الخميس 02-05-2024 23:20:50 م : 23 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

الهجرة النبوية.. قراءة في أدوات الإنتاج الحضاري

الأربعاء 11 أغسطس-آب 2021 الساعة 11 مساءً / الإصلاح نت-خاص-عبد العزيز العسالي

 

 

الحضارات العملاقة التي غيّرت وجه التاريخ الإنساني بلغ عددها 27 حضارة، والغريب أن جميع الحضارات مهاجرة. (الفيلسوف ول ديورانت).

الخليفة الراشد والملهم عمر الفاروق رضي الله عنه، شاور الصحابة وتم الاتفاق أن يبدأ التاريخ الإسلامي من العام الذي حصل فيه حدث الهجرة، فهل كان التحديد اعتباطيا؟ لا، لم يكن اعتباطيا، لأن هنالك أحداث عظمى رافقت دعوة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، مثل يوم حادثة البعثة النبوية (نزول القرآن)، ويوم بدر، ويوم الخندق، ويوم الحديبية، ويوم فتح مكة.

هذه الأحداث وغيرها لم لا تستوقف الفاروق الملهم ولا الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين؟ لاشك ولا ريب أن اتفاق الصحابة على أن يبدأ التاريخ الإسلامي من عام الهجرة استند إلى معطيات فكرية وتربوية وثقافية تبلورت -أولاً- في مبادئ وشروط ومفاهيم حضارية، وترسخت -ثانيا- في وعي الصحابة فكرا ووجدانا وسلوكا طيلة فترة صحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم.

 

أدلة المعطيات

القرآن العظيم والسيرة النبوية زاخران بالأدلة على تلك المعطيات، نقدم للقارئ أبرزها وبصورة إجمالية.

1- القرآن في العهد المكي: بلغ عدد سور القرآن في العهد المكي 84 سورة وقيل 90، تضمنت قصص الأمم السابقة أي السنن الحاكمة للاجتماع البشري نهوضا وسقوطا.

2- أخبار عصور ما قبل الدولة: حددت نصوص القرآن بدقة سنن الصراع في مواجهة دعوات الأنبياء والآمرين بالقسط خلال تلك الأحقاب أن المواجهات الشرسة كانت من قبل "الملأ" والمترفين أي ذوو المصالح العليا سياسيا واقتصاديا وثقافيا، وأن الذين استجابوا للرسل والمصلحين جلهم كانوا من الجمهور. 

 

3- عصر ما بعد الدولة:

- النمرود ملك ومعه الملأ في مواجهة الخليل إبراهيم عليه السلام.

- فرعون وملأه في مواجهة موسى عليه السلام. 

- ملوك بني إسرائيل يقتلون أنبياء بني إسرائيل. 

- إمبراطور الرومان وجيشه المحتل لفلسطين في مواجهة عيسى عليه السلام ومرتزقة بني إسرائيل الذين سعوا إلى قيادة الاحتلال بقتل عيسى. 

4- الأمة مالكة قرارها: قرر القرآن إعادة الحق إلى مكانه الحقيقي فأرسيت أسس الشورى- أم القيم وأسندت إلى مالكها وصاحب المصلحة الوحيد وهي الأمة.. سورة الشورى نزلت بمكة وفي أشد الظروف قسوة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين وذلك في السنتين الـسادسة والسابعة للبعثة النبوية.

5- طلب الحماية: كتب السيرة حافلة بالحركة النبوية بحثا عن وسائل حماية لكرامة أصحابه وحريتهم، وبدون شك أن الصحابة يدركون تماما مقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم، الباحث عن وسائل الحماية وفق السنن الكونية ذات الفاعلية. 

- اشتد عداء "الملأ" قريش فأمر بعض أصحابه بالهجرة إلى الحبشة - جناب ملك لا يظلم عنده أحد.

6- بيعة العقبة الثانية: كان البند المحوري فيها صريحا هو القيام بحماية الدعوة.

7- أدوات الإنتاج الحضاري: نستطيع أن نقرر جازمين أن الهجرة إلى المدينة كانت النواة الأولى التي انبثقت منها أدوات إنتاج الحضارة والمتمثلة في:

 

أ- الرقعة الجغرافية

ب- العناية بالإنسان، كونه محور التكليف الشرعي والاستخلاف وعمارة الأرض، علما بأن بناء الإنسان بعد الهجرة سيكون تطبيقيا 90%، وهذه نقلة كبيرة جدا- مفاهيم، ودستور مكتوب، وموازنات، وتحفز للدفاع، وتطلعات إلى تحقيق أهداف، وسط فضاء يغذ الخُطى نحو بناء دولة التعايش مع يهود مترعة صدورهم بالحقد والحسد ومناففين أكثر حقدا - عبادة للذوات وتقديس الأشخاص، إنها بيئة مختلفة تماما عن العهد المكي، إنها بيئة ابتلاء من نوع مختلف وتحتاج إلى بناء إنسان حتى يمتلك تصورا لمّاحاً يمكنه من مواجهة ذلك الابتلاء بالوسيلة التعبدية المثلى والأكثر فاعلية.

وهذا ما حصل، فقد ترسخت مفاهيم حضارية بفضل القيادة النبوية التي تستهوي الأفئدة في إرساء وترسيخ محركات التغيير من زاوية دينية هدفها إقامة حضارة دنيوية تخدم الإنسان دينا ودنيا.

ج- ترسيخ مفهوم الانتماء: نصت الوثيقة الدستورية أن حماية المدينة واجب على كل من وقع على الوثيقة، ونصت على إعطاء حقوق إلى جانب الواجبات، تحقيقا لإقامة مجتمع الرشد والقيام بالقسط.

وهذه الحقوق والواجبات مرتكزها الانتماء إلى الرقعة الجغرافية انتماء ومواطنة متساوية. 

د- اللسان العربي: هذه الأداة هي اللغة المترجمة للتصور والوجدان والسلوك الحضاري، إنها اللغة التي تحمل دلالات ثقافية ذهنية وسلوك عملي مطعّم بمقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم التطبيق الأمين في وسط جو موّار بالمتناقضات.

هـ- الرسالة الثقافية: المقصود هنا قدسية المبادئ العقدية والمفاهيم الاجتماعية والتطبيقات النبوية العملية، وهكذا ترسخ في عقول ووجدان وسلوك الصحابة أنهم حملة منهاج حضاري يخدم الإنسانية عموما بغض النظر عن معتقداتها، وهذه الأدوات كلها يجمعها مصطلح "دولة" شعارها قدسية المبادئ واحترام كرامة الإنسان بلا تقديس للأشخاص، وكم هي المواقف التي كان الصحابة يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم: "أوَحيٌ يا رسول الله؟".

إن التربية النبوية بنت عقولا لا تعرف شيئا اسمه تقديس الأشخاص ولا التهيّب من قول الحقيقة.

اسمع يا تاريخ للجارية بريرة وهي ترفض وساطة خاتم النبيين في عودتها إلى عصمة زوجها مغيث فتقول: يا رسول الله أشفيع أم آمر؟ فيقول: شفيع. فتقول: لا يارسول الله.

إن تقديس الأشخاص داء وبيل يقتل فاعلية الأمم ويحيلها إلى موت سريري.

 

المدخلات الحضارية 

في السطور القادمة عدد من مدخلات الثقافة الحضارية السننية المتصلة بالمعتقد القادم من مركزية التوحيد ذات الأسس المعصومة والمتداخلة مع قيم البناء والاستخلاف، والتي بمجموعها عززت بناء الإنسان، إنها حزمة شروط انبثق عنها بناء حضاري عملاق ظل يتوهج ألف عام.

وفي ذات الوقت هذه المدخلات الحضارية هي سنن كونية متصلة بالنفس والكون والحياة الاجتماعية، وقد جمعها فيلسوف التاريخ د. عماد الدين خليل حفظه الله ورعاه وذلك في البنود التالية:

1- التوحيد في مواجهة الشرك. 

2- العلم والمعرفة في مو اجهة الأمية والظن والهوى والجهل والخرافة. 

3- الدولة في مواجهة القبيلة. 

4- الأمة في مواجهة العشيرة. 

5- التشريع في مواجهة الآبائية والأعراف المعوجّة.

6- الشورى في مواجهة الفردية والإقصاء للآخر.

7- الإصلاح والإعمار والنظام في مواجهة التخريب والفوضى والإفساد. 

8- الأخوة الإنسانية في مواجهة العنصرية والسلالية والتسيد الإبليسي.**

9- المبدئية في مواجهة الشخصانية. 

10- بناء وتكوين وعي الإنسان الملتزم بالقيم الإنسانية المتجذرة في عمق العقيدة السمحة والمنبثقة عنها في مواجهة الشخص الجاهلي المتفلت والمتعشق للفوضى والتسيب وكراهية النظام.

* ملحوظة

- عبارة د. خليل المتمثلة في قوله "مواجهة"، فليس المقصود بالمواجهة هنا هو الصراع والتغلب، وإنما المقصود هو التوازن بين الانتماءات، فلكل شريحة اجتماعية درجة انتماء لا تضر بالشرائح والمستويات والمبادئ الأخرى، والدليل على ذلك أن بنود دستور المدينة نصت على احترام كل البطون والعشائر وأعرافها وتقاليدها... إلخ، ومن هنا جاءت الفاعلية، كان سر نجاح فاعلية الدعوة وقيام الدولة على سوقها الفتي.

** جملة التسيد الإبليسي أضفتها من الفقيه الأصولي الكبير د. جابر العلواني، رحمه الله.