الثلاثاء 03-12-2024 16:50:43 م : 2 - جمادي الثاني - 1446 هـ
آخر الاخبار
أساليب الجدل في القرآن (الحلقة2)
بقلم/ عبدالعزيز العسالي
نشر منذ: 7 سنوات و 3 أشهر و 16 يوماً
الخميس 17 أغسطس-آب 2017 07:55 م
  

ذكرنا في الحلقة الأولى أن أسلوب المنع يتجه إلى نقض المقدمات التي بنى بعض أصحابها عليها النتائج، غير أن أسلوب النقض ذاته يتجه إلى الدليل المباشر الذي يستخدمه المدعي لإثبات دعواه, وعززنا ذلك بعدد من الأمثلة الجزئية تحت كل أسلوب, وحذرنا أنه قد يحصل فيها التداخل غير أن الاصطلاح هنا يطلق على الغالب والأعم كما هو معروف.

وبالتالي فلكل مؤلف في الجدل اصطلاحه الخاصة, وفي النهاية يلتقون عند المعنى، ومن يطالع كتاب الطراز في علم الإعجاز ليحيى بن حمزة العلوي يجد هذا ماثلاُ مع الفارق بين العلمين – البلاغة والجدل طبعاً!

لكن لأن البلاغة بعض أساليبها هي وسائل يستخدمها الجدليون هنا تتشعب المصطلحات.

لنتأمل في هذه الأمثلة:

1 - قال الله عن محاجة الخليل إبراهيم مع قومه: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ۚ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (81) الأنعام

هذا النص بمفرده يحمل دلالات جدلية منطقية عدة:

أولها: أن إبراهيم استخدم مع قومه المنطق العقلي حيث اتجه أسلوبه الجدلي إلى نقض الدليل الذي يعتمده القوم وهو ضياء الشمس ودفؤها، وكذلك القمر بضوئه والاستهداء بالنجوم, فقد جعلوا هذه الفوائد دليلهم على عباد هذه المخلوقات, فاتجه إبراهيم علية السلام قائلاً إن هذه المخلوقات آفلة. إذاً الأفول والزوال يعطينا أن الشمس والقمر والنجوم خاضعون لقوة أخرى تديره وتحركه، فليس هو المعطي للضوء، وإنما هو مسخر لكم.

- لقد اتجه قوم إبراهيم إلى التهديد الأحمق: إن آلهتهم ستصيب إبراهيم بسوء – من كونها ستمنع ضوئها ودفئها؟

فقال: {كيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم}؟! من هو رسول الشمس إليكم ورسول القمر؟ عبادتكم هذه ليس لها دليل من العقل ولا من الوحي.

2 – {قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنطِقُونَ} (65) الانبياء

كانت إجابة إبراهيم صفعة منبهة لعقولهم إن كانوا يمتلكون عقولاً، لكنهم نكسوا على رؤوسهم حسب تعبير القرآن، {ثمَّ نُكِسُوا عَلَي رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنطِقُونَ} (65) الأنبياء

وهنا رد عليهم بعد تهافت دليلهم ومنطقهم {أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (67) الأنبياء

سنلاحظ أن إبراهيم اتجه لنقض الدليل، غير أن هذا الدليل ذاته لا يمتلكه المشركون ولا يحسنون بلورته، فاصطنع إبراهيم الحدث، مما جعل منه مقدمة كي يبنون عليها دليلاً حسب سخافاتهم – فعله كبيرهم {إسألوهم إن كانوا ينطقون} – مقدمة ، النتيجة وهي دليليهم – {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون}، فاتجه الخليل مباشرة إلى دليلهم فنقضه فكان دليل نقض، وكان أسلوب قلب وأسلوب إلزام في آن واحد {أف لكم ولما تعبدون}، أية سفاهة تعيشونها – كيف تنحته بيدك ثم تعبده؟

وصدق الله القائل {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (120) النحل

 إنه نبي المنطق العقلي الصارم في محاجته مع قومه ومع النمرود الذي ادعى انه يحيي ويميت، فجاء إبراهيم بدليل نقض – معادل ملازم لمن يملك الإحياء والإماتة فقال له: {فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} ؛ذلك أن الذي يحيي ويميت حقا هو الذي يدير حركة الأفلاك العلياء، فبهت الذي كفر.

3- ومن صيغ النقض التي استخدمها القرآن في منهجه الجدلي هذا الموقف {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً}الكهف4. ثم يكر على هذا القول الفج البالغ منتهي الوقاحة والسفاهة ودون فصل قائلا: {مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}(5) الكهف

- بدأ المنهج الجدلي كما هو في موضوعيته أنبئوني بعلم، هاتوا برهانكم، وانطلاقاً من هذه الموضوعية، نجد المنهج قد استخدم أسلوب النقض {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍّ}.

تقولون مالا تعلمون، أنتم تفترون على الله، ومن أظلم ممن افترى على الله؟! لم يكتف بهذا بل استخدم المنهج اللغوي البلاغي الحرفي والمفرد، والجرس الموسيقي الواهي الذي يدل على هشاشة وتفاهة وضعف وركاكة الاستدلال, حيث استخدم الأسلوب الحرفي والجملة الفعلية اللغوية المدوية في وجوههم على النحو التالي:

أ- مالهم به من علم، بل ولا لآبائهم. نقض دليلهم أنه قول قائم على غير علم.

ب- الجملة الفعلية كبرت فعل ماضي مبني للمجهول لم يسم فاعله؛ أي أنها كلمة لا تصدر من عاقل؛ إذ لا دليل عليها من وحي ولا من عقل (كبرت كلمة)، ولم يكتف بل أردفها بالقول: تخرج، وكأنه شيء ضخم مهول يتولد ويخرج بصعوبة بالغة؛ كون الخارج ذاته يعلم حاله أنه كذب (تخخ) التاء والخاء يشيران إلى التأفف من شيء قذر أراد أن ينزل تجاه الحنجرة فجاء بالجرس الحرفي "تخ" من أفواههم (تأمل الجرس) أفوا ....... انفتاح بلا ضابط (ههم) هاءان متتاليان يحملان (هه) بعد (أفوا) لازال الفم مفتوحاً (أفوا هه) وينتهي النفس هنا، والفم لازال مفتوحاً ..ثم يأتي حرف الميم الساكنة عقب هذه الفهاهة الجرسية الدالة على ضعف القول المفترى ث- تأتي (الميم) الساكنة تطبق الشفتين كأن الجرس الميمي هنا يقول: عيب وعار عليكم أغلقوا أفواهكم المفتوحة جراء هذه اللغة الركيكة المنعكسة على القول المفترى.

ج- لم يكتف الأسلوب اللغوي الجدلي بهذا وإنما أردف حرف (إن) المصدرية، وكان من الممكن يبدلها ب حرف مصدري هو (ما) لكن المقام لا يتناسب (مع ما)؛ لأن المقام يتطلب إطباق الفم إمعاناً في الإسكات.. إنه جرس ثقيل يعزر الإطباق!

3 128- سورة النحل الآية 111

4 5- سورة الكهف الآية 4

ح- ثم ينتقل إلى جملة فعلية (يقولون) وفيها (واوان) سمح للنفس أن يخرج عبرهما همساً يحمل نداءً للحسرة أن زوري أيتها الحسرة هذه العقول علها تفيق أو تتعقل؟

- أردف بأداة استثناء فيها إطباق وتنفيس (إلاّ كذبا) اللام من (إلاّ) فيه إطباق جزئي يتبعه الألف لتنفيس بسيط ليردفه بالمصدر الذي وصم موقف القائلين بلا علم انه افتراء (كذباااا)، والآن عد إلى النص وتأمل الأسلوب فاقرأ معي {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ الَّلَّه وَلَدًا} 4 {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍّ وَلَاَ لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إِلَّاَ كَذِبًا) 5

-4 ومما يتصل بهذا الصدد قول دعاة السلالة والتسيد الإبليسي إنهم العنصر المفضل على سائر الناس "أنا خير منه" يأتي أسلوب النقض التالي:

قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍّ وَأُنْثَى} مساواة في كل شيء وكرامة التقوى هي فضيلة أخروية.

وإذا كنتم تسلمون بان هذه النص حق فالجواب {فماذا بعد الحق إلا الضلال} (وحاشا الحكم العدل المنزه عن التناقض القائل عن كتابه) {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً}..

وعليه: فان دعوى السلالية والعنصرية هي من عند غير لله, كما أن المعصوم بالوحي يستحيل أن يقول بما يناقض الوحي..

5- سورة الكهف الآية 3