|
ربما لما يقارب نصف قرن من الزمن وأكثر، لم تحظ شخصية يمنية بما حظيت به شخصية الشيخ عبد المجيد الزنداني، من حضور إعلامي ودعوي طاغٍ على كل المستويات، محلياً وإقليمياً ودولياً، فقد ظل الرجل متموضعاً في قلب الأحداث كشخصية جاذبة للإعلام، الذي كان يجد في تناول الشيخ الزنداني مادة مثيرة ولافتة للانتباه، وجديرة أن تكون على رأس قائمة الأخبار دائماً، وفي كل شاردة وواردة.
ينحدر الشيخ الزنداني من أسرة مشيخة قبلية، حيث ينتمي إلى قبيلة أرحب اليمنية، وقد انتقلت أسرته فاستوطنت منطقة بعدان بمحافظة إب وسط اليمن، حيث وُلِد هناك في يناير ١٩٣٨م، وانتقل بعدها صغيراً مع والده إلى مدينة عدن التي ترعرع فيها، وأكمل دراسته الأولية هناك قبل أن يحط الرحال في مصر، التي غادرها قبل أن يكمل تعليمه الجامعي فيها عائداً إلى اليمن، حيث شارك في ثورة ٢٦ من سبتمبر، وهناك في إذاعة صنعاء قدم برنامج “الدين والثورة” حينها.
يحظى الشيخ بشخصية كارزمية قوية، أهلته لأن يكون دائماً في الصدارة، ما جعله يقترب باكرا من رموز ورواد الحركة الوطنية، وخاصة الأستاذ محمد محمود الزبيري، الذي ظل الزنداني مرافقاً له كظله، وهو ما أكسب الزنداني مكانة في أوساط النخب الوطنية، وأهله أن يظل حاضرا دائما في المشهد السياسي؛ لكن انعطافة حدثت بعد ذلك في حياة الشيخ الزنداني بانضمامه الباكر إلى جماعة الإخوان المسلمين، حيث تم استقطابه إليها في القاهرة على يد الصحفي المصري الشهير فهمي هويدي، بحسب تصريح هويدي في حديث سابق لي معه.
بعدها تفرغ لصالح نشاطه الدعوي والعلمي مع تأسيس هيئة الإعجاز العالمية في القرآن والسنة في ثمانينيات القرن الماضي، وكان مقرها في المملكة العربية السعودية، التي ظل فيها الشيخ طويلا حتى قيام الوحدة اليمنية، ليعود بعدها إلى اليمن منخرطا في الشأن العام، ليتبوأ عضوية مجلس الرئاسة اليمنية ممثلاً للتجمع اليمني للإصلاح، الذي أسهم في تأسيسه في ديسمبر ١٩٩١م، كرئيس لمجلس شورى الحزب منذ التأسيس حتى ٢٠٠٧م.
قبل هذا ساهم الشيخ الزنداني بتأسيس العديد من الهيئات الوطنية، كهيئة الدعوة والإرشاد أيام الرئيس الحمدي، وكذلك الهيئة العامة للمعاهد التعليمية، وغيرها من الهيئات المتعلقة بالتعليم والمناهج، التي أسهمت بشكل كبير بإعداد مناهج المرحلة الجمهورية، وخاصة ما يتعلق بالتربية الإسلامية التي كانت مثار جدل، نظراً للثنائية المذهبية القائمة في اليمن، فتمكن الشيخ من جمع ثلة من العلماء الذين تمكنوا من صياغة مناهج جمهورية وسطية، نأت بالتعليم عن الاستقطاب المذهبي والطائفي، وعملت على توحيد أجيال اليمن فكريا وثقافيا، هذا بالإضافة إلى إسهاماته الكبيرة في ما يتعلق بمنهج التوحيد، الذي ألفه الشيخ وظل كتاباً يدرَّس في المدارس اليمنية لفترة طويلة من الزمن.
للشيخ الزنداني شخصية كارزمية، حقق بها حضورا وطنيا وعربيا وعالميا كبيرا، وبرز كأحد أهم رموز الدعوة الإسلامية على مدى نصف قرن، وخاصة بعد تأسيسه لهيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في المملكة العربية السعودية، تلك الهيئة التي حقق من خلالها حضورا عالميا، بوصفه داعية إسلامياً حاور العديد من الباحثين والعلماء الغربيين في قضايا الإيمان والكون والخلق، وفي العديد غيرها من القضايا العلمية والدينية.
أما سياسيا، فبعد إعلان قيام الجمهورية اليمنية، بتوحيد شطري اليمن في ٢٢ مايو ١٩٩٠م، عاد الشيخ الزنداني إلى اليمن، وقاد حملة كبيرة حينها لمعارضة ما أُطلق عليه “دستور دولة الوحدة” باعتباره دستورا كان يتبنى فكرة أن تكون الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا للقوانين، فيما كان الزنداني من أصحاب فكرة أن تكون الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد لها؛ وهذا جدل يمكن فهمه في سياقه ولحظته باعتبار الصراع السياسي الكبير حينها بين الإسلاميين واليساريين، الذي صب كله في صالح سلطة الرئيس صالح ونظامه حينها، خاصة وأن ذلك الصراع قاد لحرب أهلية طاحنة صيف ١٩٩٤م، أضرّت بالتعددية السياسية اليمنية كثيرا، وتراجع المسار الديمقراطي بعدها.
سياسيا أيضا، تقلد الشيخ الزنداني عضوية المجلس الرئاسي اليمني، ممثلا للتجمع اليمني للإصلاح، ذلك المجلس الذي تم حله لاحقا عقب حرب صيف ١٩٩٤م، ليتفرغ الشيخ بعدها لمشروعه الخاص، ممثلاً بتأسيسه لجامعة الإيمان، التي كانت بمثابة جامعة وقفية وفد إليها الطلاب من شتى أرجاء العالم الإسلامي، وساهمت هي الأخرى بتخريج العديد من الطلاب والمعلمين والدعاة، الذين يحقق بعضهم اليوم حضورا علميا لافتا في مختلف المجالات والأقطار.
للشيخ حضور إعلامي كبير في مختلف القضايا في الداخل اليمني وفي الخارج، وله مواقف عديدة شكلت محطات جدل وخلاف كبيرَين، لم يكن آخرها إعادة حديثه عن فتوى الخُمس، قُبيل سقوط العاصمة اليمنية صنعاء بيد مليشيات الحوثي في ٢١ سبتمبر ٢٠١٤، والتي تمثل إشكالية كبيرة في الواقع السياسي والثقافي اليمني، لارتباطها بجذر الصراع السياسي الدائر حالياً في اليمن، باعتبار تلك القضية محط جدل دائم لكونها تعزز فكرة ما يطلق عليه كثير من اليمنيين بخرافة آل البيت في إطار سجالاتهم السياسية مع جماعة الحوثي، التي تدّعي انتماءها لآل البيت وبموجب ذلك ترى أن لها حقاً إلهياً في الحكم والعلم والمال من دون الناس.
جنّد خصوم الزنداني أنفسهم إعلامياً لتكريس صورة سيئة وغير صحيحة بالمطلق عن الشيخ، تنسب له التشدد والتطرف، على عكس الحقيقة التي عليها شخصية الشيخ الزنداني؛ فما لا يدركه خصومه، وخاصة السياسيون الذين خاض معهم صراعأ سياسيا كبيرا، أن الشيخ الزنداني شخصية وسطية جداً، وهو جمهوري ديمقراطي في ممارساته، وكان أحد أهم رموز وصناع المشهد السياسي الديمقراطي التعددي ليمن ما بعد ٢٢ مايو ١٩٩٠م.
فقد كان الشيخ حريصاً جداً على فكرة التعددية الثقافية والسياسية في يمن ما بعد الوحدة، رغم مآخذه على دستور دولة الوحدة، الذي كان الشيخ يرى أنه قد ينحو منحىً علمانياً، وكان في هذا الرأي منساقاً مع جو الأزمة، والصراع السياسي الشديد حينها مع الحزب الاشتراكي وبقية الأحزاب القومية، التي كانت هي الأخرى على عداء سياسي شديد للزنداني والإسلاميين عموما، وسعت آلاتها الإعلامية لشيطنة الزنداني وتوجهه الإسلامي، لما يمتلكه الرجل من كاريزما، وحضور دعوي وقبلي واجتماعي كبير على امتداد الجغرافيا اليمنية، قلما تحقق لشخصية يمنية مثله.
وهكذا ظل الشيخ الزنداني محط جدل كبير في كثير من القضايا، التي كان يتصدرها سياسيا وفكريا وثقافيا واقتصاديا أيضا، فالرجل لم يدع قضية إلا وكان له فيها رأيه الخاص، إن على مستوى السياسة أو الدعوة وقضاياها. وكان من أكثر فتاوية إثارة فتوى زواج فريند، التي كانت تهدف لتخفيف تكاليف نفقة الزواج على الشباب في الغرب تحديدا.. لكنه يظل صاحب فكر وسطي عصري رغم تلك الصورة المتطرفة، التي حاول خصومه أن يلصقوها به.
أما ما يتعلق بالزنداني والفكر الجمهوري في اليمن، فقد كان من أشد أنصاره والمدافعين عنه، بحكم مرافقته لكبار رجال الثورة والنظام الجمهوري، كالزبيري والنعمان وغيرهم، وهو لم يكتفِ بذلك بل ظل صاحب صوت جهوري في الدعوة للجمهورية ومناصرتها، وظل أحد أهم الرموز الجمهورية، فكان هدفا دائما للإماميين الذين تستروا بكل لبوس الأيديولوجيات يسارا ويمينا، لتسهيل مهاجمة الشيخ الزنداني والتشنيع عليه وعلى تياره الإسلامي.
رحم الله الشيخ الزنداني، وعزاؤنا لأهله وذويه، ولطلابه ومحبيه في شرق العالم الإسلامي وغربه.. فموته اليوم هو بمثابة إسدال الستار على آخر مراحل اليمن الجمهوري، لكونه أحد الرموز الكبار لذلك العهد الجمهوري، وأحد أهم صُنّاعه، وأحد أهم رجالاته الكبار الذين ظلوا حاضرين على امتداد المرحلة الجمهورية بكل ما حققوه من إنجازات وإخفاقات، تبقى في ظل اجتهاداتهم كبشر يصيبون ويخطئون.
- نقلاً عن مدونة العرب
في الخميس 25 إبريل-نيسان 2024 06:14:19 م