الجمعة 29-03-2024 13:37:11 م : 19 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

الوحدة اليمنية والانفصال.. بين حقائق التاريخ وثوابت الجغرافيا (2-2)

الأحد 20 أكتوبر-تشرين الأول 2019 الساعة 09 مساءً / الإصلاح نت - خاص/ عبد السلام الغضباني

 

شكلت قضية الوحدة اليمنية أبرز محور للصراع بين اليمنيين خلال مرحلة التشطير التي أعقبت ثورتي 26 سبتمبر 1962 و14 أكتوبر 1963، بسبب الخلاف بين حكام الشطرين على شكل الدولة الجديدة ونظامها السياسي، وأسهم التباين الأيديولوجي بينهما في إذكاء الخلافات وتأخير حلم الوحدة الوطنية حتى حدثت متغيرات محلية ودولية ساعدت على الإعلان عن تحقيق الوحدة الوطنية عام 1990.

وبما أن الوحدة لم تقم على أسس قوية، ورافقتها الكثير من الاختلالات التي جعلت دولة الوحدة تبدو وكأنها برأسين مختلفين، بسبب احتفاظ حكام الشطرين سابقا بقواتهما العسكرية ووسائل الإعلام، وتوظيف ذلك في الصراع السياسي بينهما، وتعامل كل طرف منهما مع الوحدة وكأنها وسيلة للفيد وتحقيق المكاسب الخاصة، كل ذلك جعل العلاقة بينهما تتجه نحو الأسوأ، حتى وصلت إلى إعلان الانفصال ثم اندلاع الحرب الأهلية.

 

- أزمة حكام

لم تكن الوحدة اليمنية أزمة شعب، وإنما أزمة حكام، فقبل عام 1990 اختلفوا على شكل دولة الوحدة ونظامها السياسي، وبعد عام 1990 اختلفوا على "الكعكة"، ومثل هكذا خلافات ليس للشعب مصلحة فيها.

وبصرف النظر عن خلفية المحاولات الانفصالية التي شهدتها عدة مناطق في اليمن في التاريخ القديم والوسيط، لكن الانفصال في تاريخ اليمن المعاصر سببه الحكام، وكان الخطأ الرئيسي أنه تم الإعلان عن دولتين بهويتين مختلفتين بعد ثورتي سبتمبر وأكتوبر، ثم اتجهت كل دولة/شطر اتجاها آخر في خضم صراع بين المعسكرين الشرقي والغربي (الاشتراكية والرأسمالية)، وهو صراع لم يكن لليمن فيه ناقة ولا جمل، وإنما مسايرة للواقع الإقليمي والدولي الذي يجتر معه تبعات الحرب العالمية الثانية وما أفرزته من تحالفات دفعت المنطقة العربية ثمنا باهظا لها أكثر من أي منطقة أخرى في العالم.

وإذا تأملنا في دوافع محاولات الانفصال عن الدولة المركزية في تاريخ اليمن القديم والوسيط، سنجد أن الدوافع لم تكن بغرض رغبة كل قبيلة أو مجموعة في أن يكون لها دولتها الخاصة بها، وإنما كان بدافع الرغبة في إقامة دولة قوية منافسة للدولة التي سبقتها ثم ضم بقية الأراضي التي تحكمها وتوحيد البلاد مجددا، أي أن الانفصال لم يكن غاية، وإنما كان وسيلة لإقامة دولة جديدة وقوية ثم التحرك للقضاء التام على الدولة المنافسة ومحاولة توحيد البلاد كاملة مرة أخرى، ولعل هذا ما يفسر قيام دول على أنقاض أخرى في مراحل مختلفة من تاريخ اليمن.

واليوم يُحَرّف بعض الداعين للانفصال تاريخ البلاد، ويدعون بأن اليمن لم يشهد وحدة قط، أو الانفصال كان هو الأساس والوحدة هي الاستثناء، ثم وصل الأمر إلى إنكار "يمنية" جنوب البلاد، واستعارة تسمية طارئة أطلقتها عليه سلطات الاحتلال البريطاني لسلخ جنوب البلاد عن شمالها، بعد تزايد مطالب الإمام بأحقيته في حكم الجنوب، وظهور الحركة الوطنية في عدن الداعية لطرد الاحتلال البريطاني.

 

- تسمية "اليمن" ظهرت في الجنوب

وإذا تتبعنا أول ظهور لاسم "اليمن"، سنجد أن أول ظهور له كان في الجنوب، وهذا يمثل أبرز دليل تاريخي يدين من ينكرون "يمنية" الجنوب، ويتجاهلون حقائق التاريخ، ويسعون لطمس الهوية الوطنية وتحريف التاريخ، واستعارة تسمية طارئة (الجنوب العربي) لم يعترف بها اليمنيون قط لتسمية جزء من بلادهم.

لقد ظهر اسم "اليمن" لأول مرة في لقب التبع الحميري الأول شمر يهرعش في أواخر القرن الثالث الميلادي، عندما تمكن من توحيد الممالك اليمنية القديمة الثلاث المتبقية في عصره (حمير وسبأ وحضرموت)، وأطلق على نفسه هذا اللقب الملكي "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت (يمانة)".

ويرى كثير من المؤرخين أن المقصود بـ"يمانة" التي وردت في لقبه هي مناطق الساحل الجنوبي المطل على خليج عدن الممتد من باب المندب إلى بلاد عُمان، وهي تسمية مقابلة لتسمية تهمت "تهامة" التي أطلقت في النقوش على الساحل الغربي وما زالت إلى اليوم.

ثم ما لبثت تسمية يمنت "يمانة" -وفقا لأستاذ التاريخ بجامعة صنعاء الدكتور عبد الله أبو الغيث- أن امتدت تدريجياً نحو الشمال، لتصبح مع ظهور الإسلام تسمية جغرافية لكل بلاد جنوب الجزيرة العربية بصيغتها الحالية (اليمن)، وإن كانت نسبة اليمنيين إلى الصيغة القديمة (يمانة) ما زالت مستمرة إلى اليوم جنبا إلى جنب مع النسبة إلى اليمن بقولهم يمني ويماني، وهو ما جعل اسم "الشحر" يحل بدلا عن يمانة كتسمية لسواحل اليمن الجنوبية في العصور الإسلامية. ويذكر ابن خلدون في كتاب "العبر" أن لقب التبّع كان يطلق على الملك الحميري الذي تمتد سلطاته إلى حضرموت والشحر.

 

- محطات وحدوية

شهد اليمن عبر تاريخه الطويل محطات وحدوية مشهورة، ولولا الوحدة السياسية والاقتصادية لما قامت حضارات عظيمة في ذلك الوقت، ذلك لأن الحضارات لا تظهر إلا في دول موحدة، وقد تعددت جوانب الحضارة اليمنية القديمة لتشمل ظهور القراءة والكتابة واختراع خط المسند وصياغة القوانين، بالإضافة إلى إقامة السدود والمعابد وتدوين بعض الأحداث بالنقش على الجدران، وأيضا ظهور بعض الصناعات، وغير ذلك من أوجه الحضارة التي لا تقام إلا في دول مركزية موحدة قوية ومستقرة.

ويعد الملك السبئي كرب إل وتر موحد اليمن الأول، وأكثر ملوك سبأ شهرة، وجاء ذكره في النص الآشوري باسم "كريبي إيلو" الذي خطه الملك الآشوري "سنحاريب" في حوالي 685 قبل الميلاد، وتتحدث النقوش المسندية عن منجزاته العمرانية والاقتصادية ونشاطه العسكري لتوحيد البلاد.

كما عرف اليمن طوال تاريخه تطور كيانات وحدوية بداية من اتحاد أو تحالف القبائل الطوعي أو القسري، إلى تكوين دول وممالك تعرف وجود سلطة مركزية قوية، وكانت في أوج قوتها تمتد بسلطانها إلى كل جنوب الجزيرة العربية.

وبما أن الخلافات التي كانت تنشب بين اليمنيين تشكل دافعا للإمبراطوريات القائمة في ذلك الزمان بأن تستغل خلافاتهم وتحتل بلادهم، إلا أن تلك المحاولات كانت تشكل دافعا لليمنيين للتوحدة من جديد وطرد المحتل الأجنبي، وخاصة عندما غزا الأحباش اليمن، حيث تمكن الملك الحميري "شمر يهرعش" ووالده "ياسر يهنعم" من توحيد الكيانين السياسيين، سبأ وحمير، وتوحدت اليمن كاملة في عصر شمر يهرعش.

 

- أسعد الكامل وترسيخ الوحدة

وفي النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي، أكمل الملك أسعد الكامل ترسيخ وحدة اليمن، وصارت الدولة المركزية تعرف رسميا -بحسب النقوش القديمة- بدولة "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابهم في الجبال وتهامة". وهكذا استطاع الحميريون توحيد اليمن في دولة مركزية واحدة لمدة طويلة من الزمن، قبل أن تظهر الخلافات مرة أخرى، وتتسبب في بروز حالة من التمزق، ازدادت وتيرتها بعد أن قدم الأئمة الزيديون من بلاد الحجاز إلى اليمن، ونشروا الجهل والتخلف، وتسببوا في توقف التراكم الحضاري لليمنيين.

وجراء ذلك، ظهرت عدة دويلات منافسة لهم، وظلت البلاد في حالة حروب لا تنتهي بسببهم، طوال أكثر من ألف ومئة عام، واليوم يتسبب أحفادهم بإشعال نفس الحروب التي كانوا يشعلونها. أضف إلى ذلك الاختلالات التي رافقت إعلان إعادة تحقيق الوحدة الوطنية عام 1990، وتراكم أخطاء نظام الرئيس السابق علي صالح، وما أفرزته أخطاؤه من واقع سياسي أوصل البلاد إلى الوضع الذي تعيشه حاليا.

وزاد الطين بلة أن ظهر من يرى في الانفصال حلا لأزمة البلاد أو لجزء منها، ناكرا "يمنية" جزء كبير من البلاد، ومدعيا وجود فوارق اجتماعية بين الشمال والجنوب، لتدعيم مطالب الانفصال، مع أن مختلف الأزمات التي تشهدها البلاد حاليا لا علاقة لها بالوحدة أو الانفصال، وإنما تتعلق بفكرة الدولة ذاتها، وظهور مليشيات طائفية سلالية شمالا وأخرى مناطقية وعائلية جنوبا، تسعى إلى السلطة بوسائل غير مشروعة، وتمارس الاستبداد والكهنوت والطغيان بشكل لم يسبق أن شهده اليمن طوال تاريخه.

كلمات دالّة

#اليمن