الجمعة 29-03-2024 17:37:40 م : 19 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار
⁠⁠⁠⁠⁠رحيل الدكتور الأهدل
بقلم/ الدكتور/فؤاد البنا
نشر منذ: 6 سنوات و 6 أشهر و 19 يوماً
الجمعة 08 سبتمبر-أيلول 2017 02:51 ص

ما تزال مطارق الأحداث تنهال على رؤوسنا بضرباتها المُوجعة، في وطننا المُثْخن بالجراح والمُتْخم بالموت، وها نحن نفقد عزيزاً آخر من أعزائنا بغتةً وبدون أي مقدمات!

إنه عملاق من عمالقة هذا الوطن الذين عصفت بهم الأيام وهو د. يحيى محمد عبدالرحبم الأهدل، الذي جمع بين غزارة العلم وبين الخلق الكريم والعمل الصالح، فقد تنقّل بين الأعمال والوظائف حتى وصل إلى عضوية هيئة التدريس بكلية الطب في جامعة صنعاء، وكان عضواً في مجلس النواب لدورتين متتاليتين عن حزب الإصلاح، لكنه في كل ما تسلّم من أعمال وتنسّم من فعاليات، لم يَحد عن طريق الصلاح، ولم يتزحزح عن منهج الإصلاح.

لقد ظل منحازاً إلى الناس، متعصباً للحقيقة، يبحث عن أجزائها في مظانها، ويدور في فلَك الحق حيثما دار، ويفتش عن الحكمة أينما كانت، لا يتردد عن خدمة الخلق دون نظر إلى سلالاتهم أو مناطقهم أو أحزابهم، وكان صاحب منهج نقدي لا يعرف الرضوخ للشائع ولا الاستكانة لثقافة القطيع، مما قاده للقراءة العميقة لكثير من الموضوعات والقضايا الشائكة، وفي كل مرة تجده منطلقاً من القرآن وعائداً إليه، حيث حباه الله بقدرة واسعة على تدبره، مما مكّنه من استخراج الكثير من الجواهر والدّرر الثاوية بين نصوصه.

كان د. يحيى من الرعيل الأول من الشباب الذين انتموا إلى الحركة الإصلاحية في اليمن منذ نعومة أظفارهم، وأسّس أول فريق إنشادي في تعز سنة 1977، وهو من جيل أ. محمد قحطان ومن أقرب أصدقائه إليه، حيث انخرطا مع آخرين في أنشطة شبابية عديدة شملت النشيد والتمثيل والرحلات، وظل وفياً لتلك الأخوة فعندما أعددنا في منتدى الفكر الإسلامي كتاباً عن محمد قحطان كان من أشد المتحمسين في مراحل إعداده وطباعته ومن أكثر المتفاعلين معه.

تعرّفتُ عليه أول مرة مع قريب لي في مدينة القاعدة وأنا طالب في أول ثانوي، وكان هو يعمل بدأب في عيادته في معالجة الأطفال، وكان يعالج الفقراء وما أكثرهم مجاناً، ولقد اكتسب من الأطفال براءتهم، حيث ظل بقلب طفل رغم أن عقله كان دوماً أكبر من سنه، ولذلك فقد حصد العديد من المراكز المتقدمة في مرحلة الحصاد الدراسي، حتى أنه كان من أوائل الجمهورية في الثانوية العامة!
كان كثير الصمت ولا يدري عامة الناس أن هذا ديدن الممتلئين بالعلم والمعرفة والمكتنزين لمكارم الأخلاق، فإن الإناء الفارغ أكثر جلَبة من الإناء الممتلئ، وكان عندما يصادف نقاشاً جادا في منتدى الفكر الإسلامي ينخرط بأفكاره التي تفاجئ المتخصصين، حسب موضوع النقاش، إن كان في الفكر أو الأصول أو الفقه أو العقيدة أو السياسة أو اللغة والأدب!

ورغم أنه كان يقبع في ما يشبه الإقامة الجبرية في صنعاء خلال فترة الانقلاب، إلا أن داعي: {وأَذِّنْ في الناس بالحَجّ} طرَق قلبه بقوة، فطار على أجنحة الشوق والتّوْق، يحدوه إيمانُه الذي ما خذله يوماً ولا ضعف عن إنجاده في أحلك الظروف، فقد كان يريد التطهر من أدرانه بالاغتسال من مياه الحَج،ّ وخدمة الخلْق عبر معالجة الحجيج، ولم يكن يدري أن المرضى سيعودون إلى بيوتهم ويذهب الطبيب إلى ربه!

لقد ذهب تحدوه الرغبة في المحافظة على حياة الحجيج، لكن الله اصطفاه للموت في أكناف بيته الحرام وفي أرض الحجيج، بعد أن انتهى من مناسك الحجّ، حتى يُبعث بين الخلائق بلباس الإحرام مُلبياً ، لما عَرف عنه ربُّه من بياض القلب ونصاعة الكتاب، ولما اتسم به من تلبية الأوامر واجتناب النواهي، ليس في محراب الشعائر فقط بل في محراب الشرائع والمشاعر، فما يزال يتقرب إلى الله بخدمة خلْقه وبحب الصالحين والانحياز إلى المتقين إلى أن قابل الرفيق الأعلى عند بيته المحرم.

إن مصابنا جلَلٌ في منتدى الفكر الإسلامي وفي وطننا عامة، بفقدان قامة سامقة بحجم د. يحيى الأهدل، فقد كان من القلائل الذين جمعوا بين الثقافة الموسوعية والأخلاق الرفيعة، لكن عزاءنا أنه التحق بالرفيق الأعلى في أفضل الأيام وفي أطهر البقاع، وبعد أن تطهّر من الذنوب التي لا يخلو منها إنسان، وعاد كيوم ولدته أُمُّه.
رحمه الله رحمة الأبرار، وبعثه مع عباده الأخيار، وعظّم الله أجر آله وإخوانه ومحبيه، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا فهو أرحم وأحنى منا بعبده، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تَفتنّا بعده.