|
قد يقول قائل لو أن الضحايا الثلاثة والخمسون انقضوا على القاتل دفعة واحدة لسلبوه بندقيته، بل لقتلوه رفسا بالأ قدام، لاسيما وهم يشاهدونه يبدل خازن الرصاص أمام أعينهم بهدؤ، ولكنهم توزعوا في زوايا المسجد ينتظرون حتفهم ليقتلهم بالعشرات. ..
أعتقد أن مثل هذا القول غير مفيد في هذا المقام لأن أقدار الله قد شاءت أن يكون الوضع كما هو، والنتيجة كما أسفرت عنها الحادثة لحكمة يعلمها الله.
هذه الجريمة هي جريمة إرهابية مكتملة الأركان، وأحرجت المعسكر الدولي لمكافحة الإرهاب، وأدخلت عنصرا جديدا في سجل الإرهاب ظل الغرب ممانعا من دخوله طيلة الفترة الماضية، ولكنه دخل الآن بشكل مباشر وصريح محمولا بدماء هؤلاء الضحايا.
لو كان الضحايا قد تمكنوا من قتل المجرم لتغيرت التفسيرات والتأويلات ولما أسفرت الحادثة عن هذه النتيجة.
الحادثة قاسية ومؤلمة على المستوى الذاتي ولها أضرارها المادية والنفسية الجسيمة على الضحايا وأسرهم لاسيما وهم يشعرون أن المجرم قد ارتكب جريمته بدم بارد ودون أي مدافعة أو مقاومة، لكنها على المستوى الموضوعي ربما كان لها الكثير من الإيجابيات على صعيد النتائج والآثار في المجتمعات الغربية كلها، وعلى عكس ما لوكان قد تمكن الضحايا من قتل الجاني، لاسيما وأن هذه الحادثة قد وضعت المجتمعات الإنسانية في الغرب أمام حركه إرهابية عنصريه تمجد العرق الأبيض و تحتقر بقية الأجناس و تعتبر المهاجرين إجمالا و المسلمين تحديدا خطرا وجوديا على المجتمعات الغربية.
بالتأكيد هذه الحركة غير دينية وليس لها أي علاقة بالمسيحية ولا بأي مذهب مسيحي مع أنها تستلهم أحداث معينه في التاريخ ارتبطت بحروب دينية مثل الحروب الصليبية والصراع مع العثمانيين.
هذه حركه قديمة عمرها أكثر من ربع قرن من الزمن تزدهر وتنحسر تبعا للمبررات والمسوغات الارهابية التي تفرضها الظروف الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات الأوروبية، وانتفاشتها في الوقت الحالي كان بفعل مشاكل اللاجئين وخطاب التحريض المتبنى من قبل اليمين الأمريكي والأوروبي وعلى رأسهم الرئيس ترامب الذي يصدر تصريحات متكررة ضد المهاجرين...
هذه الحركة ترى في الرئيس ترامب (لا البابا ولا رؤساء الكنيسة) رمزا لها ومثالا للهويه البيضاء.
بل ان هذه الحركة تعادي حتى اليهود بشدة. فمذبحة سينيجان بأمريكا ضحاياها يهود ، ومنفذ الهجوم صرح أنه يقتل الخنازير اليهود الذين يساعدون الخنازير المسلمين في غزو أمريكا.
لقد سارعت معظم الدول الغربية إلى إدانة الحادثة وتوصيفها بالإرهابية بكل وضوح ، ليس خوفا من المجتمعات الأ سلامية ولكن تفاديا من انزلاق الأمور إلى الوضع الذي يهدد منظومة الأمن الأروبي، على اعتبار أن الحادثة الإرهابية من وجهة نظر هذه الدول تستهدف أمن المجتمعات الأوروبية أولاً وأخيراً.
مهمة المجتمعات الإسلامية الآن بكل مؤسساتها الثقافية والحضارية والدينية والإعلامية هي تسويق مظلوميتهم لدى المجتمعات الغربية بمعزل عن تقريع وتهديد نخبة المكر والكيد وجماعة الضغط العنصري في هذه المجتمعات.
طالما والمجتمعات الإسلامية قد سبق لها وأن قالت بعد حادث 11 سبتمبر الارهابي بأن ذلك الحادث لا يمثل المسلمين ولا يمت للإسلام بصلة، وأن الاسلام بريء من ذلك الفعل المشين، وأن الإرهاب لا دين له، عليهم الآن وبعد أن حدث الإرهاب على المسجدين في وسط المجتمع الغربي البقاء على توصيفهم السابق لأحداث سبتمبر كما هو، وعليهم أن يقولوا للمجتمعات الغربية مجددا بأن حادثة المسجدين أيضًا لا صلة لها بالكنيسة ولا بالتلمود ولا بالمسيحية ولا باليهودية، وأنه عمل إرهابي بحت، وأن الإرهاب لادين له، وذلك حتى يكونوا متسقين مع خطابهم الأول، ولا يمنع أن يذكروا المجتمعات المسيحية الغربية بأن مسلمي الشرق سبق لهم وأن قالوا بأن الإسلام لا علاقة له بأحداث سبتمبر ...والآن يعودوا ليؤكدوا مجدداً بأن المسيحية واليهودية لا علاقة لهما بمجزرة المسجدين ايضا....كون مثل هذا الخطاب مفيد للمسلمين في مجتمعات الغرب ويمنحهم الأمن، ويسهم في الحفاظ على الحضور الإسلامي في المجتمعات الغربية، أما أن يستمروا في إعطاء الحادثة تفسيرات عقدية ولو كانت صحيحة إلا أنها تظل غير مفيدة لهم، لاسيما وأنهم يعانون في مجتمعاتهم من الإرهاب ، وهناك من أبنائهم من يمارس الإرهاب في الغرب بالوصفة الشرعية الخاطئة لدينهم الإسلامي.
في الغرب توجد هوة كبيرة بين المجتمعات الغربية المدنية والمراكز الدينية كنتاج لحالة الفصل العلماني بين الديني والحياتي، وهذه الهوة في مصلحة الحضور الإسلامي المدني في المجتمعات الغربية كونها تؤدي إلى توسيع مساحة الجانب الحياتي الذي يعد المسلمون عنصراً مهماً فيه على حساب الجانب الديني الكنسي الذي لا صلة لهم به ، وبالتالي يتوجب عليهم أن لا يسهموا بخطابهم في توسيع هذه الهوة كون خطابات التعجيل بشروط المواجهة بين المجتمعات الإسلامية والغربية لم تكن في مصلحة الإسلام إطلاقا.
على دعاة الإسلام المتحمسين وقبل الشحن واستدعاء هذه المواجهة أن يأخذوا أولاً حصتهم كاملة من الفطرة الإنسانية في المجتمعات الغربية وجلبها إلى الإسلام على قاعدة الدعوة بالحسنى والحوار الإنساني المعتبر، وهذا لا يتم بخطاب التفسير التآمري العقدي للأحداث وإن كان بعض من هذا التفسير صحيح ولكنه ينطبق على نخبة المكر الديني الغربي وساسة الصليب. ولا ينطبق على المجتمعات المدنية الغربية، وهو ما يتوجب على المسلمين عامة أن يوجهوا خطابهم للمجتمعات الغربية مباشرة وليس لنخب المكر، وفي المقابل من ذلك فإنه يتوجب على الأنظمة والحكومات العربية والإسلامية ومجالسها ومنظماتها الإسلامية بضرورة مطالبة الحكومة النيوزيلندية بمعالجة حقيقية قضائية وعدلية للحادث الإرهابي في المسجدين بنيوزلندا بحيث لا يتحول هذا الحادث إلى مواجهات دينية بين اتباع الديانات والمجتمعات الإسلامية المسيحية، وتوجيه مسار هذا الحادث إلى مواجهة حقيقية بين الارهاب والسلام، فضلاً عن إطلاق الدعوة إلى حوار دولي جامع من أجل صوغ استراتيجية جديدة لمحاربة الإرهاب وتجسير العلاقات بين المجتمعات على قاعدة الحوار الإنساني والتعايش الحضاري، كون الإنسانية بكل أديانها مشتركة في ضمان الأمن الإنساني في هذا الوجود، باعتبار أن هذين المطلبين هما المتاحان الذي يسمح بهما ميزان القوى الإسلامية في الظرف الراهن.
من المهم الإشارة في هذا السياق إلى الموقف المسؤول للحكومة السعودية والذي عبر عنه بوضوح فهد المطيري رئيس قسم حقوق الإنسان في البعثة الدائمة للملكة العربية السعودية لدى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية في جنيف، حيث طالب في كلمته في الحلقة النقاشية الدول الغربية بضرورة وقف الخطابات العنصرية الرسمية التي تصدر عن هذه المراكز النخبوية الرسمية في المجتمعات الغربية فوراً، مع المطالبة بإصدار قوانين تحد من العنصرية ضد المسلمين في المجتمعات الغربية، وكذا تخفيف حدة الشعبوية القومية المتصاعدة وآيديولوجيات التفوق العنصري المتطرفة والعمل على محاربتها بإسناد ودعم مجلس حقوق الإنسان العالمي والمؤسسات الدولية في هيئة الأمم المتحدة، فضلاً عن عدم التساهل والمحاباة للسياسات العنصرية والخطابات المحرضة بما في ذلك العنصرية المعادية للثقافات الأخرى مع اعتماد خطابات وسياسيات متوازنة تسهم في دمج المسلمين في مجتمعات هذه الدول في إطار من الشراكة الإنسانية المعتبرة والمتكافئة.
* عبده محمد سالم (كاتب ومحلل سياسي)
* المقال خاص بالمصدر أونلاين
في الخميس 21 مارس - آذار 2019 02:56:11 م