الجمعة 29-03-2024 17:15:41 م : 19 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

نحو إعادة بناء ثقافة المجتمع (الحلقة الأخيرة) قيم الخلود.. مبادئ، أسس

الخميس 01 ديسمبر-كانون الأول 2022 الساعة 01 صباحاً / الاصلاح نت - خاص | عبدالعزيز العسالي

 

تنويه:

 

أود التنويه للقارئ العزيز حول اقتصاري على بعض الأسباب في (الحلقة 2) كان خشية الإطالة لا غير، فالتسبيب الأحادي لانهيار الثقافات والحضارات يتنافى مع المنهج العلمي.

 

وعليه، فإنني أعتذر للقارئ كوني سأضيف سببا أراه حاضرا بل مؤثّرا بقوة في فضائنا الثقافي حتى اللحظة في ميدان التزكية التربوية والتهذيب الخلقي النفسي الوجداني، بل لا نبالغ إذا قلنا إنه السبب الأبرز الكامن وراء الشلل الذي أصاب وعينا الثقافي بكساح مزمن.

إنه سبب ناتج عن توظيف خاطئ لمفهوم يستهوي الأفئدة، المتمثل في المفهوم التالي:

خيرية القرون الثلاثة – توظيف مثالي للحجب والتمرير.

1- خيرية القرون مفهوم تزكوي جدير بالتأسي بلا أدنى شك، لكن السياق الثقافي في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري وما بعده قام باستدعاء المثالية التزكوية بقوة، وقدم تفسيرا مقلوبا لسكوت خير القرون تجاه الحكام والأمراء بأنه عين السنة بل هو العقيدة والشريعة والتزكية، حاشدا للأقوال والروايات المؤيّدة لذلك التفسير المقلوب.

2- حقيقة سبب السكوت: من خلال تتبع الواقع الثقافي لعصر الخيرية، وجدنا أن سبب السكوت في الغالب يعود إلى "الثقة بإيمان الحكام"، ذلك أن الحكام كانوا -في الغالب الأعم- هم خطباء في الجمعة والأعياد وأئمة الصلاة، وكان العهد الراشدي قريبا منهم فيتأسوا بهم "ولو ظاهريا". وليس أخيرا، فقد كان الحكام والأمراء وقادة الجيوش على قسط وافر من الفقه والمعرفة.

وهناك أقوال صحابة وتابعين وتابعيهم تشهد بفقه كثير من الحكام تركناها خشية الإطالة.

3- المقصود بالحجب هو الصمت عن حقيقة سبب سكوت فقهاء عصر الخيرية، بل إن الذي حصل هو قلب للحقيقة -كما ذكرنا- مصحوبا باستدعاء أقوى للمثالية، والهدف هو تمرير ثقافة محددة هدفها تحصين الطغيان باسم العقيدة والشريعة والتزكية، وواقعنا صارخ بذلك الموروث.

4- التصوف الفلسفي: دخل القرن الرابع، فانقلب البويهيون الشيعة واستولوا على مفاصل السلطة وحضر معهم التصوف الفلسفي -الوجه الثاني للتشيع- تحت مبرر سياسي اتخذه البويهيون هو حرية الرأي، لكن ذكاء الحقد الفارسي قدم التصوف الفلسفي مغلفا "بالسُنّة" أنها مدارس التزكية السنية، والحقيقة أن التصوف الفلسفي قد ارتضع التشيع الباطني وخرافات الهند والفرس حد المهارة، وقد نجح في استدعاء هدف "الحجب والتمرير" من القرن الثالث وأضاف إليه لوثات تكرس "العرض الأدنى" بغلاف خداع اسمه التزكية.

لا شك أن هناك بعض فقهاء التزكية كانوا صادقين بعيدين عن الحجب والتمرير والتصوف المتشيع، لكن المشكلة أن أرضية التزكية واحدة، وبمرور القرون تحولت قفلا صدئاً حاصر العقل والفكر إلى حد القول إن النص مظلة إفهام والحل في التقليد.

الخلاصة، المسار الثقافي تنكّب طريق "قيم الخلود" وابتعد عنها شيئا فشيئا طيلة 1200 عام، وها نحن فتحنا عيوننا على جنادل سدت الطريق، الأمر الذي يعني أن الحل هو العودة إلى "المنبع الأول" لقيم الخلود المتمثل في منهج مقاصد القرآن والبيان النبوي العملي.

وبما أن نقدنا الثقافي استند إلى الآية 169 من سورة الأعراف، مستلهما "دلالة العرَض الأدنى"، فإننا قد استندنا أيضا إلى الآية 170 من سورة الأعراف، استثمارا للعلاقة السياقية بين النصين المتضمنة "الداء" و"الدواء"، وهي عادة القرآن في البناء التربوي والتكوين الثقافي، قال تعالى: "والذين يُمسّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنّا لا نضيع أجر المصلحين".. السياق واضح.

1- انتهى النص 169 موبخا العقليات المتوحلة في استمراء العرض الأدنى، يحدوهم إلى معالي الأمور قائلا: "ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألّا يقولوا على الله إلّا الحق ودرسوا ما فيه والدّار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون".

2- التساؤل حول العقل تكرر في القرآن لافتا النظر إلى مكانة العقل الفطري القيمي الخُلُقي الدال على أعظم مظاهر التكريم أولا، واهتداء العقل إلى فهم مقاصد الدين الهادفة إلى الصلاح الإنساني ثانيا.

3- انتهى النص الثاني بتقرير إلهي، موجها إلى معالي الأمور - المغالبة للسنن وصولا إلى الإصلاح، بل وأن الله يبارك ويؤيّد "عمل المصلحين".. قال تعالى: "إنّا لا نضيع أجر المصلحين"، الأمر الذي يعني أن الشريعة جاءت لمصلحة الإنسان وكل ما يخدم مصلحة الإنسان وفق المنهج الرباني الذي قرر بوضوح أن غاية الرسالة هي: "رحمة للعالمين".. عموم العالمين.

4- الرحمة غاية، والمصلحة غاية، والعقل المهتدي بالنص حمايته غاية، لأن العقل يهدي إلى الوسائل الخادمة لتحقيق الرحمة والمصلحة وآليات حماية الغايات: منهج قررته مقاصد القرآن ومعارف الوحي، والبيان النبوي العملي: "ويعلمهم الكتاب والحكمة".

5- بما أن واقعنا الثقافي معقد أولا، وبما أن لكل مجتمع خصوصياته ثانيا، فإن إعادة البناء الثقافي مرهون ضرورة بوجود شبكة من المبادئ والأسس الهادفة إلى خلق حراك مجتمعي جاد يتطلع إلى أفق إعادة البناء الثقافي. ولكي نضمن قوة الفاعلية يجب أن ينطلق برنامج إعادة البناء الثقافي من داخل خصوصياتنا الثقافية، فإلى شبكة المبادئ والأسس:

أولا، محركات الإصلاح الثقافي:

يقول فلاسفة الاجتماع إن الإصلاح الجاد يبدأ من طرح السؤال الجاد، العميق، الجريء:

1- هل نحن متخلفون؟ الجدير ذكره أننا قد اعترفنا بأننا متخلفون.

2- ما سبب تخلفنا؟ الإجابة على هذا السؤال اكتنفتها مغالطة للذات، حيث قدمنا إجابة تقول: كل شيء طيب، فقط ينقصنا:

- الإيمان الصادق.

- إخلاص التوبة.

- صواب التوبة.

3- منشأ المغالطة:

- الجواب حدد صوابية التوبة في اتباع الدليل وهذه الإجابة صحيحة، وخطأ ذلك أن التوبة الموافقة للدليل لا خلاف عليها، إذن، فما هو الخطأ؟ أين المغالطة؟

نقول إن الخطأ والمغالطة يتمثل في إغفال أنواع التوبة الأخرى ومن أبرزها: غياب الحديث عن أمر الله بالتوبة المتمثلة في التزام التعاطي مع القيم والسنن - الأسس الحاضنة للحرية والبناء والسلام والاستقرار والتنمية، فغياب هذا النوع من التوبة وخيم العواقب اجتماعيا، فلا يغني عنه الإيمان ولا ينوب عن الإخلاص وإن بلغا عنان السماء.

4- هل يدرك الوعاظ هذا النوع من التوبة وأشباهه؟

5- هل أدركوا مقاصد التوبة في هذا المجال؟ بل أدركوا فاعلية هذه التوبة في البناء الثقافي وقيام المجتمع القوي؟ وهل وعوا دور السنن في بناء شبكة العلاقات الاجتماعية؟ بل هل يدركون خطورة تدمير شبكة العلاقات الاجتماعية وعواقبها؟

6- هل يدرك الوعاظ سرعة عقوبة مخالفة السنن في الدنيا قبل الآخرة؟*

الدليل على ما أقول "غياب فقه مقاصد الشورى وفلسفتها" نموذجا.

تمت إزاحتها من مكانتها العتيدة - التأسيس للاجتماع، ليتم إلباسها حكما لا وجود له بين التكاليف الشرعية، فقالوا الشورى إمّا مُعْلِمة أو مُلزِمة.. يا إلهي، لا هي واجب ولا سنة مؤكدة، ولا مندوب.

المحصلة النهائية، لا تجريم على من خالف الشورى، وصادر رأي الأمة وزوّر إرادتها واستبد وظلم وأفسد في الأرض وأهلك الحرث والنسل.

7- توبة الالتزام بالسنن قررها القرآن مرتين حرفيا في سياق حديثه عن السنن الحاكمة للاجتماع، كما تكررت أوامر القرآن بالتعاطي مع السنن بطرق مختلفة.

8- القرآن وصل السنن بركني الإيمان بالله واليوم الآخر.

9- القرآن "كيّف" حالة أولئك الذين يفصلون السنن عن الإيمان بالله واليوم الآخر بأنهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل وأنهم مفسدون، ورتب عقوبتهم باللعنة وسوء الدار، قال تعالى: "والذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار" (الرعد: 25).

10- الدليل الصريح في القرآن على الالتزام بتوبة الأخذ بالسنن الحاكمة للاجتماع، قال تعالى: "يريد ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم • والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما" (النساء: 26-27).**

الخلاصة، يجب تحديد السبب وراء تخلفنا أيا كان في ضوء مقاصد القرآن وتقديم العلاج المناسب وغير ذلك فلن نخرج من دائرة مغالطة الذات، ذلكم هو المبدأ الأول.

ثانيا، إعادة ضبط المفاهيم - ضرورة شرعية:

1- مفهوم التزكية: ضبط مفهوم التزكية أنها تنمية الخلق، وأن معيار صحتها أثرها في تنمية "القيام بالقسط والرحمة والتعارف والتعاون والأخوة والتكافل وحب النظام والإحسان والتواضع والوسطية".

2- أن التأسي بخيرية القرون يجب أن يستند على العقل المهتدي بمقاصد القرآن الآمر أن نكون من المصلحين الآخرين بمعالي الأمور، سيما في ميدان متغيرات مصالحنا الدنيوية.

3- نشر الوعي بالقرآن بالوسائل والأعراف المتجددة في خدمة وحماية الحريات ومصالح الاجتماع.

4- أن الحق لا يتناقض: وهذا يتطلب ترسيخ مفهوم كليات ومقاصد القرآن وتقديمها على غيرها، موضحين للمجتمع بالتدريج المنهج المقاصدي الأصولي.

5- ميلاد الفقيه الفيلسوف: المقصود بميلاد الفقيه الفيلسوف:

- الفقيه الذي بُني عقله في ضوء مقاصد القرآن والتأسي بوظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي "تعليم الكتاب والحكمة".

- غرس مفهوم خيرية القرون أنه يتمثل في الفقيه المعترف، المتجدد، يعترف للسلف بجهودهم، لكنه واعٍ متجدد فيما يتصل بالوسائل الخادمة للمستجدات الحامية لمقاصد الدين في مصالح الاجتماع.

6- أن التأسي بخيرية القرون هو اليقظة العالية وأن الإسلام يأبى تحويل المسلم إلى كائن ديني.

7- ربط القيم والسنن بركني الإيمان بالله واليوم الآخر: وهذا يتطلب تكثيف الحديث من أدلة القرآن والسنة وما أكثرها وتوضيح خطورة الفصل بين القيم والإيمان، والتأكيد المستمر على أن الأخذ بالسنن لا ينفصل عن الإيمان وأن السنن هي أمر الله ومراده وقضاؤه الكوني.

8- خلق جو ثقافي سنني وصولا إلى غرس رغبة وتطلع مجتمعي نحو الإصلاح.

9- تحويل القيم والسنن إلى آليات، تتمثل أولا في بناء كتلة "أولو بقية" تستند إلى قواسم مشتركة.

10- السعي إلى إشراك المجتمع في بناء الثقافة السننية الناقدة في وعي الناشئة وعدم الركون إلى التعليم العام، ذلك أن علماء الاجتماع اتفقوا أن المجتمع هو الأقدر على بناء الثقافة السننية الناقدة لدى الناشئة وتحويل القيم والسنن كثقافة شعبية عامة - الكرامة، الحرية، المساواة، وسائر الحقوق والعلاقة بين القيم وأثرها في قيام المجتمع، وأن التعليم العام ينحصر دوره في بناء العقل العلمي.

11- توعية المجتمع أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المشرع العملي لقيم التأسيس الحاضنة لشبكة العلاقات الاجتماعية والمنتجة لأدوات الحضارة.

12- إشاعة الوعي لدى المهتمين أن الدور المطلوب هو "ملء" منطقة الفراغ المنهجي في حياتنا الفكرية والثقافية.

13- التوضيح المستمر أن المنهج المقاصدي متصل بالدين والقيم الكونية والقيم الخلقية والسنن الكونية، والمستند إلى البيان النبوي العملي المتمثل في السنة النبوية.

تلك هي أهم وأبرز المبادئ والأسس.

الخلاصة، وشوشة البردوني فيما يتصل بمحركات التغيير – الرغبة وبناء القدرة وزراعة الجرأة والأسس الحاضنة.. قال البردوني رحمة الله عليه:

 أن ترتوي تعطشي

وفيك عنك فتشي

عن ذات الأسمى وعن

كل شذىً بكِ يُشي

وعن كتاب قبل أن

تؤلفيه وشوشي

وجوّدي نسيجه

من قبل أن تزكشي

(مقتطف من قصيدته "مرآة السوافي").

إنه يريد خلق جو ثقافي مشحون بكل ما سبق وغيره من القضايا ذات الصلة.

ويتفق معه الفضول رحمه الله: وزرعنا في ثراها عزها

نلتقي بعونه سبحانه

.......................

• في حدود علمي لم أقف على كلام مقاصدي تناول هذا النوع من التوبة وعلاقة السنن... إلخ.

**السؤال المرعب: أين موقع أصحاب الجمود والتقليد الأعمى؟ هل هم في إطار الذين يتبعون الشهوات؟ هل جهلهم بالسنن سيشفع لهم؟ هل لغة الاستعلاء والاتهام بالعلمنة والتغريب ستمنحهم صكوك الدرجات العليا؟

 

كلمات دالّة

#اليمن