|
كايّ مستنيرٍ ومفكرٍ يمنيٍ كان البردوني ــ رحمه الله ــ يعي تاريخَ الإمامة تمامَ الوعي، لسببين اثنين:
الأول: لأنه عاش فترةً من حياته المبكرة إبان حكمها
الثاني: لأنه قرأ تاريخها بوعي المفكر وعمق الفيلسوف المستبصر.
لهذا كان من أوائل الكتاب والأدباء اليمنيين الذين ركزوا جهودهم في إطار الهوية الوطنية والتاريخ اليمني وتاريخ الاجتماع والصراعات والحروب؛ فاستغرق حياته كلها في البحث والتنقيب والكتابة حول قضايا اليمن قديمه وحديثه، لا في المجال الذي اشتُهر فيه، وهو الشعر فحسب؛ بل في مختلفِ المجالات، فتعددت أوجه البردوني لهذا السبب: شاعرا وأديبا وناقدا ومؤرخا وكاتبا تفكيكيا ومحللا سياسيا.
وبالنظر إلى عناوين كتبه فقط نجدها منطلقة من اليمن وإليه، على سبيل المثال: رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه، قضايا يمنية، فنون الأدب الشعبي في اليمن، اليمن الجمهوري، الثقافة الشعبية تجارب وأقاويل يمنية، الثقافة والثورة، من أول قصيدة إلى آخر طلقة دراسة في شعر الزبيري وحياته، أشتات، والأخيرُ ــ على عنوانه الشاعري ــ إلا أنه من اليمن وإليه في غالبه. هذا إلى جانب أعماله الشعرية: من أرض بلقيس، "باكورة إبداعه الشعري"، لعيني أم بلقيس، رجعة الحكيم ابن زائد، إلى جانب بقية الدواوين الأخرى التي أرّخت بالشعر، وفلسفت بالشعر، وحللت بالشعر، في ظاهرة إبداعية فريدة؛ إذ تقرأ للبردوني نصا شعريا ما، فتجد نفسك كالمحلق في مجرة هائلة من حشود الأفكار والمعاني والفلسفات والتاريخانية، "غريبان وكانا هما البلد أنموذجا". أو "سندباد يمني على مقعد التحقيق" القصيدة النادرة في الشعر العربي التي يحتوي البيت الواحد منها على سؤالين وجوابين معا، بأوجز لفظ وأوسع معنى..! هل رأيتم نظيرا لهذه القصيدة في الشعر العربي قاطبة؟! لا أظن.
وكم متّ مرات؟ كثيرا كعادتي
تموت وتحيا؟ تلك إحدى مصائبي!
لقد كان البردوني "جرامشيا" من طرازٍ فريد، منتميا لتربة أرضه، لم يغرق في التنظيرات البعيدة التي تصرف بعض المثقفين عن قضاياهم الكبرى، منطلقا من الذات الحضارية، والهُوُية الوطنية الجامعة التي يدرك البردوني حقائقها ومضامينها.
لقد كان البردوني من أبصر وأدق من شخّص الهادوية الرسيّة من وقت مبكر، يقول عنها: "فإن الهَدوية كانت امتدادًا تَحريفيًا للزيديَّة، دون أن يُؤدي التَّحريف أو الامتداد إلى حَركة تطوريَّة، فقد حرَّف الهدويون حُكم المفضول على الفاضِل عند الزَّيْدِيَّة إلى أحقيَّةِ آل عليٍ بالحُكم دونَ غَيرهم، باعتبار أنَّ النَّسب إلى علي وفاطمة أعْطَاهم الأحقيَّة لا الأولويَّة. وهَذا خروجٌ على الزيديَّة؛ لأنهَا تَرى للعلوي الأولويَّة، وتُجيز لغيره الحكم مع الصَّلاحيَّة، فقد تَجَاوزت الهَدويةُ الزَّيْدِيَّةَ في أهم أصُول الحُكم، بالإضافة إلى الاختيارات المخوَّلة للإمام؛ فقد كانتْ اختيارات الهَادي يحيى بن الحسين شِبْه مستقلة عن الأصْل الزيدي، بانتمائه إلى الاعْتزال، ولكن بدون بُعدٍ فلسَفي.. ومن هنا تحوَّلت الفلسَفةُ السِّيَاسِيَّةُ إلى سِيَاسَةٍ مُباشِرة، وتحوَّل عِلمُ الكلام وما امتدَّ منه من فَلسَفةٍ إلى ما سُمي أصول الدين..". انظر: الثقافة والثورة في اليمن 65.
ولأنّ حرب الإمامة الهادوية على اليمن ليست حربا عسكرية فقط؛ بل حربا اقتصادية أيضا، فهو يوجزُ سياسة الإمام يحيى التي ولد فيها، وتربى على سماع مآسيها الدامية بالقول:
"كان الإمَامُ يحيى لا ينقطعُ عن قريةٍ أو منطقةٍ إلا مدة قَصيرة، فقد كان مأموروه وجنودُه يمسحونَ البلاد طُولا وعَرضًا، يتحسسُون ما يجري، ويتحصَّلون ثمرة ما ينبتُ وما يتحرك. يأتي المُخمّنُ عند بزوغ الثَّمرة، يليه القبَّاضُ عند حَصادها، يليه الكاشِفُ على القبَّاض، يَليه العَسكريُّ لتحصيلِ البَواقي، يتبعُه عَدَّادُ المواشي، ثم "مثمّر" الخُضَر والفواكه، فَيدوم اتصالُ الإمَامِ بالشَّعبِ على طِيلة العَام عن طَريْقِ المأمورين والعَساكر، ويزيد اتصَاله أعنفَ إذا نجمتْ أحداثٌ واحتدمَ شِجار.." انظر: قضايا يمنية، ط:5، 96م، 62.
وبشكل عام يوجزُ البردوني حكم الإمام يحيى بقوله: "لقد كانتْ ثُلثا أيام يحيى حميد الدين مذابحَ متوالية، وذعرًا ممتدًا في كل طَريقٍ وفي كل شَارع. وكانت تُسمى هَذِه الفترة "زمن ما بين الدولتين" دولة الأتراك الراحِلة، ودولة الاسْتقلال الناشئَة، وبينهما كالعادةِ مُنذ القدم تنتشرُ الإباحة الدمويَّة عن ثأرٍ أو طلب غنيمة، وهِي فرصةُ النَّهبِ والانتقام الشَّخصي في مناطقنا القبليَّة؛ بل في شَوارع المدينة". قضايا يمنية، سابق. 295.
وبقدر ما توقف البردوني عند الإمامة، مفصلا حقيقتها وموضحا جناياتها التاريخية على اليمن واليمنيين خلال فترة حكمها، فقد توقف عند اليمن تاريخا وحضارة وأمجادًا، وتوقف كثيرًا عند ثورات: فبراير 48 وسبتمبر 62 وأكتوبر 63 في الجنوب. وإن كان مُكثرا عن 26 سبتمبر، باعتبارها الحدثَ الأكبر والتتويجَ الأعظم لنضالات اليمنيين، والتي يقول عنها: ".. هي إرادة الشعب، نفذها بعضُ أبنائه، وتعسكر تحت رايتها كل أبنائه". الثقافة والثورة في اليمن، 65.
كما قال فيها شعرا:
أفقنا على فجر يوم صبي
فيا ضحوات المُنى اطربي
أتدرين يا شمسُ ماذا جرى؟
سلبنا الدجى فجره المُختبي!
وكان النعاس على مقلتيك
يوشوش كالطائر الأزغب
أتدرين أنّا سبقنا الربيع
نبشر بالموسم الطيب؟
وماذا؟ سؤال على حاجبيك
تزنبق في همسك المذهب؟
وسرنا حشودًا تطير الدروب
بأفواج ميلادنا الأنجب
وشعباً يدوي: هي المعجزات
مهودي وسيف "المثنى" أبي
غربتُ زمانًا غروبَ النهار
وعدتُ يقود الضحى موكبي
أضأنا المدى قبل أن تستشف
رؤى الفجر أخلية الكوكب
فولى زمان كعِرضِ البغي
وأشرقَ عهدٌ كقلب النبي
طلعنا ندلي الضحى ذات يوم
ونهتف: يا شمس لا تغربي!
في الواقع إن بيت القصيد كله هنا، يتلخص في هذا البيت:
فولى زمانٌ كعِرض البغي
وأشرقَ عهد كقلبِ النبي
إن أطول قصيدة شعرية للبردوني هي قصيدة "حكاية سنين" التي استغور فيها تاريخ الإمامة وجناياتها وقبائحها، وكلها قبح، وكلها سوء، وفيها يقول عن كرادلة الإمامة:
المسبلين على الذئاب
البيض أجنحةَ الرعاية
الناسجين عروقَهم
لمواكبِ الطاعون راية
مَن حوّلوا المستنقعات
الجائعات الى النفاية
أنصافِ آلهةٍ مطوقة
بأسلحةِ العناية
ووجوهُهم كاللافتات
على مواخيرِ الغواية
كانوا ملوكا ظلّهم
حرمٌ ورقيتُهم حماية
فلحومُنا لخيولهم
مرعىً وأعظُمُنا سقاية
وبيادر تعطيهمو
حبّاتِ أعيننا جباية
والله والإسلام في
أبواقهم بعضُ الدعاية
أيامَ كانت للذباب
على الجراحات الوصاية
أيامَ كان السلُّ يأكلنا
وليس لنا دراية
وأبي يعلمنا الضلالَ
ويسأل الله الهداية
في الثلاثاء 30 أغسطس-آب 2022 08:23:16 م