الثلاثاء 23-04-2024 17:46:03 م : 14 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

السلطة والقيود الواردة عليها.. دراسة مقاصدية

الأحد 28 يونيو-حزيران 2020 الساعة 09 مساءً / الإصلاح نت – خاص / عبدالعزيز العسالي

 

الإنسان مدني بطبعه..
موضوع وجود السلطة أو الدولة أو الإمارة هو في حقيقته أمر غريزي فطري إلى جانب كونه ثقافة مكتسبة بدءًا من نواة "المجتمع الأولى" وهي الأسرة، حيث يتربي الإنسان داخل الأسرة فالعشيرة فالقبيلة فالشعب على ثقافة مفادها: أن وجود سلطة ذات مرجعية ضابطة لتصرفاتها ضامنة لسلامة سيرها، يعتبر وسيلة ضرورية دنيوية اجتماعية بدهية مسلّمة، تساعد على استقامة حياة الاجتماع البشري.

ولهذا قال ابن خلدون رحمه الله، وتبعه فلاسفة الاجتماع، إن "الإنسان مدني بطبعه"، وبناء على هذه البدهية نجد:

1- أن القرآن الصادر عن خالق الإنسان العليم الحكيم لم يتحدث عن السلطة وشكلها ولا عن أهميتها ومكانتها ولا كيفية إقامتها، لأن من مقاصد القرآن هو الحكم فيما يختلف فيه الناس،
"كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه" (البقرة: 213).

بكلمة، القرآن حدد وظيفة السلطة، إنها القيام بالقسط.

2- القرآن العظيم حدد أربعة مقاصد مركزية، أو أسس كلية يجب أن تكون حاضرة عقيديا وتشريعا وسلوكا ثقافيا تمثلت فيما يلي: 

- مقصد مركزية "كرامة الإنسان"، لأن حكمة الله اقتضت استخلاف الإنسان لعمارة الأرض، "إني جاعل في الأرض خليفة".

- تكريم الخالق لهذا الإنسان الخليفة تمثل في نفخ الروح، وإسجاد الملائكة، والعلم، والعقل، وحرية الاختيار، وإنزال تشريع مقدس نص على قدسية كرامة الإنسان وحمايته.

- حدد القرآن لهذا الخليفة الغاية من خلقه أن يقوم بعمارة الأرض وفق منهج الله، "فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى".

3- حدد القرآن جذور فساد الاجتماع ومنابعه متمثلا في رفض العدل في الحكم وعدم الانقياد لهدي السماء الآمر بالقيام بالقسط.

4- حدد القرآن مصادر الانحراف وأسبابه متمثلا في التسيّد، والاستعلاء والفرعنة (عنصرية الملأ). إذن، الملأ يتنكبون الطريق كفرا بإنسانية الإنسان.

- كبر، تمرد، وانسلاخ عن القيم، اتباع للأهواء، ظلم، عسف، طغيان، تمزيق المجتمعات، عتو، اغترار بالقوة، والنتيجة: فساد مهلك للحرث والنسل.
 
حدد الغاية من إرسال الرسل وإنزال كل المرجعيات التشريعية - الكتاب والميزان "ليقوم الناس بالقسط".

5- حدد القرآن شريحة الملأ بصفات محددة واضحة، ومكثفة الدلالة بأن الملأ هم أعداء للعدل في الحكم والصادّون عن طريق الرسل قتلا، ونفيا، بل أن يقتلون كل من يأمرون بالقسط من الناس عبر التاريخ. انظر: آل عمران، الآية 21.

6 - رباعية الإفساد: 

- بصورة أكثر وضوحا وتوصيفا، حدد القرآن عوامل الطغيان والفساد والإفساد المدمّر للاجتماع الإنساني أنه قادم من رباعية سننية هي الزعامة، والترف، والنفاق، والإعلام - زعامة فرعون. 

- مالية قارون، كان من قوم موسى فبغى عليهم.
نفاق هامان - المثقف. 
- الإعلام المتمثل في السحرة، "فابعث في المدائن حاشرين".

يمكنك أيها القارئ دمج النوعين 3 و4 في جملة "مثقف عليم اللسان" وقد وردت في حديث أنه "منافق عليم اللسان".

 الخلاصة: الأمثلة التي أوردناها - على وجازتها: 

 - قد وضعت القارئ وجها لوجه مع جذور ومنابع الفساد المهلك للحرث والنسل- عنصرية، تسيد، علو، يقسم المجتمعات طبقات سادة وعبيد.

"أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون"؟.

- أدرك القارئ تسلط رباعية أو ثلاثية الفساد الذي تنكب الطريق القويم ابتداء، عكس الخط، مخالفا االتشريع، "فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى".
 
وتنكب الطريق أيضا في مواجهة الأنبياء قتلا، ونفيا، بل وقتل كل الذين يأمرون بالقسط من الناس.

السلطة وقيود القرآن: 

جاء القرآن العظيم ليضع العلاج الحاسم سننيا، فأنزل التشريع الخالد، واضعا البوصلة السننية أمام العقل الإنساني، موجها النداء المتضمن أمرا تشريعيا ملزم للمؤمنين به إيمانا وتسليما واتباعا لطريق الهدى، المتمثلة في التزام العمل بالسنن الحاكمة للاجتماع، حماية لكرامة الإنسان وقدسيته، فخاطبهم: يا أيها الذين آمنوا.. بل وخاطب غير المؤمنين ملفتا أنظارهم إلى بوصلة عقلانية: يا أيها الناس.. احترموا هذه التعاليم فهي سنن حامية للاجتماع من الطغيان والفساد المدمر للمجتمعات، فالتفتوا أيها الناس أنتم أمام توجهيات عقلانية تضع أقدامكم على الخط الأقوم، فالتزموا تلكم السنن فهي كفيلة بهدايتكم إلى الرشد المجتمعي، وعمارة الأرض. 
 
بصيغة أخرى، هذه تشريعات سننية هدفها حماية مصالح المجتمع، الذي هو صاحب المصلحة، وها قد أنزلنا إليكم تشريعا مقدسا هدفه تمكينكم من امتلاك السنن الحاكمة، كي تحموا كرامتكم وحقوقكم من المنسلخين عن القيم، والمتسلطين على الرقاب إشباعا لنزواتهم اتباعا لأهوائهم، فاحذروا ثلاثية الفساد أن تسرق أو تختلس هذه السنن الاجتماعية فيحوزونها لتكريس التحكم والظلم والطغيان. 
  
الكلية القرآنية الناظمة: 

إذا أردنا أن نفهم القرآن حقا، فلا بد أن نتعرف على جهازه المركزي الناظم للتشريع، لأن القرآن زاخر بالآيات التي ملّكت المجتمعات السنن الحاكمة للاجتماع، وبصيغ مختلفة، وحتى لا يتجه العقل البشري إلى تفسيرات عائمة لهذه السنن.

فقد حدد القرآن المقصد المركزي الناظم جاعلا منه "كلية ناظمة" هي "كرامة الإنسان" أولا، يجب أن يتقيد بها الجميع مسلمين وغير مسلمين، ثم ألزم الإنسان بعمارة الأرض وفق السنن التي سخرها الخالق العليم، "فمن اتبع هداي..." إلخ.

وعليه فإن أول سنن الحماية لمركزية كرامة الإنسان هي: 

1- حمايته من الطغيان السياسي والاجتماعي والديني، فشرع الشورى.
"وأمرهم شورى بينهم".
"أن أرسل معي بني إسرائيل ولا تعذبهم".

أقوى القربات إلى الله مطلقا، شرعها الله في فجر الدعوة، بأن أفضل القربات التي تعين الإنسان على اقتحام العقبة يوم الحساب متمثلة بانتشال كرامة الإنسان وتحريرها، "فلا اقتحم العقبة • وما أدراك ما العقبة • فك رقبة... " إلخ. 
تلك هي أس السنن، فما هي أبرز السنن التي تقيد السلطة؟

2- الله العليم لم يكل الأمة إلى إيمان الحاكم، وإن كان إيمانه مطلوبا لكنه لا يكفي، هكذا قضت حكمة العليم الخبير بتمليك المجتمع وسيلة تقليم أظافر الطغيان، حيث جعل "الشرعية السياسية" بيد الأمة، وستكون هذه أول القيم في سلم "بناء القيم السياسية".  

3- الشورى التنفيذية: 

الله يأمر المعصوم المؤيد بالوحي صلى الله عليه وسلم "وشاورهم في الأمر".

4- الرجوع إلى ذوي الاختصاص. 

الحياة لا تستقر على حال واحدة، فالأمن النفسي والمجتمعي والغذائي، والمنسلخون عن القيم عباد التسلط والشهوات والأهواء أعداء العدل عبر التاريخ يفجرونها حروبا، كل ذلك وغيره قطعا يلحق أضرارا بالإنسان فردا أو مجتمعا، وعليه يجب العودة إلى "أولي ذوي الاختصاص" سماهم القرآن أولي الأمر- الشأن والعلم، فهم القادرون على الاستنباط من أفق علمي منهجي متمرس ومسؤول يضع حماية مصالح الأمة، يسعون لجلب أقوى المصالح أو دفع أقوى المفاسد، عن المجتمع، أولا وأخيرا رافضين نزوة الفردية والمستبد الجلاد؟

5- الرقابة الشعبية ومكانة الرأي:  

"وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون".

هذه الآية واللاتي قبلها - وأمرهم شورى، وشاورهم في الأمر، والرد إلى المستنبطين - ذوي الاختصاص، هذه النصوص تدمغ كل متقول على الله ورسوله ممن يصدورن الفتاوى بأن الرأي حرام، هكذا حرام مطلقا، نعم يمكن القول الرأي حرام في جانب العقيدة والفرائض والحدود. 

6- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 

إذا لم يصرخ المجتمع أو مثقفوه إزاء المساس بالسنن الحاكمة أو للاجتماع، أو مصادمتها فاعلم أن المجتمع قد تعفن، لأنه افتقد أكسجين تجديد الحياة.
 
فسنة التشاور وإعمال العقل في التماس الأسباب تعتبر من أعظم السنن الحامية للمجتمع من الطغيان والظلم المؤذن بخراب العُمران (وطننا اليمني نموذجا).

7- فليقل "لا" بملء الفم

 "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم".

رضي الله عن الفاروق القائل: يعجبني الرجل إذا سيم حظه - أي إذا ظُلم- أن يقول بملء فيه "لا".. لا يقولها سرا.. رضي الله عنك يا عمر، كيف لا والآية نصت بمفهومها أن الله يحب المظلوم أن يجهر بالسوء من القول؟

تكليف المجتمع بممارسة الشورى: 
سنشير إجمالا خشية الإطالة، القرآن أمر المجتمع بممارسة الشورى بين الزوجين بشأن فطام الطفل، وفي مجال نشوز المرأة عن العرف السليم، وفي مجال نشوز الزوج على زوجته، وفي مجال قتل أرنب أو غزال الصادر عن الشخص المحرم للحج، فقال لا بد أن يحكم بالكفارة رجلان ذوا عدل، وهناك صيغ حجاجية أخرى تشنع على المجتمع الساكت.

وليس أخيرا، أرجو القارئ أن يعود إلى قصص القرآن متأملا دور الملأ. 

اكتفي بما سبق من القيود الواردة على السلطة انطلاقا من مقاصد القرآن، وسأعرّج سريعا بالقارئ الكريم ملفتا نظره نحو الروايات المخالفة للقرآن المكرسة للاستبداد والعنصرية والتسيد، آملا منه أن يقارن ويتساءل: هل من المعقول أن الرسول صلى الله عليه وسلم يناقض القرآن؟

أيضا، ينظر مقارنا دور الموروث الفكري في خذلان مقاصد القرآن والسنن الحاكمة للاجتماع الحامية للمجتمع من عوامل الفساد والتحلل القيمي سياسيا وكيف سقطنا في مستنقع اختنقنا فيه حضاريا، فهل مات الفقيه؟ هل السبب يعود إلى استفتاء موتى القرون الغابرة بحثا عن حلول لمحنتنا؟

كلمات دالّة

#اليمن