|
أنا شاب ثلاثيني، خلقت في قرية قديمة مسقوفة بالقش والطين أعلى الجبل المطل على الساحل الغربي، وعندما استوعبت الحياة كنت أجلس مع جدتي في العتمة بجوار بيتها الذي هو عبارة عن صندقة صغيرة من الزنك تقف على تاء القرية متوجسة من المطر والريح ومندهشة بلمعان البحر عند الغروب و بأضواء الكهرباء في جنوب السعودية التي تملأ الأفق الشمالي للقرية الملتحفة بالظلام التليد.
في القرية تلك، كنت أكبر كل يوم سنة كاملة،حملت الدنيا على ظهري مبكرا،أذهب إلى المدرسة في السادسة صباحا و أصل في الثامنة، بلا زي ولا حقيبة ولا مصروف، أعود من المدرسة أرعى غنمات أمي،وفي الليل أتقاسم الوجوم والتعب مع القرية و أنام بعد أن أكتب واجبي المدرسي على ضوء فتيل مغمس في الزيت داخل علبة فول.
لقد كنت طفلا مجازيا، لم أجد الطفولة ولا رأيتها حولي مع أحد من أولاد الجيران،لا ألعاب غير تلك التي نخترعها،خشبة نمتطيها كحصان،و أطفال من طين نخلقهم حين نتقمص دور الأباء و نقتلهم عندما نسمع أصوات أمهاتنا العائدات بالماء من الوادي،في الحقيقة كنا نتبول على أنفسنا خوفا منهن حين نعود متسخين بأطفال الطين.
لم يكن هذا كل شي، وليست الطفولة المفقودة شيئا يستحق الذكر مقارنة بمآسينا الجسام التي كبرت معنا،لكنها بكل الأحوال جزء من حياتنا التعيسة التي تشاركناها مع أهلنا.
سوف أحكي لكم فصولا من ذكريات قريتنا وذاكرة بؤسنا التي لم تكن إلا صورة مصغرة لليمن، وهي بالضرورة أسباب جديرة بأن تنسف الحياة و تربي الحقد في القلوب على الدولة والنظام و الرئيس.
لقد شاركت في ثورة فبراير لأنني منذ أن وقفت على الوعي والإدراك، رأيت أمي وهي تمرض تمرض تمرض حتى يشبع منها المرض وتخرج منه واجمة وشاحبة لكي تعود إليه ثانية و نحن حولها كالفراخ نتهامس فيما بيننا كلما غفت،يمكن ماتت !!
ومن بين الأسئلة تمد يدها وتمسد على قلوبنا الغضة بصمت وبأصابع راعشة وكأنها تقول لن أموت بسهولة ،و لم تمت فعلا لكنها مازالت كما عودتنا تموت وتحيا ومن حولها عجزنا يطقطق أصابعه و يقضم قلوبنا كما يفعل الخوف عليها تماما.
أما جدتي المسكينة فقد كافحت أمراض شيخوختها بشحم النمر و أبو فاس.
لقد رأيت النساء الحوامل وسمعت صراخهن وهن يزحرن في العراء ويخمشن بأظافرهن وجه الليل و يمتن بدم بارد قبل أن تصل سيارة من قرية مجاورة لتأخذهن إلى منتصف الطريق الوعرة حيث يمتن ثانية أو يساعدهن ارتجاج السيارة وتدحرجها على الولادة لينجو الأزواج من حرج الإفلاس و هم تكاليف العملية ومشوار السيارة.
مازلت أتذكر أولئك الرجال الذين ماتوا بالكوليرا و أهاليهم وهم يحاولون إنقاذهم بالأعشاب و الزوم..
أتذكر ابن الجيران الذي كان يمشي عاريا من فرط الإسهال وكيف خرج من الوباء بلا تدابير صحية و عاش..
أتذكر وجل وخوف الأمهات على أطفالهن و منعهم من الخروج إلى الطرقات والمداهي والمجارين حرصا عليهم من العدوى التي يقلن أنها تطير مع الريح وتمشي مع الأتربة والغبار..
أتذكر كيف كان الكي بالنار والمراخ هو دواء المغص والإسهال عند الأطفال و وصفة العافية للحمى و وجع المفاصل ولعلاج ضربة الشمس وبنت الريح عند الكبار..
أتذكر الحلص و الزوم كيف كان غواشا للمرضى و طعاما للفقراء..
أتذكر كيف يموت الناس بلدغة أفعى ولا يجدون ترياقا، وكيف يعيش مرضى السكر بلا أدوية و كيف تنفجر الزائدة في جوف إنسان وهو يتلوى دون أن يعلم أن استئصالها طوق نجاة لحياة جديدة..
لا يوجد في قريتنا مستشفى ولا حتى مركز طبي صغير، ولا توجد طرقات معبدة تسهل نقل المتعبين إذ ينزف الجريح حد الموت بينما لا تزال السيارة تنحدر في الجبل ببطيء مثل فيل عجوز.
لقد شاركت في ثورة فبراير لأنني كبرت في الظلام لم تعرف قريتنا الكهرباء، وبالتالي لم يتسن لي رؤية ملامحي في المرآة وهي تنتقل من سنة لأخرى و تغير ألوانها وتأخذ شكلا جادا لتقلباتها.
صدقا، لقد علمت أنه صار لي شارب خفيف من جدتي لأمي حين وبختني و أهانتني أمام الفتيات لأنني ما زلت أجلس مع أمي بينهن، ولو كانت الكهرباء متوفرة لرأيت شاربي في ظلي على الجدران، أو لفت انتباه أخي الصغير حين يضحك مني و أنا أنظف أسناني بالفحم.
لقد شاركت في ثورة فيراير لأنها كانت سببا لأن أتعرف على صنعاء و أنا القروي الذي لا يعرف المدن إلا في كتب الجغرافيا و التربية الوطنية و أخبار الراديو حين تنقل خطاب الرئيس كل أسبوع من مدينة.
لقد شاركت في ثورة فبراير لأني كنت أسهر مع أمي على بئر الماء حتى الفجر وهي تنتظر دورها في تعبئة دبتين من عشرين لتر تحمل هي إحداهن على رأسها والفانوس الأزرق في يدها وأحمل الأخرى على كتفي لنعود إلى البيت، وكذلك يفعل كل أطفال القرية مع أمهاتهم أو أخواتهم لأن الدولة لم توفر لنا مشروع ماء للشرب.
لقد شاركت في ثورة فبراير لأن الدولة كانت تغذي الحروب بين القبائل في منطقتي وتوفر لهم السلاح والذخيرة بدل أن توفر لنا أدنى مقومات العيش و الخدمات العامة.
لقد شاركت في ثورة فبراير ضد الرئيس، لأن الرئيس الوحيد الذي زار مديريتنا منذ قيام الجمورية قبل 50 عاما حتى ثورة فبراير في 2011، هو الرئيس ابراهيم الحمدي، وهو الوحيد الذي شق طريقا ترابيا،وفتح مدرسة، وتفقد أرملة، وحاسب شيخا،وقبل طفلا، و وضع حجر أساس لمشروع ماء لم ينفذ أبدا.
لقد خرجت إلى ساحة التغيير لأن عصابة صغيره تملك كل شي.. كل شيء، وشعب كامل لا يملك طعام يومه ولا الأمل في غد أفضل.
وأخيرا.. لقد شاركت في ثورة فبراير لأنها عاملتني وأنا ابن الفلاح الفقير باحترام، جلعت مني شاعرا ، أعطت لي مساحة في صحيفة، وفرصة في الظهور على التلفزيون،ومقعدا في الصف الأول لقاعة احتفال رسمي،وتذكرة سفر لمهرجان شعر،صنعت لي إسما أعلى من أسماء الشعراء الذين صنعتهم أجهزة الاستخبارات ومدائح الحاكم، جعلتني أحلق في الأعالي و أزاحم النجوم، وكان شبابها هم رفاقي وهم أجنحتي التي طرت بها دون أن أحتاج إلى نفاق المثقفين أو توسلهم اعترافا.
باختصار، شاركت في ثورة فبراير لأنها علمتني كيف انتزع كرامتي وكيف أنتصر لحيرتي و كيف أكسر أنف الظلم، و أشدخ خياشيم القهر،و أتسلق المستحيل لكي أكون أو أكون.
لقد كانت ثورة فبراير شرف هذا الجيل،ولو عاد بنا الزمن للوراء لفعلناها ألف مرة، لن نندم عليها ولن نتنكر لها،إنها النور الذي أضاء لنا الطريق وغسل عنا وسخ العتمة، وهي المفخرة العظيمة التي نستطيع أن نرد بها على أسئلة أولادنا وأحفادنا حين يسألون عن بطولاتنا وتاريخنا.
بكل اعتزاز، نحن ورد الساحات و هتاف الحرية، وضوء الفجر بعد طول ظلام و ظلم.
في السبت 10 فبراير-شباط 2018 07:33:24 م