|
تبرز الهوية لدى الإنسان في الوطن العربي كإحدى المشكلات الكبيرة التي يتعين عليه مواجهتها في العصر الحديث، وبالتالي إيجاد المعالجات اللازمة لها.
تتكوَّن الهوية من عدَّة عوامل تهدي الإنسان على الصَّعيد الفردي وعلى الصَّعيد المجتمعي أيضاً روابط من الإحساس بالوجود و الانتماء و المصير المشترك، وهو شعور يضمن استمرارية الجماعة ويحفظ كيانها، لكن حينما يختفي هذا الشعور - وفق ما ذهب إليه سعيد عبيدي في كتابه "الهوية والعنف وهمّ المصير الحتمي.. قراءة في كتاب أمارتيا صن" - تبدأ الجماعة في مواجهة مصير قد يؤدي إلى التَّفكُّك، ذلك لأن الهويَّة -وفق سعيد عبيدي- وأشار إليها مهدي جعفر "هويَّات متعدّدة؛ منها ما هو ثقافي ومنها ما هو ديني أو إيديولوجي ومنها ما هو حضاري، وأخطرها هي الهويَّة التي تقوم على عدم التَّسامح أو عدم تقبل الآخر المختلف، والتي تقوم غالباً على ثنائيَّة الإيمان والكفر، الحقّ والباطل، الخير والشرّ، الصَّح والخطأ، فهي بذلك لا تقوم على الاعتراف العام، بل على الإقصاء، وإذا اقتضى الحال [تتبنى العنف لتحقيق هذه الغاية]، فهي لا تنظر إلى الآخر من باب التّنوُّع والتَّعدُّدية والاختلاف والتَّعاون والتَّفاعل، بل تنظر إليه من باب الخصومة والتبخيس والتَّحفظ في أحسن الأحوال".
ثمة كثير من النخب هنا تعتقد أن تَّفكُّك الاتحاد السوفييتي، على سبيل المثال، مبرر يدعم توجهها التَّفكُّكي، والترويج له في سياق بحثها عن هويتها المفترضة، غير أن نجاح روسيا الاتحادية Российская Федерация ينسف هذا الاعتقاد ويعرّيه. ولمن لا يعلم: عُمر هذا الاتحاد الروسي الجديد ليس سنة أو عشر سنوات؛ بل يتجاوز ربع قرن.
وفقاً للدستور الروسي، فإن روسيا الاتحادية دولة فيدرالية ذات نظام حكم شبه رئاسي، حيث رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة، و رئيس الوزراء هو رئيس الحكومة. وتتمحور روسيا الإتحادية أساساً، كدولة ديمقراطية تمثيلية متعددة الأحزاب، مع حكومة فيدرالية.
بإمكان المرء التركيز على نماذج لتَّفكُّك اتحادات غير الاتحاد السوفيتي، لتأييد وجهات النظر الداعمة لمشاريع التَّفكُّك و الترويج لها، في مقابل ذلك يمكن الاستدلال، على نحو واثق، بنماذج أكثر عن نجاح الدول الاتحادية، الفيدرالية، [بصيغها المختلفة]، كالولايات المتحدة الأمريكية و سويسرا و الهند و استراليا و ألمانيا و النمسا و بلجيكا و ماليزيا وإثيوبيا على سبيل الذكر لا الحصر، بما في ذلك طبعاً الإمارات العربية المتحدة.
قبل أيام كانت افتتاحية صحيفة "الخليج" الإماراتية تقول، وعلى نحو واضح غير ملتبس: "لم يكن خيار الاستفتاء بهدف الانفصال واقعياً، سواء في كردستان أو كتالونيا، خاصة أن المحيط، والعالم، صارا يرفضان التوجه نحو التفكك، ويبحثان عمّا يجمع الدول والشعوب، لأن ترك خيار الانفصال يتمدد في أكثر من منطقة من شأنه أن يزيد من أزمات العالم، ولا يعمل على حلها، والنموذج السوداني بانفصال الجنوب عن شماله، دليل على انعدام المشروع السياسي لمؤيدي الانفصال، حيث تعيش دولة جنوب السودان حروباً داخلية طاحنة نسفت كل الأحلام التي بناها دعاة الانفصال في دولة مزدهرة".
في السياق العام يعاني الإنسان العربي المعاصر، كما يقول علي أسعد وطفة، أزمة هوية وانتماء تتصف بطابعي العمق والشمول.
وتعود هذه الأزمة إلى وجود الإنسان العربي في ظل كيانات اجتماعية متعددة ومتعارضة، تبدأ بالقبيلة والطائفة حيناً وتنتهي بالدين وبالقومية أحياناً.
ولقد شهدنا كيف ذهبت جماعات سياسية، في سياق أزمة هوية، في إطار المشهد السياسي في جنوب اليمن، إلى التخلي عن هويتها، والاختباء وراء هوية أخرى، أو اللجوء إليها، وهي الهويَّة التي تقوم على عدم التَّسامح أو عدم تقبل الآخر المختلف، وفق تعريف سعيد عبيدي، المُشار إليه بعاليه.
التوجه في العصر الحديث الآن نحو الاتحاد لا التَّفكُّك. التوجه نحو صيغ اتحادية تضمن للجميع حقوقهم وتكون الحاضنة لهم بغض النظر عن معتقداتهم الدينية والسياسية والفكرية أو ألوانهم أو أجناسهم أو أعراقهم أو لأية أسباب أخرى.
يقول حبيب سروري: "الرغبة اليوم في الانفصال السياسي غير متناغمة مع روح هذا العصر الذي تهمَّشت فيه معظم الحدود: انهارت عوائق حركة رؤوس المال، و اندمجت شبكات الإنترنت و التواصل الاجتماعي و المعلومات والمعارف الإنسانية، وصارت لِشركات التكنولوجيا الكبرى: غافا (غوغل، آبل، فيسبوك، أمازون، وغيرها من السلطات العابرة للحدود) سلطةٌ على حياة الإنسان في كل لحظة، أقوى من سلطة الدول الوطنية، في أكثر من مجال.
ناهيك عن أن حاجةَ قوى المال والتكنولوجيا، التي تقود زمام الدنيا، تكمن في عالَمٍ بدون عوائق، يتّجه على المدى الاستراتيجي البعيد صوب فضاءٍ جيوسياسي أرضيٍّ واحد، تُسيِّر دفّتَه حكومةٌ دوليّة واحدة (كما يلاحظ كثير من المفكرين والاستراتيجيين)! إذ لا يغيظ هذه القوى العملاقة شيء أكثر من أن ترفض أو تؤجل قبولَ مشروع من مشاريعها دولةٌ ما من دولِ العالَم".
إنّ أهم مشكلة يمكن أن يواجهها الإنسان ليس في الوطن العربي وحسب، بل و في كل العالم لا تكمن فقط في الهوية، بل و أيضاً ببساطة شديدة [في إلغاء الآخر] مثلما أشرتُ إلى هذا قبل أيام في صفحتي الشخصية في موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، كتحليل للمشهد السياسي في جنوب اليمن بشكل خاص، و اليمن بشكل عام.
قبل ذلك بأعوام، وتحديداً في منتصف 2014 كنت كتبتُ: ((سيتعين على الجميع ممارسة السياسة مع الخصم/ الخصوم دون أن يؤدي ذلك إلى (إقصاء الآخر، و طمس حقه) في اختيار ما يراه مناسباً.. و لكي يحدث ذلك؛ سيتوجب وجود دولة قوية تحكم قبضتها الأمنية على كل شبر فيها، (ورعاية دولية قوية حقيقية) تؤمّن إجراء الاستفتاء - بشفافية و أمان - لكل الأطراف - بلا استثناء -، و(ليس في ظل خوف بأي قدر كان، أو تحت تهديد من أي طرف كان)، وهذا أمر ليس متوفراً الآن، و لا حتى على المدى القريب!!))
و مع ذلك؛ و رغم كل ما تقدم ثمة من يريد إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، مُقدّماً نفسه في قالب جامد لا يقرأ التاريخ ولا يريد أن يتوقف في محطاته لاستلهام الدروس والعبر، لينطلق بعدها بخطوات واثقة صوب المستقبل.
في الواقع، أية جهة ترغب في إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء "ستلقى المآل الذي آل إليه الكُرد والكتالان" بحسب الموقف الذي سطّرته صحيفة "الخليج" الإماراتية ذات إفتتاحية قبل أيام فائتة، وتضيف: "الحصيف من يتعظ مما جرى في الإقليمين بدلاً من القفز على الواقع، وأن يبدأ بإعادة ترتيب أوراقه للنشاط السياسي تحت سقف الدولة الموحدة، عوضاً عن الجري وراء أوهام لا تزيد البلدان سوى المزيد من الأزمات، فمشروع الانفصال لا مستقبل له، ومواقف دولة الإمارات العربية المتحدة، المستندة إلى تجربتها الوحدوية، ترفض مشاريع التفكك والانفصال، لقناعتها بأن هذه المشاريع تفتيتية ولا تساعد على حل أية أزمة".
إنّ إصرار الجماعات السياسية عبر عدد من المجالس و المكونات، في الذهاب الى التخلي عن هويتها، و الاختباء وراء هوية أخرى، أو اللجوء إليها، لا مستقبل له، ليس "لأن المحيط، و العالم صارا يرفضان التوجه نحو التَّفكُّك، ويبحثان عمّا يجمع الدول و الشعوب" وفق نص افتتاحية "الخليج" الإماراتية، بل و لكونه قبل ذلك يتأسس على إلغاء الآخر و[يقوم على تزييف الحقائق واستبدالها بأخرى على النقيض].
جاء في دستور جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، الباب الأول، أسس النظام الوطني الديمقراطي الفصل الأول الأسس السياسية المادة (1): جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية جمهورية ديمقراطية شعبية ذات سيادة و هي دولة تعبر عن مصالح العمال والفلاحين والمثقفين والبرجوازية الصغيرة وكافة "الشغيلة" وتسعى لتحقيق اليمن الديمقراطي الموحد، والانجاز الكامل لمهام مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية تمهيداً للانتقال إلى بناء الاشتراكية . المادة (2): الشعب اليمني شعب واحد و هو جزء من الأمة العربية والجنسية اليمنية واحدة، وتكون اليمن وحدة تاريخية واقتصادية و جغرافية.
في الإثنين 20 نوفمبر-تشرين الثاني 2017 07:48:01 م