الخميس 02-05-2024 12:06:21 م : 23 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

أدب الثورة.. حقائق الانتماء وبرهان الولاء (الحلقة 1-2) ألحان ثائرة

الثلاثاء 27 سبتمبر-أيلول 2022 الساعة 07 مساءً / الإصلاح نت-خاص | عبد العزيز العسالي

 


لماذا أدب الثورة؟
- يتميز أدب الثورات، سيما القصائد المغناة (الأغاني الوطنية، والنشيد الثوري، والهزج، والشيلات، والزامل)، يتميز بخصائص نفسية ووجدانية، ذلك أن أدب الثورات متصل بقيمة فطرية هي حب الوطن، فهذه القيمة تساعد بقوة على انسياب أدب الثورة إلى الوجدان دون ممانعة.

ومع تكرار وتنوع المفاهيم الأدبية المصحوبة بالإيقاعات الموسيقية المتنوعة، وحسب علم النفس الاجتماعي، يعمل اللاوعي على اختزال تلك المفاهيم التاريخية على هيئة رموز ثقافية، وبمجرد حصول إثارة شرطية أمام اللاوعي هنا تنطلق ردود أفعال لا واعية، دفاعا عن تلك الرموز الثقافية المترسخة في مسارب وجدان الفرد والمجتمع.

وعليه، ونظرا لقوة هذا التأثير، يؤكد علماء النفس الاجتماعي وعلماء الاجتماع على أهمية غرس وتكرار أدب الثورات حتى يتحول إلى جزء من المسلمات الثقافية لدى الفرد والمجتمع.

أبرز عوامل الزخم الأدبي:

لا شك أن جيل الرّوّاد (أبطال منتصف الليل) الذين انطلقوا صوب صناعة الوعي الثوري منذ عام 1938، حيث تكللت جهودهم بفتح نافذة الضوء صبيحة الـ26 من سبتمبر المجيد 1962، ذلكم الجيل كان قد أنضجته المحن طيلة 24 عاما، فقد وعى عمق متلازمة السلالية الكهنوتية - جهل، فقر، مرض، ذلك الوعي انعكس تصويرا لعمق المتلازمة اللعين في أدب الثورة.

سنكتفي هنا بالصورة التي التقطها خيال الشاعر د. عبد العزيز المقالح قائلا:
سنظل نحفر في الجدار
إمّا فتحنا نافذة للضوء او متنا داخل الجدار.*

تنويه:
أشرنا أعلاه إلى عنوان هذه الحلقة بـ"ألحان ثائرة"، ومع ذلك فإننا نستدرك، معتذرين للقراء الأعزاء، أن القصائد المغناة تحتاج إلى مجلد كبير، نظرا لعمق المعاني وكثافة العبارة وقوة الحركة الجمالية من خلال دقة التصوير الشعري والدلالة والإشارة... إلخ.

ولكننا حاولنا قدر الإمكان إثارة انتباه القراء لكي يعودوا إلى تلك الألحان الثائرة ليتذوقوها بطريقتهم.. ما يلفت النظر حقا هو أن لغة جيل الرواد كادت تكون موحدة لفظا أو معنى.

وقد قمنا بتوزيع مضامين بعض أبيات من تلكم الألحان الثائرة في المحاور التالية:

المحور الأول: الظلام وفتح نافذة الضوء:

أولا، الفضول:

1- كم شهيد من ثرى قبر يطل
ليرى ما قد سقى بالدم غرسه

إلى قوله:
ويرى الهامات منا كيف تعلوا
في ضحى اليوم الذي طلع شمسه

تصوير أدبي اكتنزت دلالته تاريخا مظلما، ثم رسم الشاعر صورة مستخدما أرقى صور البلاغة (الاستعارة) أن طلوع الشمس صبيحة الـ26 من سبتمبر كان بفضل تضحيات الشهداء.

2- استعارة إطلالة الشهيد من قبره صورت حالة الشهيد في فرحة وسعادة غامرة حين شاهد هامات الشعب اليمني عالية بعد عقود من الكبت والقمع والإرهاب ترويضا للنفوس وإخضاعها.

3- الشاعر نفسه، رحمه الله، أشار إلى أساليب الترويض التي مارستها السلالية في تساؤل ينطوي على الاستغراب: كيف خضع الشعب اليمني البطل وارتضى العيش في حنادس ظلام التخلف قائلا:
يا رحاب المجد ما روضنا
فيك أو مسكننا دون عناءِ
هاك منا قسما يا أرضنا
خالدا في شدة أو في رخاءِ
لن يلاقي البغي إلا رفضنا
رفض جبار شريف الكبرياءِ

عجيب أمرك يا رحاب المجد والشجاعة والإباء عبر آلاف القرون، ما الذي جعلك تخضعين؟

الحقيقة أن الشاعر الفضول، رحمه الله، وفي حدود علمي قدم اعتذارا غير مسبوق للشعب اليمني البطل بأن ما حصل من الترويض والمسكنة كان "بغيًا" إجراميا مارسته عصابة السلالة الكهنوتية.

إننا ولأول مرة نجد ثقافة متقدمة، بلغت الذروة في النضج لدى شاعرنا حيث وصف طغيان الحكام المتسلطين بأنه بغي على الشعب، كيف لا، والقرآن يقرر أن البغاة هم من يظلمون الناس بغير الحق، غير أن الثقافة القرآنية كانت قد دفنت تحت ركام الموروث الذي مسخ المفاهيم.

4- إن رجفنا الساح من غاراتنا
أو عكفنا في المحاريب سجودا
لن يغيب الفجر من آفاقنا
فيه لن نرجع لليل عبيدا

التشبع بالوعي التاريخي لمرحلة ما قبل الـ26 من سبتمبر ظل هاجسا حاضرا في الأذهان بصورة مقرفة، فها هي عدسة شاعرنا الفضول تلتقط تلك الصورة المزرية معلنا التحدي بأن الشعب اليمني وعى حقيقة الدين والتدين كما وعى آليات الحيلولة في وجه الظلم، فلا فرق بين عكوفنا في المساجد أو الخروج إلى الساحات، فالنتيجة واحدة، هي:
لن يغيب الفجر من آفاقنا
هيهات هيهات أن يستقبلنا الليل البهيم

استعار مصطلح الليل دلالة على شدة التخلف والضياع الذي لحق بالشعب اليمني.

ثانيا، عثمان أبو ماهر:

حسب د. المقالح، أن الشاعر عثمان أبو ماهر، رحمه الله، هو الشاعر الوحيد الذي جمع بين القلم والبندقية.

اقتطفنا ما يشير إلى العلاقة بين انبلاج الفجر الحقيقي صبيحة الـ26 من سبتمبر وبين الفجر المجازي للثورة والذي أقبل بعبقه العاطر كالزهر الذي تتفتح أكمامه عند الفجر، فكلا الفجرين عابقين منعشين قائلا:
يا نسيما عابقا كالزهَرِ
طيب الأنفاس عند السحر
يا جلال الحق صوت القدرِ
يا وثوب الشعب في سبتمبرِ
اسقني عدلا وغذي عمري

العدل والضوء متلازمان كما أن الظلم والاستبداد والظلام متلازمون، كيف لا والقرآن يقرر قائلا: "أو من كان ميتا فأحييناه كمن مثله في الظلمات"... إلخ.

محور الولاء للشعب:

الفضول رحمه الله:
1- الهتافات لمن بين الجموعِ
ولمن يقظتنا دون هجوعِ
ولمن وثبتنا دون رجوعِ
ولمن أضلعنا تحت الدروعِ
ولمن أكبادنا تحت الضلوعِ

إنها للشعب وحده.. تضحياتنا لإرساء المبادئ - تحصين الشعب من تغول الفردية لإقامة العدل لحماية كرامة الأمة.

اهتفوا للشعب - إرساء للحرية، للمساواة، إقامة العدل، دوران مع المبادئ، حماية الدستور، فالشرائع السماوية والثورات الأرضية، وإن اختلفت منطلقاتها، فالهدف هو حماية الحريات والمساواة وإقامة العدل.

2- الثبات على المبادئ:
كم سلكنا ومشينا طرقا تفنى بها روح الفناءِ
ورفضنا وأبينا ركعة الهون وضعف الانحناء

جل الشعراء تختلف أساليبهم في وصف طول الطريق، لكن الفضول، رحمه الله، جاء بجملة تكاد تكون خارج اللغة.

الطرق التي مشيناها وسلكناها، الفناء - الموت يفنى فيها، كناية عن قوة الصبر والتفاني والتحمل لأنواع الأخطار، ومع ذلك، فلم تلن لنا قناة، فالرفض هو نحن ونحن الرفض الرافض لركعة هوانٍ واحدة، مستحيل نضعف أو ننحني.. إننا تشربنا معاني الحرية.

3- نحن رفض رافض إن مسنا
ظلم ظلام بعيدا أو قريبا

رفضنا هذا ليس رفض الغوغاء ولا رفض المتبجحين بالرفض لأجل الرفض، وإنما نحن رفض رافض لكننا نعشق الحق جليلا ومهيبا.

وتاريخنا حافل بالرفض القائم على رؤية المبادئ الواضحة والتي سكبنا فيها سيول الدماء عن وعي وقصد..
أربعينياتنا فيها رفضنا
وضحى سبتمبر فيه رفضنا
ومدى السبعين يوما قد رفضنا
وسنمضي رافضين كل من قدجا
لكي يدجي ضحانا

ثم ماذا؟
وسنمضي داحضين كل من قد شاء للناس الهوانا

هذه تخلية رائعة فهل من تحلية؟ نعم، مفاهيمنا هي اقتباس من الذكر الحكيم: "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله".. نعم..
وسنمضي فارضين صدقنا
حتى يُرى الحق مصانا

رفض للظلم، وفرض للحق والصدق، داعمين للحق حتى ينصف الأكواخ من ظلم القلاع.

نحن هنا أمام فلسفة سياسية يحملها أدب رفيع محترس بالمعاني الإنسانية السامية العادلة، فالشاعر يحب الحق والعدل الذي لا يصادر حقوق الملكية، وإنما يرسي دعائم الحق والعدل في رفع مستوى الأكواخ، وليس هدما للقلاع، كما قال أحد الساخرين بالأيديولوجيات الفجة: الكادح كدحوه والغني بطحوه.

ومرة أخرى يقرر شاعرنا هدفنا الثوري بوضوح، قائلا:
4- أرضنا نحن غسلنا وجهها
وكسونا أفقها صبحا مبينا

تصوير جديد للهدف الذي رسمه اليمنيون هو غسل وجه الأرض اليمنية وإزالة تلك الأوساخ والملوثات الحسية والمعنوية التي علقت وشوهت وجه اليمن وطال أمدها، ولشدة تراكم الأوساخ فقد تولد عنها ظلام حجب آفاق الخير والعدل والحرية.

فاهتف معي أيها الشعب اليمني مستعينا ببركات السماء مستمدا الرشد حتى لا تنحرف خطاك:

يا سماوات بلادي باركينا
وهبينا كل رشد ودعينا
نجعل الحق على الأرض مكينا

يجب علينا تمكين الحق فوق وطن الوحدة..
ها هنا نحن وقد وحّدنا
وطنٌ أصبح منا أثْمنا

كيف لا، وها هي تربة وطننا غدت طاهرة من أرجاس الظلم والطغيان، فهي صالحة لأداء الصلوات..
وغدت أصقاعه معبدنا
لم ولن نعبد فيها وثنا

وهيهات لوطننا أن يفكر "نخّاسو الأرض" قابضو المال المدنس.. إننا نبيع يمننا.
أو يرى نخاس أرض أننا
نأخذ الدنيا ونُعطي اليمنا

تلكم هي ومضات سريعة، تمثّل نسبة قليلة جدا إزاء تراكم الدلالات الكثيفة في عشرات القصائد الوطنية المغناة.
نلتقي مع الحلقة 2.. أدب التحدي.

-------------------
* هامش:
سنفرد الحديث حول قصائد التحدي والإصرار في الحلقة الثانية.

كلمات دالّة

#اليمن