السبت 20-04-2024 02:29:51 ص : 11 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

أخطاء ثورية (الحلقة الثانية)

تفرق الصف الثوري وتعدد كياناته

الأحد 26 نوفمبر-تشرين الثاني 2017 الساعة 05 مساءً / الإصلاح نت - خاص/ ثابت الأحمدي

     

تناولنا في حلقة سابقة الأخطاء الثورية التي رافقت ثورتي 48 و62م في الشمال، وأيضا انقلاب 1955م وصولا إلى ثورة 2011م، على سبيل الإجمال، ونتكلم هنا عن الأخطاء الثورية التي صاحبت ثورة 62م في شمال الوطن، ودفع الجيل الثاني من جيل الثورة ثمن هذه الأخطاء ولا يزال. ومن هذه الأخطاء:

 

تفرق الصف الثوري وتعدد كياناته

لعل أكبر خلل رافق ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 62م هو تمزق الصف الثوري وتعدد كياناته من أول لحظة، وهو داء تصاب به عادة أغلب الثورات على تفاوت، ومنها ثورة 26 سبتمبر 62م، فقد انقسم الثوار ما بين راديكالي جذري بقيادة المشير السلال، رئيس الجمهورية، وتقليدي محافظ، برئاسة الزبيري والنعمان والشيخ الأحمر، وفريق ثالث ظهر بعد ذلك، سمي بفريق الدولة الإسلامية، ومن أبرزهم من تبقى من آل الوزير ومحمد الفسيل وطه مصطفى وآخرون. وكل هذه الثلاثة الفصائل جمهورية صادقة في ثوريتها ومناوئة للإمامة بقوة عدا شخصيات محدودة من فريق الدولة الإسلامية لا وزن لها بين القوم يومها، إلا أن صدق الموقف لا يكفي وحده ما لم يعززه تلاحم وتوحد سياسي عام مع الجميع، يقبل بالخلاف ويتحكم فيه، لا أن يرفضه أو يتخذ منه موقفا، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الخلاف متوقع؛ بل وطبيعي؛ ذلك لأن كل رجالات الثورة الذين صاروا على رأس الدولة وفي الصف الأول كانوا جميعا في الصف الثاني والثالث، خلال الحكم الإمامي قبل الثورة، وكانت تنقصهم خبرة إدارة الخلاف واحتواؤه، لأن بيت حميد الدين وشركائها من البيوتات الإمامية كانت ممسكة بكل شيء، وكان موظفو الدولة أيا كانت مناصبهم أشبه بالمديرين التنفيذيين لا أكثر، مهما كانت مناصبهم، فمن الصعب على أي مسؤول أن يقطع في أمر ما أو يدير مؤسسته دون الرجوع في كل صغيرة وكبيرة إلى الإمام لاستشارته. فعلى سبيل المثال لا أحد يستطيع التشكيك في صدق ووطنية كل من الرئيس عبدالله السلال الذي قبل المغامرة الكبرى أن يكون على رأس الثورة، وهو يعرف تبعات ذلك في حال فشلت الثورة، كما لا يستطيع أحد التشكيك في صدق وإخلاص وحميمية أبي الأحرار الشهيد محمد محمود الزبيري، وزير المعارف، ونائب رئيس الوزراء، وعضو مجلس الثورة الذي ناضل في سبيل الإصلاح السياسي وفي سبيل الجمهورية من مطلع الأربعينيات؛ ومع هذا فقد اختلف الاثنان خلافا حادا، إلى حد تأسيس كل طرف كيان خاص به، وإلى حد تبادل الاتهامات بالخيانة الوطنية بين الطرفين، كما أشار الزبيري في قصيدته الشهيرة "الكارثة" التي نظمها عام 64م، وهي القصيدة الوحيدة التي قالها بعد الثورة، كما أشار إلى ذلك البردوني، والتي يقول فيها مخاطبا الرئيس السلال، بعد صدور قانون "الطوارئ" الذي لم يرض به الزبيري ورفاقه، واعتبره استهدافا شخصيا له:

هذا هو السيف والميدان والفرس  واليوم من أمسه الرجعي ينبجس

ما أشبه الليلة الشنعاء ببارحة   مرت وأشنع من يهوى وينتكس

كأن وجه الدجى مِرآة كارثة    يرتد فيها لنا الماضي وينعكس

وكل من رام قهر الشعب متجه   لها يريد الهدى منها ويقتبس

يقلدون أفاعيل الإمام ولو    رأوه يرفس من صرعٍ به رفسوا

هذي القوانين رؤياه تعاودهم  قد ألبسوها لباس العصر والتبسوا

أحالت الحمل للمسكين يحمله  فيها يزمجر مزهوا ويفترس

 

روح الإمامة تجري في مشاعرهم  وإن تغيرت الأشكال والأُسُسُ

متى حكمتم بقانونٍ وقد قُتل الآلاف   أو سحقوا كالدود أو كُنِسوا

عار على صانع القانون يكتبه    وحُكمهُ في بحار الدم منغمس

كفى خداعا فعين الشعب صاخبة  والناس قد سئموا الرؤيا وقد يئسوا

والبدر في الجرف تحميه حماقتكم   وأنتم مثلما كنتم له حرسُ

لولاكم لم يقم بدر ولا حسن      ولم يعد لهما نبض ولا نفس

لم القوانين؟ فن الموت في يدكم    والحقد رائدكم والحق مرتكس

وأنتم عودة للأمس قد قُبر الــ   طغاة فيكم وعادوا بعدما اندرسوا

وأنتمُ طبعة للظلم ثانية           تداركت كل ما قد أهملوا ونسوا

إن شئتم فاقتلوا من ليس يعجبكم   أو من ترون له في قُربِكم دَنَس

ولتحرقونا بغاز كل ما أجتمع الــ أحرار أو فكروا في الرشد أو حدسوا

وعاتبوهم متى شئتم عتابكم الــ   طاغي إذا سعلوا في النوم أو عطسوا

من حظكم أن هول الأمس مستتر  عنكم وأن شعاع الشمس منطمس

وأن صوت الخراب الفظ أغنية    ترتاح أنفسكم منها وتأتنس

أوراقكم لشراء الشعب تذكرنا   ما باعه قسَسَ بالصك واختلسوا

أتنكرون عليهم بيع جنتهم؟       يا قوم لا تخدعونا كلكم قَسَسُ

قانونكم لاغتصاب الشعب مهزلة    كنزهة لإمامٍ مسه الهوسُ

والحكم بالغصب رجعي نقاومه   حتى ولو لبس الحكام ما لبسوا

ليس ذلك فحسب؛ بل لقد سعى الأخير إلى تأسيس حزب الله عام 1963م، وقد جمع إلى جانبه المقربين من أصدقائه كعبدالملك الطيب والشيخ الأحمر والشيخ الزنداني، بغرض تصحيح مسار الجمهورية من الداخل، وتخليصها من خصومها وأصدقائها حد قوله، رافضا التدخل المباشر من قبل الحكومة المصرية في الشؤون الداخلية، بل وفي كل صغيرة وكبيرة، ناقما على السلال السماح لهم بذلك، والواقع أن ذلك مما لا بد منه، لأن مصر عبدالناصر يومها هي التي أنقذت ثورة 26 سبتمبر من الثورة الإمامية المضادة ودعمت الشعب اليمني بكل ما تملك، ولولا الدعم المصري لما قامت للثورة قائمة، وهو ما لم يتفهمه الزبيري ورفاقه يومها، وعابوا على السلال ذلك، فخرج الزبيري من صنعاء مغاضبا باتجاه عمران، وقد أعلن: "إن اليمن لن تسترد كرامتها وعزتها إلا يوم يوجد بينها عشرات من المناضلين على الأقل يرضون بالجوع حتى الموت، وبالسجن حتى نهاية العمر، وبخراب البيوت حتى آخر حجر فيها، ويتقدمون إلى العمل الوطني على أساس النصر أو الموت". رافضا رفضا قاطعا تدخل المصريين في الشأن الداخلي، في الوقت الذي لم يستطع الرئيس السلال أن يتبني نفس موقف الزبيري بحكم منصبه، وبفضل الدعم المادي والمعنوي الذي يقدمه المصريون للثورة. من ناحية ثانية لم يكن شيوخ القبائل وعلى رأسهم الشيخ الأحمر والشيخ سنان أبو لحوم راضين عن مسلك السلال كتوجه، وإن لم يكونوا بنفس صدق وإخلاص الزبيري ومستوى تفكيره الكبير، لأنهم يستشفون عن بعد أن مصالحهم الخاصة ستتقوض في حال سيطرة العسكر وتحكمهم بكل شيء، صحيح أنهم جمهوريون، ومناضلون لكنهم يريدون جمهورية وفق مصالحهم الخاصة، فتعلقوا بالزبيري، مستغلين خلافه مع السلال، ودعموه حتى قضى نحبه وهو بصدد التأسيس لمؤتمر عمران المناوئ للسلال، والداعي لإصلاح الجمهورية، وقد انحرف مسارها. كل هذا الخلاف والاختلاف والصراع الحاد بين الفريق الجمهوري الواحد وفلول الإمامة لا تزال ممسكة بزناد بندقياتهم، ويحيطون بصنعاء من كل الجهات، تترقب الفرصة المواتية للانقضاض على الصف الجمهوري بكامله الراديكالي والمحافظ على حد سواء، وهو ما أجل مسألة الحسم لما يقارب ثماني سنوات إضافة إلى بعض العوامل الأخرى. وعلى الرغم من استشهاد الزبيري في ابريل 65م إلا أن تياره بقي بعد موته ممثلا في حكومة النعمان التي كانت أشبه ما يكون بالعزاء لأتباع الزبيري بعد استشهاده، لامتصاص غضبهم الذي تسعر بعد مقتل زعيمهم، ولم تلبث طويلا فقد قدم الأستاذ النعمان استقالته من منصبه بعد فترة وجيزة، وقد دب الخلاف بين تيار الزبيري نفسه بعد ترؤس نعمان للوزارة، إلى جانب خلافهم مع رفاقهم السبتمبريين "جناح السلال" وكانت فترة من أصعب الفترات السياسية في تاريخ اليمن وأكثرها اضطرابا، تكللت باستدعاء حكومة اليمن إلى القاهرة وسجنهم هناك لأكثر من عام، غادروا السجن عقب نكسة حزيران 67م، وعادوا جميعا إلا أن المشهد لا يزال نفسه حتى كان انقلاب خمسة نوفمبر 67م بعد أن تم توديع الرئيس السلال إلى الخارج، وإقصاء بعض المحسوبين عليه، ليبدأ فصل جديد ومرحلة جديدة سماها البردوني الجمهورية الثانية.

خلاصة الكلام.. كانت الجمهورية عقيدة الكل، بلا استثناء، إلا أن الجميع لا يملك الآلية الصحيحة لإدارتها، كما كانوا مفتقرين لفن إدارة الخلاف بين فريق العمل الواحد، بحكم محدودية خبراتهم السياسية السابقة، وفي الوقت الذي كانت تطحنهم خلافاتهم الداخلية في صنعاء كانت أعين الإمامة تتربص بهم من خارجها، فدفع الجميع الثمن، ولا يزال جيل اليوم يدفع الثمن أيضا؛ إذ لا يزال الخلاف نفسه داخل الصف الجمهوري الواحد..!