الخميس 25-04-2024 13:05:59 م : 16 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

مكانة الشورى.. بين مقاصد القرآن والتضحية بالشرعية (2-2)

الخميس 26 ديسمبر-كانون الأول 2019 الساعة 07 مساءً / الاصلاح نت-خاص- عبد العزيز العسالي
 

 


تنويه:

كانت الحلقة الأولى بعنوان "النقد الخالد".. وقد استعرضنا نظرية النقد الخالد وممارساتها وصورها المختلفة.. بدءا من شخصية المعصوم صلى الله عليه وسلم... إلخ.

وفي هذه الحلقة أزعم أنني ومن خلال تأملاتي في آي القرآن توصلت إلى أن القرآن العظيم قد أعطى مساحة واسعة لموضوع "الشورى" وليس في سورتي الشورى والنساء.. كما اشتهر عند حملة الفكر السياسي الإسلامي.

بل هناك صور مختلفة للشورى شملت جوانب مختلفة من الحياة وذلك على النحو التالي:

1- صفة تقريرية خبرية: (..وأمرهم شورى بينهم..).

هذه الصياغة الخبرية دلالتها أقوى عند علماء العربية.. كأن الله يقول إن مبدأ "الشورى" موضوع مفروغ منه.. وليس هناك أي مجال للنقاش.. هل الأمر للإلزام والوجوب أم للندب؟

2- أمر آخر ملفت للعقل وهو أن القرآن حسم موضوع الشورى في العهد المكي قبل تشريعات الصلاة والزكاة والصوم والحج والمعاملات والأسرة... إلخ.

هذا الحسم المبكر لحق الأمة يجعل العقلاء أمام عدد من التساؤلات إزاء هذا الموقف القرآني التشريعي المبكر.. ولعل السطور القادمة تحمل بعض الإجابات.

3- صيغة أمر مباشر: أمر مباشر للمعصوم صلى الله عليه وسلم: (وشاورهم في الأمر).. فالمشرع العليم لم يكتف بما سبق في العهد المكي.. فهو العليم بالألسن الملتوية التي ستقول كان هذا دعم نفسي في عهد الاستضعاف.. إلى غير ذلك.. لكنه سبحانه جاء بالأمر الصريح للمعصوم: شاور.. ولا تلتفت للأقوال.. إن ما حصل في أُحُد سببه الشورى والنزول عند الأغلبية.. فالمصيبة لها أسباب أخرى.. فاستمر في ممارسة الشورى.


4- الكشف على معالم للاجتماع السياسي:

هذه الصورة تكررت قرابة 17 مرة في القرآن حددت أعداء العدل وبدقة تفصيلية عجيبة عكست:

أ- عصر ما قبل الدولة، من عهد نوح إلى عهد إبراهيم (قال الملأ).

ب- عصر ما بعد الدولة.. إبراهيم والنمرود.. موسى وفرعون.. وجود (ملك وملأ حوله).

ج- رسخ القرآن في هذه الصورة ثقافة سننية مقاصدية في جانب علم الاجتماع السياسي، الهدف منها لفت نظر الأمة إلى معرفة "الذراع الحامل للظلم"، وكيف يجب على الأمة الوعي بهذه السنة وبالتالي المبادرة إلى امتلاك الأمة هذ الحق وأنها مصدر "الشرعية السياسية"، ولها أيضا حق المشاركة في
"الشورى التنفيذية" كون الأخيرة هي التجسيد العملي للشورى.. على أننا إذا تأملنا التاريخ الإسلامي كله.. سنجد أن النكبات التي حلت بأمة الإسلام طيلة 1400 عام سببها إهمالها للشورى التنفيذية.

علما بأن القرآن حسم دور الأمة في جانب الشورى التنفيذية.. ولم يكتف بذكر هذا الحق هكذا بإطلاق.. وإنما حدد نوعية العقليات التي تناقش القرارات التنفيذية.. إنهم ذوو الاختصاص يناقشون بجدية ومسؤولية هذه النوع من القرارات؛ إلجاما للصلف الفردي المتغطرس.. الذي تحكم بأخطر القرارات التنفيذية والتي دوخت الأمة عبر التاريخ فأوردتها الهاوية بل وأصبحت تشريعا.. لهذا فالله العليم قال: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الله والرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم..).. فمن هم أولو الأمر؟ وما هو
الاستنباط؟

إنهم أولو التخصص والتجارب الذين صقلتهم التجارب والمطلعون على كل جديد.. في كل مجالات الحياة.. والاستنباط هو:

- النظر في الحادثة أولا.. والنظر في التاريخ للمقارنة..

- تحديد أوجه الاختلاف بين الماضي والحاضر.

- تحديد السبب الأكثر تأثيرا في نشوء الحادثة الجديدة.

- اجتراح الحلول أي استنباطها من خلال تحليل دقيق صادر عن متخصصين وتوقع الآثار أي ردود الأفعال.. والمعوقات عند التطبيق.. وصولا إلى الحل الأمثل.

هذا هو الاستنباط.. وبطبيعة الحال أنه لن يصدر إلا عن ذوي مهارات.

5 - استخراج الدلالات الملزمة بممارسة الشورى:

- إلزام نظري وارد في القرآن.. وإهمال النظر والاعتقاد بهذا يعني أن الشورى هي أمر فطري.. كيف لا والله قد حاور بني أدم: (.. ألست بربكم قالوا بلى إن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين)..

إنها مشاورة لكل إنسان بلغ الرشد: (لا إكراه في الدين)..
هذا التشاور لم يات اعتباطا وإنما يعكس عمق الدلالة بأن الشورى أمر فطري.. ويرسخ فطرية الشورى أن:

- الله خاطب الملائكة: (إني جاعل في الأرض خليفة)... إلخ.. إنه يعلمنا نحن أمورا عدة منها كرامة الإنسان وحريته ومكانته وقيمة العلم والتخصص.. (أنبؤوني بأسماء هولاء).. وأن الإنسان سيكون أقوى قوة في الأرض.. فهل الجن والملائكة سيصنعون طائرات وأساطيل... إلخ.؟ إذن المستخلف هو الإنسان الذي ولد خصيصا لعمارة الأرض وفقا لمنهج الله.

- والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة.. الاستجابة لأداء الصلاة والزكاة عقد ملزم فكذلك الاستجابة للشورى عقد إيماني ملزم بالأخذ بسنن الله الكونية فهي قضاؤه وأمره وتشريعه.

- إلزام مقاصدي.. لأن النظر في أهداف ونتائج وغايات هذه السنة الحاكمة للاجتماع.. إيجابا تجاه الأمة، يكون قد وجب عليه الالتزام بهذا الأمر الرباني الذي يرسخ الحفاظ على كيان الأمة وأمنها واستقرارها وسلامها وتنميتها.

وكذلك من جهة التعامل السلبي مع هذه السنة.. فإن إهمال هذه السنة ليس عليها عقوبة أخروية مؤجلة إلى يوم القيامة.. وإنما عقوبتها عاجلة.. لأن الاستبداد والظلم مؤذنان بخراب العمران.. اليمن، ليبيا، سوريا... إلخ.. نموذجا..

- إلزام تشريعي آخر من خلال الاقتداء بمقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي جسد عمليا هذه السنة الكونية الحاكمة للاجتماع.. على جانبي:

أ- "الشرعية السياسة".. فلم يدخل صلى الله عليه وسلم المدينة إلا ببيعة.. ولم تستقر قدمه صلى الله عليه وسلم في المدينة حتى قرر تكوين الدستور المكتوب.. من خلال البطون العشائرية الساكنة في جغرافية المدينة.. عقد لا إكراه فيه.. تاركا للأمة ضمان صناعة حقوقها بيدها.. إنها صناعة القدر القادم من خلال هذه السنة الحاكمة للاجتماع.

ب- "الشورى التنفيذية".. حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته زاخرتان بالشورى التنفيذية وإن كان الجرح لا زال راعفا بالدماء يوم أحد.. جاءه الأمر بالمشاورة.. (وشاورهم في الأمر).

6- وردت صورة أخرى للشورى تحذر أمة القرآن من أن تقع في فخاخ الفردية المفسدة المستخفة بمكانة الإنسان خاصة والأمة عامة وبحملة قاسية تجاه عباد الطغيان من "الملأ".. (فاستخف قومه فأطاعوه).. لم هذا الانقياد المهين؟ إنهم كانوا قوما فاسقين.. فأف لهذه الجيف لا تستحق التخليد إلا في الأحاديث والأمثلة السالفة.. (فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين).. إنها سنة جبرية ماضية في العقوبة.. (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين).

7- صورة إيجابية راقية جمعت سنتي التشاور والتخصص: (يا أيها الملأ أفتوني في أمري...) إلخ.. قال الملأ ما لديهم.. وهي المرة الوحيدة في القرآن ورد فيها ذكر الملأ في سياق المدح.

فقدمت رؤية المتخصص ولم تتفرد بقرارها رغم حُنْكَة التجارب.. (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها).. إلى قوله: (وإني مرسلة إليهم بهدية..).

هذا العرض الرباني للموقف يدعونا إلى الممارسة المستهدية بتراكمات التجارب والاعتبار بالنتائج.

8- الشورى في الجانب الاجتماعي الأسري الخاص.

- القرآن دعا إلى التربية على الشورى ليرسخ ثقافة التشاور ولو كان موضوعها فطام الرضيع قبل اكتمال الحولين.. فقد يستجد أمر يستدعي اتخاذ قرار الفطام من أحد الزوحين.. لكن القرآن دعا إلى التشاور: (فإن أرادا فصالا عن تشاور..).

- صورة أخرى للتشاور عند خوف نشوز الزوجة أو الزوج.. ففي كلا الحالين (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها).. لم هذا التحكيم؟ إنها سنة إيجابية للتشاور حول الأصلح للأسرة.. إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما.. سبحانك يا رب.. لا تقل قدر الله.. أنت صانع القدر.

- (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو أعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما..).. يصلحا اثنان مصلحان هما الحكمان في الآية السابقة.. كل هذا رفضا للقرار الفردي الذي قد يدمر الأسرة.. فما القول بالفرد الذي دمر شعوبا؟

- عقوبة "المحرم" الذي قتل الصيد: من يحدد العقوبة ثمنية أو حيوانا بحجم الصيد المقتول؟ (فجزاؤه مثل ما قتل من النَّعم يحكم به ذوا عدل منكم..).. إنه العدل أولا.. ومصلحة الشخص المحكوم عليه.. حتى لا ينفرد بالقرار شخص فيجامل المخطئ أو يظلمه.. لا بد من ذوا عدل.. إنها صور للتشاور دعا القرآن إلى ممارستها.

- (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان..).. إنها من أقوى الصور الملفتة للعقل الحي تجاه التشاور.. وإلى دروس أخرى.. إن الحاكم هنا نبي الله داود عليه السلام.. حكم بالعدل قطعا.. لكن سليمان يسمع ويقرأ القضية من زاوية أخرى فيقدم حكما أكثر عدلا للطرفين.. (ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما)..
هنا تشاور.. هنا "النقد الخالد".. ولا ضير أن كان موضوع النقد نبيا معصوما..
هنا حكم ابتدائي وحكم استئنافي.

أمسك عنان القلم.. حول المساحة التي احتلها مبدأ الشورى في القرآن.

10- تسكين مبدأ الشورى:

بعد استعراض صور الشورى وأهدافها ونتائجها ولزوميتها... إلخ.. نريد تأصيلا شرعيا لمبدأ الشورى بعيدا عن التأصيل القاتل لهذا المنهج الرباني السنني الحاكم لسنن الاجتماع؟ نريد تأصيلا متينا رصينا يجترح حكما تشريعيا لهذه السنة الكونية أهدافا وغايات ويحدد المكان الشرعي لهذا المبدأ.. والذي يلزم منه تحديد الحكم الشرعي لهذه السنة الاجتماعية..

والسؤال هو: ما هي درجة الحكم التكليفي الشرعي لمبدأ الشورى؟
الجواب: مبدأ الشورى ورد في سياق السنن الحاكمة للاجتماع.. لأن أهدافه ونتائجه وغاياته وآثاره متصلة بسنن اجتماع الأمة مصلحة وخسارة.. وعليه فإن المكان التشريعي اللائق بمبدأ الشورى يجب تسكينه بين كليات الشرع الإسلامي المتمثلة في "المقاصد العامة للشريعة".. لأن الشورى بشقيها السياسي والتنفيذي هي أعظم وسيلة ضامنة لحقوق الأمة وحماية مصالحها ومقدراتها وثرواتها أرضا وإنسانا.

11- المعادلة القاتلة:

نريد الهروب من ذلك التقزيم التأصيلي القاتل لهذه السنة الحاكة للاجتماع.. ولسنا هنا بصدد تفاصيل التأصيل القاتل للشورى والعوامل التي كانت ولا زالت تؤتي ثمارها المُرٍَة حتى اللحظة وربما سنظل نتجرع ما لم تحالفنا الإفاقة من غيبوبتنا..

باختصار شديد، دخلت الأمة من وقت مبكر في حروب أدت إلى انقسام حاد داخل المجتمع.. تولد عن هذا الانقسام معادلةٌ قاتلةُ تمثلت في "التضحية بالشرعية" حفاظا على على وحدة الأمة ولو نزل بالأمة من الظلم أمثال جبال الدنيا فعليها الصبر والجزاء يوم القيامة.

نعم هذه هي المعادلة: التضحية بالشرعية السياسية.. والهدف هو وحدة الأمة.. وإذا تأمل العاقل بعين البصيرة سيجد أن:

أ- الفردية هي مصدر الطغيان والفساد وهي بيت الشر والدمار المجتمعي.

ب- أن التضحية بالشرعية أضاع الأمة كرامة وحقوقا وهيبة واستقرارا وسلاما وتنمية وحضارة.

ج- أن الأمة تمزقت وتشتت.. فلا وحدة الأمة قامت ولا الشرعية السياسية سلمت.. تلكم هي النتائج العنقودية والتي يتفرع عنها آلاف المحن.. وها هو الربيع الديمقراطي العربي لا زال مدويا والحل يبدأ من استعادة الشرعية السياسية للأم تأصيلا.. تنظيرا.. ممارسة.. شورى تنفيذية.

يسبق هذا وعي ثقافي مقاصدي.. فالحل في منهج الفقه المقاصدي الكفيل بمواكبة الواقع المعيش والخروج به من هذه الهوة السحيقة.. باختصار الثورة مستمرة.

كلمات دالّة

#اليمن