|
في هذه السلسلة نكشف حقيقة ما يسمى بالخرافة السلالية الهاشمية، من خلال (12) حلقة متتالية، توضح كيف تم صناعة هذه الخرافة، و كيف جرى الترويج لها، وإقناع الناس بها تاريخياً.
السلسلة تشكل مجموعة أبحاث تاريخية عميقة، استغرقت وقتاً طويلاً في سبيل الوصول إلى الحقيقة.
معايير الأفضلية القرآنية:
لعل تصور معايير التفضيل لدى المنتسبين لأي دين ما هو إلا تعبير منبثق عن تصور هؤلاء للإله ، فاعتقد كل مجتمع ديني أفضليته حيال غيره من المجتمعات ، وأن هذه الأفضلية هي منحة إلهية خاصة ، تظهر الإله وكأنه متحيز وغير محايد إزاء بني البشر.
بيد أن المنطق الديني القرآني لا يرى التحيز الإلهي غير الموضوعي لفئة بشرية دون غيرها باعتبار أنه ابتداء زود البشر عموما بآلة العقل، ثم أسند العقل بالوحي والنبوات أو الرسالات ، يقول تعالى: {ولكل أمة رسول}، ويقول: {ولقد بعثنا في كل أمة رسول}، ويقول: {ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء أمة رسولها...}، ويقول: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}.
ومن هنا يظهر العدل واللطف الإلهيان بكل البشر والمجتمعات دون تمييز أو محاباة لهذه أو تلك من الأمم أو المجتمعات، وإذا كان هناك من تفضيلات ما لاحقة فلا تخرج عن العدالة الإلهية التي تجعل عملية التفضيل قائمة على أساس موضوعي هو بصورته الإجمالية في مختلف الأديان ، مدى التزام الفرد والمجتمع بتعليمات الدين المرسلة إليهم عبر نبيهم.
ذلك المعيار هو ما يعبر عنه القرآن الكريم بالتقوى، يقول تعالى: {ولباس التقوى ذلك خير..}، ويقول: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}. والأكثر من ذلك أن القرآن استهجن ادعاءات التميز والخيرية بقوله: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى}. وقوله: {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا}. وتؤكد الآية الأخيرة أن التزكية إلى جانب اختصاص الله بها قائمة على أساس العدالة وعدم الظلم.
ومن المعلوم أن رأس الشرور إبليس خالف أمر الله بالسجود لآدم، وبالتالي استحق الطرد من الرحمة بسبب تجاوزه معايير التفضيل الإلهي إلى معيار مادة الخلق، فيقول القرآن على لسان إبليس: {قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}. ويقول: {قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون}.
وإذا كانت المفاضلة على أساس مادة الخلق مرفوضة قرآنياً، فالأولى رفضها في محاولة وضع ميزات تفاضلية على أساس عضوي في مادة خلق واحدة، وبعبارة أخرى البحث عن خصائص جينية تؤسس للتمايز بين البشر؛ لأن اختلاق معيار التميز الجيني أو العضوي باطل في مبتداه لوحدة مادة الخلق والتناسل البشري من مصدر واحد، يقول تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء}.، ويقول: {وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة}، ويقول: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها}.
ومن عجائب القرآن أنه أظهر بطلان المفعول العضوي أو الجيني في مسألة التفضيلات الإلهية بذكر قرابات من الدرجة الأولى -وفق المصطلحات التشريعية والقانونية- لأنبياء موضحاً بجلاء أن القرابة العضوية لا تغني شيئاً طالما خرجت عن معيار الالتزام الديني (التقوى)، ففي قصة نوح ذكر ولده، وإبراهيم ذكر والده ولوط ذكر امرأته.
وفي الحالات الثلاث لم تفد قرابة الدرجة الأولى من الأنبياء الثلاثة في تخفيف الاستياء الإلهي. كما لم تشفع القرابة العضوية لأبي لهب عم خاتم النبيين.
ما سبق لا يعني أن القرآن أغفل العلاقات العضوية بين البشر، بل أكد على المصاحبة بالمعروف والإحسان حتى مع الخروج الكلي عن الالتزام الديني، أي الكفر، وكذلك أكد عليها إضافة للرابط الديني ومعه في مواضيع منها ما يتعلق بالوراثة أو الصلات المالية. إنما يعني أن أصل التفضيل الإلهي كأحد تجليات العلاقة بين الله والبشر هو اختصاص إلهي وفق معيار عادل يقوم على أساس الاقتراب أو الابتعاد من التعليمات الإلهية، حسب ما بين القرآن.
أهم ألفاظ التفضيل في القرآن :
قد يبدو لوهلة أن القرآن بقدر ما أكد على التقوى أو التزام التعاليم الإلهية - بأوامرها ونواهيها- فإنه ضم بين دفتيه ما يشير إلى تفضيلات لا تظهر واضحة الأساس والمعيار، بل وقد توحي بقوة بالتفضيل على أساس عضوي. مما قد يعطي على الأقل انطباعاً بأن في القرآن وجهتي النظر المتعارضتين؛ التفضيل على أساس عضوي، وعلى أساس التزام ديني. قد يكون الأمر صحيحاً إذا اعتبرنا القرآن الكريم تعليمات مشتتة ومفككة لا يربط بينها سوى سمتها الإلهية. لكنه حقيقة ليس كذلك، وإنما هو منظومة واحدة لا تناقض فيه ولا اختلاف.
وفي ضوء هذا يمكن النظر في بعض إشارات التفضيل وألفاظه الواردة في القرآن، والتي من الجائز حصرها مبدئياً بألفاظ الاصطفاء، والاجتباء، والخيرية، والتزكية، والتفضيل.
أولاً: الاصطفاء والاجتباء: مترادفان يعنيان -لغوياً- الاختيار، ويلاحظ في السياق القرآني أن اللفظين أكثر ما أتيا كانا في الأنبياء والصالحين، أي بمعينين، كما جاء في أتباعهم، أي على العموم، وبالنظر إلى السياقات يتبين أن الاصطفاء والاجتباء ليسا عملية عبثية خارجة عن معايير العدالة والحكمة والعلم الإلهي.
- اصطفاء طالوت:
طالوت، لم تشتهر عنه النبوة ومع ذلك تم اصطفاؤه حسب ما أفاد النبي الذي أعلم بني إسرائيل باختيار طالوت ملكا {إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم}. ولعل في الآية الكريمة ثلاث إشارات أساسية توضح أولاً، أن الاصطفاء اختصاص إلهي بحت. ثانياَ، أن الاصطفاء لم يكن عبثاً وإنما قام على أساس حاجة الظرف والموضوع – وهو السياسة والحرب – بسطة العلم والجسم. ثالثاً، أن الاصطفاء كان ناتجاً عن علم إلهي {والله واسع عليم}.
- اصطفاء مريم:
قد تكون مريم إحدى نبيات بني إسرائيل، فالوحي نزل عليها، وإذا لم تشتهر عنها الدعوة فالقرآن ذكر أنبياء لم يشر إلى أنهم حملوا رسالات أو دعوا قومهم، كما أن التاريخ الديني اليهودي يقول بوجود نبيات في بني إسرائيل كالنبية خلدة، وحتى إن لم تكن مريم نبية فقد أبلغها الوحي بالاصطفاء على نساء العالمين، {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك على نساء العالمين}. ويتبين من الآية أن الاصطفاء الإلهي تم بإبلاغ الملائكة لها، بمعنى أنها كانت في مرحلة نضج عقلي وعمري قادرة معها على استيعاب بلاغ الملائكة، وهذا مجدداً يوضح أن الاصطفاء لم يكن اعتباطاً أو ابتداءً فقد كان نتيجة التقوى أو الالتزام الديني السابق لمريم، غير دعوة ونذر والدتها الصالحة، كما تشير آيات أخرى.
- اصطفاء الأنبياء:
من السياقات القرآنية يظهر أن الاجتباء للنبوة لا يقوم ابتداءً إلا في حالة عيسى ويحيى وإسحاق كحالات غاية في الخصوصية، حيث يجمع بينهم اشتراكهم في ما يخالف العادة، عدم وجود أب لعيسى وحمل العاقر والعجوز بالنسبة لإسحاق ويحيى، وكذلك اشتراكهم في البشارة الإلهية بمولدهم، ودعوات آبائهم لهم قبل ولاداتهم. ومن الشواهد على ذلك إبراهيم عليه السلام الذي ورد في لفظي الاصطفاء والاجتباء خصوصاً، وكذا موسى -عليه السلام- إذ في الحالتين كان الاصطفاء للرسالة والنبوة عملية لاحقة لحالة معاناة فكرية واجتماعية أسفرتا عن اقترابهما من منطقة الاصطفاء الإلهي. فحالة البحث عن الإله الحقيقي والتثبت منها أو المعاناة الفكرية بارزة في قصة إبراهيم والمعاناة الاجتماعية ذات الأبعاد الخاصة بادية في قصة موسى.
إضافة لذلك فالاصطفاء والاجتباء في حق عموم الأنبياء -وفقاً للسياق القرآني- يقترن في آيات سابقة ولاحقة للآيات التي جاء فيها اللفظان بإشارات إلى تقواهم وأعمالهم الصالحة سوى ما أكده القرآن كقاعدة للاصطفاء بالنبوات والرسالات في قوله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته}، وليس خافٍ من الآية أن الاختيار الإلهي لأشخاص معينين للأداء الرسالي عملية قائمة على علم وحكمة إلهيين وليست اختياراً عشوائياً.
- اصطفاء العموم:
أي بدون تعيين شخصي، يقول تعالى في قصة لوط {قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى}. يلاحظ من سياق القصة والآيات التي أوردتها أن الاصطفاء ونجاة آل لوط كان أساسه الالتزام والتقوى، {إنهم أناس يتطهرون}. حتى إذا نزعت الآية من سياقها، كما في تفسيرات لها، وأن المقصود بعبارة الذين اصطفى هم الرسل، فإن لوط منهم وهو من الذين يتطهرون، فيظل شرط الالتزام الديني قائماً.
ويمكن استخلاص التالي في قضيتي الاصطفاء والاجتباء:
1-أنها عملية توقيفية على الله –سبحانه- بالنسبة للمعينين، ومن ثم يكون من التجاوز تسمية معينين بالاصطفاء والاجتباء دون دليل نص إلهي.
2-أنها ليست عشوائية وعبثية واعتباطية؛ إنما تقوم على أسس في علم الله أوضح لنا بعضها، وما أوضحه فهو ما يلزمنا الحجة.
3-أنها في الأغلب لاحقة وليست ابتداءً إلا في حالات عيسى ويحيى وإسحاق الخاصة.
4-أنها لا تنفي بقاء الأساس القرآني المذكور وهو التقوى.
5-أن وصول المعين لدائرة الاصطفاء الإلهي ليس مطلقاً بل مقترناً باشتراطات لاحقة وإضافية، والخروج عن هذه الاشتراطات يترتب عليه تأثر درجة الاصطفاء، كما في قصة ذي النون وخروجه مغاضباً.
6-بالنسبة لاصطفاء العموم أو غير المعينين فهو أيضاً غير مطلق ودائم ويرتبط مرة أخرى بمدى الالتزام الديني، يقول تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله}.
7-الاصطفاء، كما أنه عملية مشروطة بتبعات والتزامات، فهو عملية نسبية وليست مطلقة، فاصطفاء طالوت محدد بالملك رغم وجود نبي، واصطفاء مريم بالنسبة للنساء، واصطفاء هارون أقل درجة من اصطفاء موسى. وبنص القرآن هناك أنبياء أفضل من أنبياء بمعنى وجود تفاوت في درجات الاصطفاء، ولو كان الاصطفاء عملية مطلقة لتساوى الجميع وعدم التفاوض بين الأنبياء.
- الخيرية والتزكية:
من اللافت في هذه الألفاظ أن المنسوب لبشر منها في القرآن الكريم أتى في الأغلب دون تعيين، وإنما منسوب لعموم بعضه مقرون باشتراطات، يمكن انطباقها على أي شخص يتوافر على الشروط، مع التأكيد السابق الإشارة إليه بعدم تزكية الذات.
من ذلك يقول تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله..}، ويقول: {ربنا وأبعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم}.
أما لفظ التفضيل فورد في القرآن كثيراً، إلا أنه في مسألة المقارنة التفضيلية بين البشر أتى بما يخص بني إسرائيل، و"بني" هنا توحي بأساس عضوي وهو ما يعنينا.
المصدر: الموقع بوست
في الخميس 09 مارس - آذار 2017 06:38:07 م