الجمعة 03-05-2024 07:45:12 ص : 24 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

بعد أن كانت اليمن إحدى قلاعه.. لماذا حارب الأئمة الاشتغال بعلم الحديث؟! (1-2)

الإثنين 21 ديسمبر-كانون الأول 2020 الساعة 05 مساءً / الإصلاح نت - خاص/ توفيق السامعي

طيلة تاريخها الإسلامي لم تمر اليمن بمرحلة تجهيل ومضايقات للمشتغلين بالعلوم المختلفة كما حصل للعلماء وخاصة علماء الحديث بعد تأسيس الإمامة الحديثة في القرن الحادي عشر الهجري على يد القاسم بن محمد وأبنائه وأحفاده من بعده.
أدرك الإماميون أبعاد علم الحديث وتعلمه فيما يدحض نظريتهم الإمامية من خلال تصحيح الأحاديث المكذوبة والموضوعة التي اختلقها الإماميون لتثبيت نظريتهم السلالية في الولاية وحكم البطنين، ورأوا في ذلك خطراً عليهم، فلجأوا إلى مضايقة المشتغلين بعلوم الحديث ومحاربتهم حرباً شعواء، قديماً وحديثاً.

حيث تذكر لنا المصادر التاريخية وبعض المؤرخين المنصفين من آل القاسم نفسه كثيراً من هذه الحروب والمضايقات المختلفة للعلماء الذين تعرضوا للسب والشتم والتحريض عليهم وصل حد القتل والاعتداء عليهم، وبلغ أيضاً حد النفي والتهجير ومنعهم من تحصيل علوم الحديث خاصة في مناطق شمال اليمن حينما كان الأئمة هم المسيطرين على البلاد الشمالية، وخلقوا عصبيات مذهبية وطائفية بلغت حد إلغاء الآخر تماماً ونسف مختلف العلوم.
ففي زمن المتوكل إسماعيل سنة 1052هـ بدأ الإماميون حربهم على السنة وعلى المشتغلين بعلوم الحديث، فقد روى المؤرخون أن المتوكل إسماعيل في الدولة القاسمية هو أول من استخدم الحديد والنار في نشر المذهب الهادوي بالقوة في كل مناطق ذمار وإب تحديداً؛ فحتى ذلك الزمن لم تكن ذمار قد تشيعت إلا شيئاً يسيراً، لكن بعد الخطوات الإرهابية للمتوكل إسماعيل نشر مذهبه فيها بكل قوة كونه كان قائداً عسكرياً ولم يكن ذا تحصيل علمي يذكر.
سمح المتوكل إسماعيل للمتعصبين من مذهبه بالتطاول على المذاهب الأخرى وعلى علومهم والطعن في علومهم ومصادرهم العلمية وخاصة علم الحديث وأمهاته وكذلك التطاول على العلماء وتهجيرهم أو إسكاتهم بالقوة.


فمن ذلك مثلاً ما قام به القاضي أحمد بن سعد الدين المسوري من إنشاء رسالة في الطعن في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم-، والرد لما جاء منها على ألسنة الرواة والمحدثين، وما أتوا به عن سيد المرسلين وخاتم النبيين، وقال: "وكل ما في الأمهات الست [يقصد كتب علوم الحديث] لا يحتج به وإنه كذب، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، يريدون أن يبدلوا كلام الله ورسوله، ويؤمنون ببعض الكتاب دون بعضه، وقد أجبت على هذه الرسالة، وأظهرت ما فيها من الغلط والغواية، وما توفيقي إلا بالله"( ).


وأوغلوا كثيراً في الطعن بكتب الحديث حتى أن "القاضي أحمد بن سعد الدين المسوري قد خرق إجماع الأمة –بمن فيهم الزيدية- في طعنه في كتب الحديث ورواته، والظاهر أن مكانته العلمية والسياسية منعت علماء عصره من الرد عليه، لكن المؤلف –رحمه الله– قد رد عليه لسعة علمه، وعدم خوفه من الجهلة والمتعصبين، وكونه من الأسرة الحاكمة"( ).
وكان من يشتغل بكتب الحديث أو عمل فيها من السنن عادته العامة، ورمته بالنصب؛ أي: بغض أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ربما أنزلت به أنواع الأذية والمحن.


وهذا هو السبب فيما وقع من الامتحان للعلامة المحدث عبدالرحمن الحيمي، وهو ما دفع العلامة حسن الجلال إلى الخروج من صنعاء إلى الجراف واعتزال الناس، ودفع العلامة المقبلي إلى الخروج من اليمن إلى مكة وبقائه بها حتى مات، وهو السبب في عزلة المؤلف وإهماله من قبل علماء ومؤرخي عصره، وهو السبب الذي حمل –قبل ذلك- العلامة محمد بن إبراهيم الوزير على اعتزال أهل عصره، وتوحشه في الفلوات وانقطاعه عن الناس، وهو السبب فيما نزل بعد ذلك بالعلامة محمد بن إسماعيل الأمير من المحن حتى كاد أن يقتل على منبر جامع صنعاء"( ).


حتى أن علم الحديث (السنة) مثلاً تم التضييق عليه من قبل الأئمة ولم يهملوه فحسب بل ذهبوا لمحاربته حتى لا تقوم للسنة قائمة وشجعوا الحرب عليه في تصنيف كتبهم المختلفة.
ولذلك شهد علم الحديث هجراناً كبيراً وتضييقاً بعد خروج الأتراك من اليمن الخروج الأول سنة 1045هـ، وضعف دولتهم قبل ذلك، وقد شهد على ذلك التضييق العلامة والمؤرخ يحيى بن الحسين بن القاسم على الرغم من أنه من بيت الإمام القاسم وحفيده.

 

أسباب ضعف علم الحديث
ويرجع ضعف تحصيل علوم الحديث في تلك الفترة إلى عدة أسباب رئيسية، ذكر منها الإمام الشوكاني سببين رئيسيين، كما في البدر الطالع، هما:
• الأول: الفقهاء الجامدون: قال -رحمه الله: وليس الذنب في معاداة من كان كذلك للعامة الذين لا تعلق لهم بشيء من المعارف العلمية؛ فإنهم أتباع كل ناعق، إذا قال لهم من له هيئة أهل العلم: إن هذا الأمر حق، قالوا: حق، وإن قال: باطل، قالوا: باطل، إنما الذنب لجماعة قرؤوا شيئاً من كتب الفقه ولم يمنعوا فيها ولا عرفوا غيرها، فظنوا -لقصورهم- أن المخالفة لشيء منها مخالفة للشريعة، بل القطعي من قطعياتها، مع أنهم يقرؤون في تلك الكتب مخالفة أكابر الأئمة وأصاغرهم لما هو مختار لمصنفها، ولكن لا يعقلون حقيقة، ولا يهتدون إلى طريقة؛( ) بل إذا بلغ بعض معاصريهم إلى رتبة الاجتهاد وخالف شيئاً باجتهاده جعلوه خارجاً عن الدين، والغالب عليهم أن ذلك ليس لمقاصد دينية، بل لمنافع دنيوية تظهر لمن تأملها، وهي أن يشيع في الناس أن من أنكر على أكابر العلماء ما خالف المذهب من اجتهاداتهم كان من خلص الشيعة الذابين عن مذهب الآل، وتكون تلك الشهرة مفيدة في الغالب لشيء من منافع الدنيا وفوائدها، فلا يزالون قائمين وثائرين في تخطئة أكابر العلماء ورميهم بالنصب ومخالفة أهل البيت، فتسمع ذلك العامة فتظنه حقاً، وتعظم ذلك المنكر؛ لأنه قد نفق على عقولها صدق قوله، وظنوه من المحامين عن مذهب الأئمة، ولو كشفوا عن الحقيقة لوجدوا ذلك المنكر هو المخالف لمذهب الأئمة من أهل البيت، بل الخارج عن إجماعهم؛ لأنهم جميعاً حرموا التقليد على من بلغ رتبة الاجتهاد، وأوجبوا عليه أن يجتهد رأي نفسه، ولم يخصوا ذلك بمسألة دون مسألة، ولكن المتعصب أعمى، والمقصر لا يهتدي إلى صواب، ولا يخرج عن معتقده إلا إذا كان من ذوي الألباب، مع أن مسألة تحريم التقليد على المجتهد هي محررة في الكتب هي مدارس صغار الطلبة فضلاً عن كبارهم، بل هي في أول بحث من مباحثها يتلقنها الصبيان وهم في المكتب( ).


• الثاني: سكوت العلماء ومداراتهم للعامة. قال الشوكاني: كان أهل العلم يخافون على أنفسهم ويحمون أعراضهم فيسكتون عن العامة، وكثير منهم كان يصوبهم مداراة لهم، وهذه الدسيسة هي الموجبة لاضطهاد علماء اليمن وتسلط العامة عليهم، وخمول ذكرهم وسقوط مراتبهم؛ لأنهم يكتمون الحق؛ فإذا تكلم به واحد منهم وثارت عليه العامة صانعوهم وداهنوهم، وأوهموهم أنهم على الصواب، فيتجرؤون بهذه الذريعة على وضع مقادير العلماء وهضم شأنهم، ولو تكلموا بالصواب أو نصروا من يتكلم به، أو عرفوا العامة إذا سألوهم الحق وزجروهم عن الاشتغال بما ليس من شأنهم، لكانوا يداً واحدة على الحق ولم يستطع العامة ومن يلتحق بهم من جهلة المتفقهة إثارة شيء من الفتن، فإنا لله وإنا إليه راجعون"( ).


• الثالث: أن الأئمة المتعصبين ومنهم المتوكل إسماعيل سمح للمتعصبين من مذهبه بالتطاول على المذاهب الأخرى وعلى علومهم والطعن في علومهم ومصادرهم العلمية وخاصة علم الحديث وأمهاته وكذلك التطاول على العلماء وتهجيرهم أو إسكاتهم بالقوة.
• الرابع: كواقع الحال هو أنه من كان من يشتغل بكتب الحديث أو عمل فيها من السنن عادته العامة، ورمته بالنصب؛ أي: بغض أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ربما أنزلت به أنواع الأذية والمحن.


وقد وصف الإمام الشوكاني ما وصل إليه حال ابن الأمير من الأذية في عصره لاشتغاله بهذا العلم، في البدر الطالع متحدثاً عن ما وصل إليه حال العلامة ابن الأمير من أهل عصره الإمامية: "وما زال في محن أهل عصره، وكانت العامة ترميه بالنصب، مستدلين على ذلك بكونه عاكفاً على الأمهات وسائر كتب الحديث عاملاً بما فيها، ومن صنع هذا الصنع رمته العامة بذلك، لا سيما إذا تظهر بفعل شيء من سنن الصلاة كرفع اليدين وضمهما ونحو ذلك، فإنهم ينفرون عنه ويعادونه، ولا يقيمون له وزناً، مع أنهم في جميع هذه الديار منتسبون إلى الإمام زيد بن علي، وهو من القائلين بمشروعية الرفع والضم، وكذلك ما زال الأئمة من الزيدية يقرؤون كتب الحديث الأمهات وغيرها منذ خرجت إلى اليمن، ونقلوها في مصنفاتهم الأول فالأول، لا ينكره إلا جاهل أو متجاهل"( ). ومن جملة ما اتفق لصاحب الترجمة [ابن الأمير] من الامتحانات أنه ما شاع عنه بلغ ذلك أهل جبل برط من ذوي محمد وذوي حسين وهم إذ ذاك جمرة اليمن الذين لا يقوم لهم قائم، فاجتمع أكابرهم ومن أعظم رؤسائهم حسن بن محمد العنسي البرطي وخرجوا على الإمام المهدي في جيوش عظيمة ووصلت منهم الكتب أنهم خارجون لنصرة المذهب وأن صاحب الترجمة قد كاد يهدمه، وأن الإمام مساعد له على ذلك، فترسل عليهم العلماء الذين لهم خبرة بالحق وأهله ورتبة في العلم فما أفاد وآخر الأمر جعل لهم الإمام زيادة في مقرراتهم قيل أنها نحو عشرين ألف قرش في كل عام فعادوا إلى ديارهم وتركوا الخروج لأنه لا مطمع لهم في غير الدنيا ولا يعرفون من الدين إلا رسوماً بل يخالفون ما هو من القطعيات كقطع ميراث النساء والتحاكم إلى الطاغوت واستحلال الدماء والأموال وليسوا من الدين في ورد ولا صدر"( ).


وتخيل أن تجيش الجيوش العظيمة ضد فرد واحد فقط من علماء اليمن بدعوى "أنه يريد هدم المذهب" فكيف بالجماعات والدول؟! وكل ذلك التحشيد من قبل تلك القبائل الجلفاء ليس غيرة على الدين وهم الجهلة به، لكن استخدمهم فقهاء الفتنة والتعصب المذهبي والطائفي في التحشيد وإثارة النعرات والفتن والاقتتال بين أبناء الوطن الواحد، وهو ما نبه إليه الشوكاني بقوله:
"ومن محن الدنيا أن هؤلاء الأشرار يدخلون صنعاء لمقررات لهم في كل سنة ويجتمع منهم ألوف مؤلفة فإذا رأوا من يعمل باجتهاده في الصلاة كأن يرفع يديه أو يضمها إلى صدره أو يتورك: أنكروا ذلك عليه وقد تحدث بسبب ذلك فتنة ويتجمعون ويذهبون إلى المساجد التي تقرأ فيها كتب الحديث على عالم من العلماء فيثيرون الفتن وكل ذلك بسبب شياطين الفقهاء ...وأما هؤلاء الأعراب الجفاة فأكثرهم لا يصلي ولا يصوم ولا يقوم بفرض من فروض الإسلام سوى الشهادتين على ما في لفظه بهما من عوج"( ).


ونتيجة لهذا التعصب الشديد عمد الإمام الناصر عبدالله بن حسن المولود سنة 1226هـ، والذي تتلمذ على الإمام أحمد بن علي السراجي والإمام حسين بن علي المؤيدي وغيرهم من أصحاب الزيغ والهوى، الذين تجرؤوا على سب الصحابة، بلغ تعصبهم وشدة كراهتهم لأهل السنة، أن قاموا بمحاولة نبش قبر الإمام الشوكاني، بهدف إحراق رفاته، وقد وقف العديد من العلماء وأهل الرأي ضد هذا العمل الأخرق والتصرف الأهوج، ومنعوا الإمام الرافضي الناصر عبدالله بن حسن وأتباعه الجهلة من تنفيذ جريمتهم( ).


لقد كان ابن الأمير في عصره إماماً من أئمة الحديث المشتغلين به المجددين له، ومع ذلك تعرض لمضايقات كثيرة وحروب شعواء من قبل الإمامة، وله قصيدة شعرية يتحدث فيها عن علم الحديث في عصره كيف كان غريباً محارباً وكيف أعاد له تجديده وألقه، فقال:
كان الحديث بأرضكم ... مستغرباً والله جدا
حتى نشرت فنونه ... وجلوت عنه ماتصدى
ولدرسه ولأخذه ... من بعدنا كل تصدى
وتنافس العلماء في ... كتب الحديث هوىً ووجدا
هذا بتنسيخ وذا ... بشرائها بالمال نقدا
ما قلت ذا فخراً ولا ... أرجو بنشر العلم جَدا
بل قلته متحدثاً ... بنعيم من أعطى وأجدى
بالله قل لي يا عذول ... علام تعذلني مجدا؟

كلمات دالّة

#اليمن #علم_الحديث