الجمعة 29-03-2024 14:31:14 م : 19 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

إدارة التغيير في ضوء حاكمية سنن الاجتماع (2-3) .. مهددات إدارة التغيير

السبت 17 أغسطس-آب 2019 الساعة 08 مساءً / الاصلاح نت- خاص-أ. عبد العزيز العسالي

 

وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

الصراع هو إحدى محركات سنن الله في الاجتماع.

خلاصة الحلقة الأولى: ضرورة قيام كتلة لها أهدافها وبرنامجها وأهم أهدافها أنها لا تترك مصير مجتمع ما بعد الربيع العربي بيد السلطات.

وفي هذه الحلقة سنسلط الضوء حول أهم المهددات التي تواجه الربيع العربي، وهي مهددات إدارة التغيير وتتمثل في مجالين اثنين: الأول، مهددات ذاتية، والثاني، مهددات خارجية.

فما هي المهددات الذاتية؟
لا شك ولا ريب أن المهددات الذاتية أخطر بكثير من المهددات الخارجية، علما بأن المهددات الخارجية لا تنفذ إلا عبر ثغرات في الداخل.

فما هي المهددات الذاتية؟ الجواب: هي ضعف الوعي تجاه قضيتين خطيرتين وهما: ضعف ثقافة الوعي التاريخي، وضعف ثقافة الوعي بفلسفة سنن الاجتماع.

على أن ضعف الثقافة تجاه هاتين القضيتين الخطيرتين سرعان ما تأتي نتائجه الكارثية، وأول نتيجة قاتلة هي القبول بتحسين شروط العبودية.. هذه نتيجة ومهدد في آن.. مهدد للقادم.

ثم إن الضعف الثقافي الآنف الذكر له عشرات الآثار المدمرة، ومنها غياب التخطيط ووضع الأولويات،
وفي غياب التخطيط وتحديد الأولويات، تتجه الجهود إلى دائرة الاهتمام، وإغفال دائرة التأثير.

هنا يمكن القول إن جيل الثورة يكون قد فقد البوصلة. وفي ذات الوقت فالسلطات تنتهز الفرصة فتختلق إكراهات واقعية، فيتجه جيل الثورة إلى إطفاء الحرائق، وهذا قصارى ما يمتلكه نظرا للضعف الثقافي.

هكذا يزرع جيل التغيير وسائل ومهددات مدمرة بيده وهو يظن أنه قدم الخدمة الأرقى للمجتمع، والواقع صارخ بالأمثلة.

سأذكر شاهدا من مرآة الواقع اليمني الذي ظل ولا زال رازحا تحت سياسة إطفاء الحرائق التي اصطنعها الفجور السياسي، ثم يدعي الفجور أنه الطبيب الماهر الذي يداوي جراح المجتمع، ولولاه ما كان للشعب أن يأكل خبزا.

فلنقرأ في مرآة واقعنا اليمني وهو أستاذنا البردوني رحمه الله يقول في قصيدته "أغنية من خشب":

لماذا العدو القصي اقترب؟
لأن الحبيب القريب اغترب

لأن الفراغ اشتهى الامتلاء
فجاء بشيء سوى المرتقب

لأن المغني أحب كثيرا
كثيرا ولم يدرِ ماذا أحب؟

ويضني المغني يديه وفاه
وشيء يجلمد حس الطرب

وتمشي القوارب مقلوبة
وجئنا بأغنية من خشب

غاب الحبيب القريب، وهل تعمل الطبيعة في فراغ؟ اغترب حامل الراية فحلت مكانه الثورة المضادة، فقام الدخان مكان الضياء له ألف رأس وألفا ذنب.

الارتزاق والعمالات لها رؤوس وأذناب، العمالة الذيلية للغير داخليا وخارجيا، وهنا نلتقي مع السنة الاجتماعية الجبرية التي ذكرناها سابقا، وهي الدمار، وبالتالي تكون ضريبة التغلب عليها باهضة جدا، والسبب هو أن كل الخيارات أصبحت صعبة، والنتيجة هي الرضى بالتافه: تحسين شروط العبودية، لأن الدخان المصطنع لا يسمح بالتقاط الأنفاس.

مهدد آخر، هو النصر الاحتفالي، والمقصود هنا هو الانخداع بالحصول على بعض المكتسبات البسيطة التي تدغدغ عواطف العامة، وتأخذ انتشارا إعلاميا زائفا سرعان ما يتلاشى. وإليك أيها القارئ مثالا علـى النصر الاحتفالي نعلمه جميعا وهو صمت الرسول صلى الله عليه وسلم إزاء موقف أبي جندل الأسير، رضي اللّه عنه، يوم الحديبية.

وبالعودة إلى السطور، سنجد أن موقف الرسول صلى الله عليه وسلم كان صعبا لكنه يرسم للأجيال في تلك اللحظات أبعادا تعني السعي نحو تغيير قواعد اللعبة. نعم إنقاذ مسلم من الأسر يعد انتصارا، لكن أين هذا من نصر إستراتيجي بعيد المدى، نصت عليه الاتفاقية وأهمه وأبرزه اعتراف قريش بالرسول صلى الله عليه وسلم بأنه قوة ودولة، وهدنة عشر سنين.. إلخ البنود التي ستنعكس على مستقبل الدعوة بخيرات كثيرة، بل ستمكنه صلى الله عليه وسلم من تغيير قواعد اللعبة.

إنه نصر بطيء لكنه أكيد المفعول، ويكفي أن الله سماه فتحا مبينا.

وليس عجبا أن نجد أعقل الناس بحجم الفاروق يمتعض وأي امتعاض إزاء الموقف كما هو معلوم.

من هنا، اقترحنا ضرورة قيام كتلة حرجة عابرة للأجيال تمتلك عمقا ثقافيا وفكريا، كلما أراد جيل التغيير أن يذهب، يقوم بتسليم الراية للجيل التالي.

باختصار، من الضروة بمكان أن يمتلك شباب الكتلة الحرجة وعيا عميقا بثقافة التاريخ وفلسفة سنن الاجتماع.

كما أنه من المعلوم فكريا وثقافيا أن التاريخ هو أبو العلوم، وأن الفلسفة هي أم العلوم.

فإذا غاب الوعي بوالد العلوم وأمه، فهنا يأتي أب مزور ومعه خالة يجتمعان تحت مسمى غياب الوعي الفكري والثقافي.

وصدق البردوني:
لماذا العدو القصي اقترب؟
لأن الحبيب القريب اغترب!
لأن الفراغ اشتهى الامتلاء.. إلخ

إذن، أخطر المهددات الداخلية هو غياب الوعي بالتاريخ، والسنن الحاكمة للاجتماع. وكم كان صادقا ذلكم الحكيم المجرب الذي قال:

ما يبلغ الأعداء من جاهل
ما يبلغ الجاهل من نفسه

ولا يفوتنا في هذا المقام التذكير بأن من معالم الوعي بسنن الاجتماع الحاكمة، استثمار كل ذرات النصر، ويدخل في هذا الصدد استثمار الخوف الذي نقله الربيع العربي من مربع الشعوب إلى مربع السلطات.

لا شك ولا ريب أن صور استثمار النصر وسبله تتعدد، منها ما يتمثل في الخدمات المباشرة للمجتمع، ومنها رسم برامج تثقيفية عابرة للأجيال.

تلكم هي أهم المهددات الذاتية، فما هي المهددات الخارجية؟ هذا هو مضمون الحلقة الثالثة والأخيرة بعونه سبحانه.. إلى اللقاء.