمامة التي أسسها يحيى بن الحسين الرسي، وزارع الإمامة في اليمن سنة 284هـ، ما زال ارتدادها يدمر اليمن قروناً متتالية لم تعرف دماره البشرية كلها.

في قراءة لأبعاد هذه النظرية، نضع القارئ الكريم على أصولها، وتأثيراتها، ومفاهيمها، وسلوكيات المؤمنين بها القائمين عليها..

 

أولاً: النظرية
تقول نظرية الإمامة التي ابتدعها الرسي: "فإذا أقام [المؤمن بإمامة الحسن والحسين] معرفة ولايتهما، وقام بتفضيلهما وإمامتهما، وجب عليه أن يعرف أولي الأمر من ذريتهما، الذين أُمِر الخلق بطاعتهم؛ فيعلم أن الأمر والنهي والحكمة والإمامة من بعدهما في ذريتهما دون غيرهما؛ لا تجوز إلا فيهم، ولا تُرد إلا إليهم، وأن الإمام من بعدهما من ذريتهما من سار بسيرتهما وكان مثلهما، واحتذى بحذوهما، فكان ورعاً تقياً، صحيحاً نقياً، وفي أمر الله سبحانه جاهداً، وفي حطام الدنيا زاهداً، وكان فَهِماً بما يحتاج إليه، عالماً بتفسير ما يرد عليه، شجاعاً كَمِيّاً، بذولاً سخياً، رؤوفاً بالرعية رحيما، متعطِّفاً متحنناً حليماً، مساوياً (مواسياً) لهم بنفسه، مشركاً لهم في أمره، غير مستأثر عليهم، ولا حاكمٍ بغير حكم الله فيهم، قائماً شاهراً لسيفه، داعياً إلى ربه، رافعاً لرايته، مجتهداً في دعوته، مفرقاً للدعاة في البلاد، غير مقصر في تأليف العباد، مخيفاً للظالمين، ومؤمناً للمؤمنين، لا يؤمِّن الفاسقين، ولا يأمنونه، بل يطلبهم ويطلبونه، قد باينهم وباينوه، وناصبهم وناصبوه، فهم له خائفون، وعلى إهلاكه جاهدون، يبغيهم الغوائل، ويدعو إلى جهادهم القبائل، متشرداً عنهم، خائفاً منهم، لا يردعه من أمر الله رادع، ولا تهوله الأخواف، ولا يمنعه عن الاجتهاد إليهم كثرة الإرجاف، شَمِّرِي مشمِّر، مجتهد غير مقصر. فمن كان كذلك من ذرية السبطين؛ الحسن والحسين، فهو الإمام المفترض طاعته، الواجبة على الأمة نصرته.


فتجب طاعته على الأمة، والمهاجرة إليه، والمصابرة معه ولديه، فمن فعل ذلك من الأمة (معه) من بعد أن (قد) أبان لهم صاحبهم نفسه، وقصد ربه، وشهر سيفه، وكشف بالمباينة للظالمين رأسه، فقد أدى إلى الله فرضه. ومن قصر عن ذلك، ولم ينصب نفسه لله، ويشهر سيفه له، ويباين الظالمين ويباينوه، ويبين أمره، ويرفع رايته، ليكمل الحجة لربه على جميع بريته، بما يظهر لهم من حسن سيرته، وظاهر ما يبدو لهم من سريرته. ومن قصر في ذلك، كانت الحجة لله عليه قائمة ساطعة منيرة بينة قاطعة {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}( ). (الأنفال: (42). كتاب الأحكام: صـ29، 30)


القراءة
البداية من جملة وحكم (الذين أمر الخلق بطاعتهما) في هذا الحكم يذهب الرسي إلى تكريس العبودية للإمام على اعتبار الاتباع أمراً إلهياً قطعياً لا يجوز معارضته، بل على التابع المؤمن بهم أن يبيع نفسه وأهله وكل ما يملك للإمام يأمره بما شاء وعليه واجب التنفيذ، وأن كل مخالفة له هي عصيان لله وأمره، وإذا كان الأمر كذلك وجب عند ذلك قتله وإهدار دمه، وهذا ما سار عليه الإماميون طيلة عصورهم وحكمهم.
وهذا يفسره ويدعمه حشد أئمتهم للنصوص المزورة وتأويلات القرآن المحرفة إلى غير موضعها وأحكامها.

وهنا سنجد الرسي يبين ما يجب على التابع فعله، كما في نصوص أخرى متتابعة بعد هذه النظرية ترجمها في رسائله إلى قبائل صعدة لمناصرته، فيقول: "فمن كان كذلك من ذرية الحسن والحسين، فهو إمام جميع المسلمين، لا يسعهم عصيانه، ولا يحل لهم خذلانه، بل تجب عليهم طاعته وموالاته، ويعذب الله من خذله، ويثيب من نصره، ولم يعذر أي متخلف عن نصرته ووجوب اتباعه وتقديم نفسه في سبيله، فقال: "فإذا كان كذلك، ودعاهم إلى نفسه، والقيام لله بحقه، وجبت على الأمة طاعته، وحرمت عليهم معصيته، ووجبت عليهم الهجرة إليه، والمجاهدة بأموالهم معه وبين يديه، وكانت طاعته والهجرة إليه، والتجريد في أمره، وبذل الأموال والأنفس، والمبادرة إلى صحابته، والكينونة تحت كنفه، فرضاً من الله على الخلق، لا يسعهم التخلف عنه ساعة، ولا التفريط في أمره فينة، إلا بعذر قاطع مبين عند الله سبحانه، من مرض أو عرج أو عمى، أو فقر مدقع عن اللحوق به مانع...إلخ"( ) (مجموع رسائل الإمام الهادي: صـ509).


بل إنه اعتبر المتخلفين عن نصرة الإمام فجرة غادرين وجب قتلهم واستحلال دمائهم وأموالهم وتهجيرهم وتشريدهم، ويقول: "ثم من سلم من ذلك (يقصد الأعذار البينة التي ذكرها آنفاَ)، ولم يكن في شيء من أحواله كذلك، ثم تخلف عنه من بعد أن تبلغه دعوته، وتنتهي إليه رسالته، أو يقع إليه خبره، فهو غادر في دين الله فاجر، ولرسوله معاند، وعن الصراط المستقيم عائد، مشاق لله محارب، إلى النار عادل، وعن الجنة مجانب، فقد باء من الله باللعنة، وجاهره بالمعصية، ووجب على الإمام إن حاربه حربه وإهلاكه وقتله، وإن لم يحاربه وتخلف عن نصرته وجب عليه إبعاده وإقصاؤه، وإبطال شهادته، وإزاحة عدالته، وطرح اسمه من مقسم الفيء، ووجب على المسلمين منابذته في العداوة والاستخفاف به، والاستهانة بكل أمره، لا يسعهم غيره، ولا يجوز لهم فيه سواه"( )( مجموع رسائل الإمام الهادي: صـ110).


وبهذا الأمر يكون الإمام قد وضع نفسه وأنزلها منزل النبي المرسل من السماء، يحق له كل ما كان للنبي، وحق له حينئذ استباحة الدماء والأموال والسبي والتهجير والتدمير، وهذا ما ترجمه عملياً في كل غزواته ومجازره في صعدة وعمران وصنعاء ونجران، من قتل وصلب، وتسميم آبار الشرب، وتدمير البيوت والقرى، وحرق المزارع وقطع النخل وعرائش الأعناب، وغيرها من جرائم الإبادة ضد الإنسانية، وما فعله من بعده الأئمة الذين جاؤوا بعده!

ثم يأتي الحكم الثاني والصفة التالية من نظريته وقوله "إن الأمر والنهي والحكمة والإمامة من بعدهما في ذريتهما دون غيرهما؛ لا تجوز إلا فيهم"!
لقد سد الرسي كل الطرق عن كل المسلمين في الولاية حتى وإن كانوا مستحقيها، وإذا كان السنة قد قالوا إن الخلافة في قريش، فقد ضيق الرسي هذا الأمر كل التضييق وقطعه عن بقية المسلمين وجعله فقط في ذرية الحسن والحسين؛ أي صفر في المائة من قريش، وهذا معناه أن كل مخالف لهذا الأمر خارج معاند مستباح الدم والعرض والمال كحقوق كلية حرمها الإسلام واستباحها الأئمة.


فالمخالف في رأي الرسي والأئمة من بعده كل من لم يؤمن بالإمام، وعليه فهو "غادر في دين الله فاجر، ولرسوله معاند، وعن الصراط المستقيم عائد، مشاق لله محارب، إلى النار عادل، وعن الجنة مجانب، فقد باء من الله باللعنة، وجاهره بالمعصية، ووجب على الإمام إن حاربه حربه وإهلاكه وقتله، وإن لم يحاربه وتخلف عن نصرته وجب عليه إبعاده وإقصاؤه، وإبطال شهادته، وإزاحة عدالته، وطرح اسمه من مقسم الفيء، ووجب على المسلمين منابذته في العداوة والاستخفاف به، والاستهانة بكل أمره، لا يسعهم غيره، ولا يجوز لهم فيه سواه" كما جاء عند الرسي.


طبق الرسي هذا الأمر في مجازر بني الحارث في نجران، فنكل بهم أيما تنكيل لأنهم لم يؤمنوا به فقط، فصلبهم على النخل حتى جيفت أجسادهم ونتنت بلادهم من هذه الجيفة، وأحرق زروعهم وقطع نخلهم ودمر دورهم، وشرد أسرهم وذراريهم، وسمم آبارهم إمعاناً في التنكيل، واعتبار ذلك قربى إلى الله بهم، وهو ما يفعله الأئمة في كل زمان ومكان، وما يقوم به الحوثيون اليوم على ذات النهج وذات الطريق.

وكان الرسي إذا قتل بيده قتيلاً قال: "اللهم لحربهم لك حاربناهم ولردهم لكتابك قاتلناهم، ومن بعد الدعوة إلى الحق نابذناهم، اللهم فاحكم بيننا وبينهم بالحق وأنت خير الحاكمين"( )(سيرة الهادي الرسي ص400).


قبل هذا التنكيل يبتكر الأئمة أسلوب التشويه والتكفير والتفسيق لإيجاد السبب والدافع لقتال معارضيهم وبناء حجة للأتباع للقتال باندفاعة واستماتة حتى لا يرحموا أو يتراجعوا، واعتبار قتالهم قرباناً إلى الله يثابون عليهم.


فقال الرسي مثلاً في ذلك يشوه بني العباس للتحريض عليهم والخروج من موالاتهم إلى موالاة الإمامة " لا يرحمون العباد، ولا يصلحون البلاد، رافضون معطلون بالنكاح، معتكفون بالسلاح، المكر بينهم ظاهر، وأفعال قوم لوط أفعالهم، وأعمالهم في ذلك أعمالهم، يتخذون الرجال ويأتونهم من دون النساء، ويظهرون الفجور علانية..إن عاهدوا نقضوا، وإن أمنوا غدروا، وإن قالوا كذبوا، وإن أقسموا حنثوا. قد قتلوا الأرامل والولدان، وحرموهم ما جعل الله لهم.. في الفسق منغمسون، وعن الحق مجنبون. لم ينالوا ما نالوا من أولياء الله إلا بالغدر، ولم يقدروا عليه إلا بالجبر، وعقدوا مواثيق الله له في أعناقهم، وسط أمان الله وأمان رسوله منهم، فإذا أركن إلى عظيم ما يعطونه، ووثق بجليل إيمانهم قتلوه من بعد ذلك غادرين، ومثلوا به ناكثين..فأي ظلم أو غشم أو إثم أعظم مما فيه من هو يدعي أنه إمام للمسلمين أو أمير للمؤمنين من الذين أماتوا الكتاب والسنن، وأحبوا البدع والفتن، وقتلوا الحق، وأحبوا الفسق..جلسوا في غير مجلسهم، وتعاطوا ما ليس لهم.. ( من كتاب معتزلة اليمن دولة الهادي وفكره – علي محمد زيد – صـ60).

 

ثم يمضي الرسي يحرض عليهم أتباعه، ويمنيهم عليهم بالقول: " ألستم ترون ما قد صار إليه أعداء الله وأعداؤكم من النقص والخذلان والضلال والنقصان، فكل يوم يردنون، وكل شهر ينقصون، وكل عام يفتنون. وقد بلغت بهم واجترأت عليهم ساستهم فصاروا يسومونهم العذاب، يقتلون من شاؤوا منهم ويقيمون من أرادوا منهم. يحيون الأمور لأنفسهم، قد تسلط عليهم شرارهم، وأعوانهم وعبيدهم، فلا مال عندهم، ولا رجال في جوارهم، ولا أمر ولا نهي، ليس في تابعهم، ولا لهم في بلد ينجون فيه أمرهم غير بعض القرى، قد أحل فيهم الأعراب واستباحت ما قدرت عليه من رعيتهم، ينهبون حواشيهم، ويخيفون سبيلهم، ويقطعون طريقهم، ولا يقدرون على نفيهم وإبعادهم، ولا ينالون ما يشتهون من إذلالهم، بل هم الأذلاء الأقلاء الفساق الضعفة، أشد على الرعية والمساكين إذلالا من الأقوياء والمحاربين، يخيفون ويأكلون من تحت أيديهم، ويدارون من نابذهم وسلط عليهم. قد انهدم عزهم وانخرقت مهابتهم، وفتكت بهم كلابهم، وقهرهم أشرارهم، وحكم عبدانهم، وقلت وانتفت من أيديهم الأموال، وتفرقت عساكرهم. قد مال عنهم ملكهم، وانهدم باب عزهم، بغير أساس أمرهم، وأعطت خلافتهم صاغرة قيادها، ورمت إلى من قاد بزمامهم، وألقت إليه سمعها وطاعتها، وذل لطالبها صعبها، ولان لمركبها مركبها، وذل له بعد الصعوبة ظهرها، وبرزت له من بعد شدة حجابها واستقامت له"( )( من كتاب معتزلة اليمن دولة الهادي وفكره – علي محمد زيد – صـ60،61).


أما صفة الإمام مع الرعية والأتباع، كما بينها الرسي، فهي عجب عجاب، متناقضة ومتباعدة بين صفاتهم وأفعالهم كما بين السماء والأرض، يقول الرسي في صفة الإمام: "فكان ورعاً تقياً، صحيحاً نقياً، وفي أمر الله سبحانه جاهداً، وفي حطام الدنيا زاهداً، وكان فَهِماً بما يحتاج إليه، عالماً بتفسير ما يرد عليه، شجاعاً كَمِيّاً، بذولاً سخياً، رؤوفاً بالرعية رحيما، متعطِّفاً متحنناً حليماً، مساوياً (مواسياً) لهم بنفسه.."!...يتبع

كلمات دالّة

#اليمن