الجمعة 29-03-2024 04:33:56 ص : 19 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

النقد الخالد.. بين التقديس والتقدير

الإثنين 23 ديسمبر-كانون الأول 2019 الساعة 05 مساءً / الاصلاح نت-خاص- عبد العزيز العسالي

   

تنويه:

بعون الله وتوفيقه سيتم تناول موضوع "النقد الخالد" في حلقتين.. الحلقة الأولى محورها "النقد في القرآن مكانته وصوره".. والحلقة الثانية محورها "غياب النقد والنتائج المدمِّرة".

الحلقة الأولى:

أولا: تحديد المفاهيم:

- مصطلح النقد الذي نحن بصدد الحديث عنه هو من المصطلحات المعاصرة مفهوما ودلالة.. علما بأنه قد ورد مصطلح النقد في تراثنا الفكري ولكن في ميادين الأدب والشعر والفلسفة.

- موضوع النقد: النقد يتناول كل جوانب الحياة -قيميا وفلسفيا وفكريا وثقافيا واجتماعيا وسياسيا وتربويا... إلخ.

- مفهوم النقد بلغة فلسفة الاجتماع يعني: تقويم الاعوجاج وإصلاح وترميم الخدوش التي لحقت بالبناء المجتمعي.

- بلغة الفكر السنني يعني: حراسة القيم.. وتصويب التعاطي مع سنن الله الكونية في الكون والنفس والاجتماع.

- بلغة التوحيد روحيا وعقديا وتربويا يعني: الحرية.. والشجاعة الرامية إلى تقديس المبادئ.. وعدم تقديس الأشخاص.

- بلغة التشريع الإسلامي يعني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

- بلغة التزكية الإسلامية نفسيا وقلبيا للفرد والمجتمع يعني: حراسة الفضيلة.

- بلغة خير من نطق بالضاد - خذ على أيدي الفوضويين من خرق السفينة.

هدف النقد وغايته:

- الهدف هو:
- سلامة المجتمع من السقوط كما سيتضح لاحقا.
- تنمية الفاعلية عند الفرد والمجتمع وانتشال المجتمع من هوة التخلف والارتقاء به ثقافيا وحضاريا.

- الغاية هي: استقرار المجتمع، وبناء السلام، وإرساء أسس التنمية المستدامة وصولا إلى النهوض الحضاري والرفاه..

- مكانة النقد في نصوص القرآن:

من الزاوية السننية: النقد هو الوسيلة السننية (العملية المثلى) ذات الفاعلية الأقوى في تحفيز المجتمع نحو الرقي والنهوض الحضاري.

ومن الزاوية الظلالية لمفهوم النقد نجد أن النقد هو: مغالبة للسنن، وأنه كفيل بتوجيه الأقدار الكونية التوجيه الأمثل.. وبالمقابل ..فإن إهمال النقد ستكون نتائجه الكارثية قدرا جبريا لا مفر منها.. وأن مواجهة النتائج لا تجدي سوى تخفيفها لا غير.. والواقع المعيش خير برهان.

ومن الزاوية التشريعية:

يحتل النقد مكانة تشريعية تدل على أنه أمر تكليفي تعبدي تشريعي وأنه من سنن الله الحاكمة للاجتماع.. وأنه تشريع خالد أبدي بخلود القرآن.. ولهذا سميناه "النقد الخالد" وتركه أكثر خطورة من ترك إحدى الفرائض العينية.

من جهة أخرى، اقتضت حكمة الله العليم الحكيم الخبير أن يكون النقد الخالد في القرآن ليس مجرد تنظير.. وإنما جاء "ممارسة عملية" والناقد هو الله عز وجل، وموضوع النقد هو المعصوم صلى الله عليه وسلم.

التقدير غير التقديس:

كما اقتضت حكمة الله التشريعية أن ترسم لنا منهجا قيميا حضاريا مفاده أن النقد البناء لا ينافي التقدير والاحترام.. وأن النقد هو تصحيح للمسار وتصويب وإصلاح للخلل، ورفض لتقديس الأشخاص، كون التقديس للأشخاص ينافي حقيقة توحيد الله عزوجل.

نعم، هما كلمتان: تقدير وتقديس.. والاختلاف بينهما هو حرف واحد، لكن الفارق بين المدلولين كما بين السماء والأرض.

تعددت مجالات النقد الخالد في القرآن تربويا واجتماعيا وسياسيا وإداريا.. بدأت بشخص المعصوم صلى الله عليه وسلم، كما في الأمثلة التالية:

- (عبس وتولى).
- (لم تحرم ما أحل الله لك..).
- (.. وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه..).
- (عفى الله عنك لم أذنت لهم..).
- (ما كان لنبي أن يكون له أسرى...).

النقد الرباني يطال الصحابة:

- (.. تريدون عرض الدنيا..)؟
- (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم..).
(.. منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة..).
- (إذ تصعدون ولا تلوون على شيء والرسول يدعوكم في أخراكم..).

ثانيا: الرقابة الشعبية:

لم يكتف الخبير العليم في نقده الخالد للرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما فتح أفقا آخر للنقد، وشرعه بصورة أخرى ليكون وسيلة تقويم مجتمعي، وهو في ذات الوقت أقوى ذراع حاملة لقيم السلام المجتمعي وهذا يمثل أبرز الضمانات لحماية المجتمع.. قال تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون).

إذن هو تكليف شرعي تناول صورة أخرى للنقد في تكليف جماعي، والتعاطي السلبي مع هذه الصورة عقوبتها واضحة هي الطرد من حياة السلام.. (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل...) إلخ.. ولم هذه اللعنة؟ لأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه.. (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به..) في الدنيا.. تناحر تطاحن دمار.. (وهو في الآخرة من الخاسرين).

إذن الرقابة هنا ممارسة عملية نقدا وتقويما..

2- التواصي بالحق.. (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).

3- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. (كنتم خير أمة أخرجت للناس..).

هل هذه مكرمة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم كما يدعي البعض افتخارا على بقية الأمم؟

إن خيرية الأمة الواردة في النص مرتكزة على شروط لا تحابي أحدا، وفي طليعة هذه الشروط شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. هذه القيمة إذا جسدتها الأمة عمليا تكون قد وضعت قدمها على الدرجة الأولى من درجات الخيرية.. من جهة.. ومن جهة ثانية.. هذا التجسيد العملي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو صورة بارزة من صور النقد الخالد.

4- نخبة حارسة:

(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر...).

(فلولا كان من القرون أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين).

(وماكان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).

هذه ثلاثة نصوص كل منها تناول زاوية فتكاملت الدلالة حول ضرورة قيام "نخبة، كتلة حرجة، مجلس".

نخبة مثقفة تمارس "التخلية والتحلية" تحمل قيم التغيير إلى الأحسن بدلالة النص الأول (يدعون إلى الخير).. إنهم يدعون للتغيير نحو الأفضل دوما.. ودل النص الثاني على النهي عن الفساد..
(ينهون عن الفساد في الأرض).. إنهم يقفون سدا منيعا رفضا للسقوط القيمي المؤدي إلى السقوط الحضاري.. وهي صورة أخرى من صور النقد.

واقعية القرآن:

النص الثالث فيه دلالات أهمها:

- أن النقد الخالد القادم من لدن حكيم عليم جاء وقعيا موجها المجتمع أن يتعاطى مع السنن الكونية.. وكلما ارتفع منسوب الوعي السنني لديه يرتقي نحو المثل العليا..

- دل دلالة واضحة في غاية "الواقعية" وهي أن الله لا يهلك القرى بسبب ظلم.. بشرط أن يكون في المقابل ثلة من المصلحين داخل المجتمع.

فالمهم هو محاصرة الظلم والطغيان والفساد والإفساد.

- دل النص أن إزالة الفساد نهائيا ينافي سنة الله في "التدافع" والتي تهدف إلى بقاء حيوية المجتمع ذات فاعلية.. باختصار أن النقد الخالد هدفه تقليل الفساد وظهور الصلاح.

على أننا إذا تأملنا صورة من التعاطي السلبي مع النقد سنجد أن المجتمع سقط في هوة الانحطاط أسوأ من البهيمية انتهاكا للقيم.. (وتأتيهم النذر).. لكنهم يمارسون المنكر في النادي.. (وتأتون في ناديكم المنكر...).. وفي ذات الوقت يتبجحون بالقذارة.. (اخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون).. (أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد).

رحم الله البردوني لقد استلهم القرآن فقال:

لا تخافي لم يعد ذاك سرا
إن أقوى الرياح ريح القذارة

لقد انتشرت القذارة؛ لأن الكتلة الحرجة.. لأن النخبة المثقفة.. تلاشت.. وربما توحلت.. فسقط الجميع.

الخلاصة:

- "النقد الخالد" قد تجلى في القرآن تشريعا وتجسيدا وممارسة تجاه صاحب العصمة صلى الله عليه وسلم.

- يجب أن نعلم أن النقد والتقييم لا ينافي مكانة ومقام النبي صلى الله عليه وسلم فضلا عن غيره، بل هو دلالة على عظمة المشرع صلى الله عليه وسلم. وكذلك العظماء رواد الإصلاح عبر التاريخ، ذلك أن النكِرةَ من الناس لن يكون محل نقد.

- النقد للمعصوم صلى الله عليه وسلم وضع تشريعا ورسخ قيما حضارية أن النقد حياة المجتمعات.. كما أن النقد لغير المعصوم من باب أولى.

- حياة الأمة وحيويتها ونهوضها مرهون بالنقد العلمي الموضوعي البناء الذي يقدم البديل الأفضل.

صور النقد في القرآن أخذت أشكالا مختلفة.. أهمها محاربة الفساد ومحاصرته وتقليله.. وأن القضاء على الفساد تماما لن يحصل.. ولكن هذا هو من الأقدار التي يمكن للمجتمع أن يصنعها من خلال النقد الخالد رفضا للفساد والطغيان وحفاظا على السلام في المجتمع.

بعونه سبحانه نلتقي مع الحلقة الثانية ومحورها: غياب النقد ونتائجه المدمِّرة.

--------------------------
* عنوان الموضوع ورد في سياق مقابلة مع د. جاسم سلطان في اليوتيوب.

كلمات دالّة

#اليمن