السبت 23-11-2024 11:00:17 ص : 22 - جمادي الأول - 1446 هـ
آخر الاخبار
الجدلية السياسية في القرآن
بقلم/ عبدالعزيز العسالي
نشر منذ: 7 سنوات و 3 أشهر
الأربعاء 23 أغسطس-آب 2017 06:06 م
 

 

 

تمهيد:

-      في الحلقة الأولى حاولنا بلورة المفاهيم قدر الإمكان؛ ذلك أن بعضها واضح، وتوضيح الواضح إضاعة له.

-      ثم حاولنا في مقاربة استكشافية لمعالم الجدلية السياسية فوصلنا إلى أهم أولويات النبي موسى (عليه السلام) الفكرية لمعالجة الواقع، فوجدنا أولويات موسى تتمثل في التغيير والإصلاح من قمة السلطة.

غير أن تكالب القوى– ركائز الاستبداد حالت دون أي تقدم وكانت الفكرة– الإصلاح من قمة السلطة: تحمل بعدين فيما لو كتب لها النجاح، البعد الأول إقامة ملة التوحيد – إصلاح المعتقد لدى السلطة، والمجتمع.

البعد الثاني: وهو ملازم للأول وهو تحرير الأرواح، وإن شئت قل تنمية ثقافية للمجتمع لإكساب المجتمع مناعة ذاتيه متصلة بالعقيدة السليمة. هذه التنمية والتي ستأخذ فترةً ليست بالقليل، باختصار: كانت التنمية الثقافية المتصلة بجذور عقيدة التوحيد ستنعكس تحريراً للأجساد من الاستبداد – تحرير الأرواح + تشبع ثقافي يعطينا تحرير الأجساد من العبودية. غير أن هذه الطريقة (الإصلاح والتغيير من قمة السلطة) فشلت، وبالتالي: فالعسف والإذلال للشريحة المنكودة سيزداد ضراوة وقسوة، وهيهات أن تنجح فكرة العقيدة في تحرير الأرواح في ظل طغيان وصلت بشاعته إلى ذبح (أبناء الذين امنوا معه)، وهذا الإيمان ليس هو إيمان التوحيد، إنما هو فرح بني إسرائيل - المطحونين - بالخلاص من الظلم؛ حيث أصبح لهم ناطق باسم طائفتهم، فكانت ردة الطغيان أبشع؛ ذبح أطفال بني إسرائيل الفرحين والمؤمنين؟!

 

تحرير المجتمع

لنتأمل في قول الله هنا {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}.

هذا النص القرآني صريح الدلالة: أن موسى أدرك أن التغيير والإصلاح من أعلا، وكذا التغيير الثقافي الفكري الهادئ من الصعوبة بمكان، وعليه فالإجراء الثاني: سياسي اجتماعي (تحرير المجتمع)، ولكن كيف؟ سيكون بالحوار مع الطغيان وصولاً الى اتفاق سياسي يحصل منه بنو إسرائيل على حق الهجرة دون اعتراض، تاركين الممتلكات من منازل ومزارع وماشيه للطغيان، فتأتي لغة الطغيان المفسد في مواجهة رسول الحرية والتحرير {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}، انتبه تفكر في الخروج لا بالقوم فحسب بل أنت وحدك تعيش على ظهر أرضي وأنا الإله، وما لم تعلن اعترافك بألوهيتي فمصيرك السجن؟!

 

تهديد لرسول الحرية، واستعراض

{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ}.

هذا النص يعطينا طريقة المستبد المفسد كيف يستعرض قواه المادية والبهرج والمظاهر وصولاً إلى التعبير الشفهي وانتقاص وتحقير دعاة التغيير أمام المجتمع {انهم لشرذمة قليلون وانهم لنا لغائظون}، لماذا يغيظونكم وأنتم أصحاب القوة والنفوذ و.و؟!

الجواب:

{فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ}؟

2-    البحث عن سوابق مع إعلان الامتنان على دعاة تحرير المجتمع.

{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}، هل هذا جزاء المنعم المتفضل الذي رباك في بحبوحة ملكه، وغض الطرف عن جريمتك – قتل القبطي؟ فيأتي الرد المزلزل لتفكير الطاغي: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}؟!

ماذا تريد أيها المفسد؟ أتظن أنك بنعمتك كنت ستجعلني أحد أعوانك المجرمين؟! أم كنت تظن أنني سأسكت إزاء الظلم والعسف الذي تمارسه أنت وجندك ضد بني إسرائيل الضعفاء؟! إنني أعترف بفعلتي تجاه القبطي وكنت يومها ضالاً .. بحكم صغر سني أولاً، وعيشي في بيئتكم العفنة ثانياً، فما كان من جرم حدث هنا يعود الى مستنقعكم الموارى بالضلالة والفساد والطغيان والذي انعكس على سلوكي.

-على أنه من غرائب الطغاة المستبدين في كل زمان: يفعلون الأفاعيل والجرائم بالآلاف ثم يتجهون لتضخيم خطأ صدر من دعاة الحرية والتحرير. الأكثر غرابة أن الآلة الإعلامية المجرمة تمارس خداع الجماهير المطحونة، فتنقلب الجماهير مع الطاغي وتقف في وجه دعاة الحرية والتحرير، متناسية عيشها الذليل، وكأن الطاغي يمتلك الحق المطلق في إبادة شعب بكامله؟ إنها طبيعة النفوس التي استمرأت الذل؟ اسمع إليها وهي تقول يا موسى {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} يا موسى إنك لم تفعل لنا شيئاً؛ فالأذى هو بل قد ازداد بسببك، إنها لغة النفوس المحطمة المنحطة المنتكسة الشاربة طيلة عقود من مستنقع الذل، ها هي تتلذذ بما هي فيه من الذل ناقمة على من جاء لينتشلها من هوة الضعة والقهر والعسف صارخة: ماذا فعلت لنا غير مزيد من الإيذاء؟! إنها حطة – بكسر الحاء- تصيب المجتمعات المقهورة وتسيطر على إنسانيتها المهدورة ، فترى الخروج من عبوديتها الراسفة في أغلال الإهانة موتاً والبقاء في العبودية سعادة، هذه الحطة تكتسبها المجتمعات من دويبة (الجُعلان الخنفساء) التي تستمتع بالعيش في الأوحال والأقذار، فإذا صادف يوماً واشتمت عبير الورد أو وقعت عليها قطرة من مياه الورد تموت فوراً، وتنتعش في اللحظة إذا سقطت في الوحل، حتى ذهبت مثلاً بل حكمة (إنما الورد مضر بالجُعَل).

 

لا بديل عن قرار الخروج

3-    ظل موسى عند خيار الخروج – الهجرة من أرض مصر، واستمر الحوار مع الطغيان، فيظهر الطغيان شيئا من المرونة الصادرة عن الغرور والاستعلاء المتكئ على القوه – ركائز الاستبداد. فيعطي الخيار لرسول الحرية الناطق باسم الجماهير المطحونة قائلا له: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى}، يتظاهر الطاغي انه قد تسامح في أمور، انه أعطى موسى حق الاختيار للزمان وللمكان، وأيضاً مكاناً فيه الفريقان في مكان مستوٍ لا يمتاز جيش الطغيان بأي ميزة، هل يمكننا القول هنا إن الفرعون كان أفضل حالا من حكام اليوم؟ واللقاء سيكون لإثبات قوة السحر عند سحرة الطاغي وإبطال سحر موسى كما يصفه الطاغي.

4-    يظهر الطاغي هنا إنه قابل بالنتائج المترتبة عن هذا اللقاء اتكاءً على غروره وجهله.

5-    ويأتي الموعد ويلتقي الفريقان، ويظهر الطاغي تسامحاً آخر {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى}، وينتهي المشهد بفشل السحر والدجل والشعوذة، ويستسلم السحرة- عن خبرة وعلما تامّين أن عمل موسى ليس من السحر وانما شيُء يفوق السحر، وهذا التسليم من ذوي الاختصاص كان كافيا للطغيان أن يتراجع ولكن أنى للطغيان أن يفيق من غروره.. ها هو يرفض نتائج الحوار ويعلنها حرباً إجرامية تسفك فيها دماء العلماء- السحرة، وتقطع أعضاؤهم، ويصلبون!

 لم كل هذا؟ يرد الطغيان بلسان الحال لابد للعلم أن يقف في صفي، ثم ماذا أن التنكيل النازل بأهل العلم سببه أنهم (آمنو لداعية الحرية والتحرير).

{قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى}. 

إن الطغيان السياسي هنا لم يكتف باستعباد الأجساد بل أراد أن يستعبد القلوب والأرواح.

كيف تؤمنون له قبل ان تستأذنوني؟ {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى}!

نعم أولست ربكم الإله المتصرف فيكم؟ انا باقٍ؟! إنها لسان حال (من يرحل) هل نصف الإله المتسلط دوره فلكية كاملة .. معقول تقولون له يرحل؟

من الذي تجرأ على هذا؟ سبحان الله {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}!

إن الطغيان جعل من فرعون الأهرام يستعرض انه باقٍ كما جعل الفجور السياسي والطغيان المعاصر يقول (من يرحل؟) {.... كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.

 

الخلاصة:

-      تلك إطلالة صغيرة مقتضبة حول جدلية السياسة وتحرير الأرواح والمجتمعات.

-      قصة موسى..زاخرة بالمفاهيم السياسية والفكر السياسي – الاجتماع السياسي.

-      القرآن زاخر بعبارات ودلالات وإشارات بالمفاهيم والمضامين الجدلية السياسية أو الاجتماع السياسي، لكن الأمية الثقافية القادمة من العقلية الماضوية جعلت العقل الفقهي ذاوياً في أعماق وهاد التاريخ، ليلتقي مع المعنى الذي حذر منه القرآن وحمل عليه حملته الشعواء ضد العقول الحمارية {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.

-      إنه يعيش مع موتى القرون الغابرة.