الخميس 02-05-2024 19:42:31 م : 23 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

المسلمون بين نسيان الحظ ومعالم الخلاص (1 - 3) الحلقة الأولى: نسيان الحظ في القرآن.. المظاهر والحصائد (بنو إسرائيل نموذجا)

السبت 29 يونيو-حزيران 2019 الساعة 09 مساءً / الاصلاح نت-خاص/ عبد العزيز العسالي

 

 

مقدمة:

القرآن الكريم بتشريعه الخالد سجل لنا عوامل السقوط الحضاري والدمار المجتمعي، حيث احتلت عوامل السقوط الحضاري والدمار المجتمعي مساحة تقارب ثلث القرآن.

وأقرب برهان واضح الدلالة:

قصة موسى مع فرعون، فقد استعرضها القرآن 17 مرة بين إيجاز وإطناب، وفي كل مرة يشير القرآن إلى عامل فأكثر من عوامل السقوط الحضاري، ثم الدمار المجتمعي.

وبما أننا حددنا عنوان هذه الدراسة "المسلمون بين حصاد النسيان ومعالم الخلاص"، فقد تم تقسيم الدراسة إلى ثلاث حلقات متوسطة الحجم وذلك كالتالي:

- الحلقة الأولى: نسيان الحظ في القرآن.. التجليات والحصاد (بنو إسرائيل نموذجا).

- الحلقة الثانية: المسلمون ونسيان الحظ.. نظرات في تجليات النسيان.

- الحلقة الثالثة: حصائد النسيان ومعالم الخلاص.

 

الحلقة الأولى: نسيان الحظ في القرآن.. التجليات والحصاد (بنو إسرائيل نموذجا).

أشرنا آنفا أن عوامل السقوط الحضاري وعواقبه التدميرية احتلت حيزا واسعا في القرآن قارب الثلث، غير أننا سنقتصر في هذه الدراسة على نصين متتاليين أوردهما القرآن في سورتي المائدة متحدثا عن بني إسرائيل يهود ومسيحيين، حيث قال تعالى عن اليهود: "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكٍّروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم..."، إلخ (سورة المائدة : 13)

وعن المسيحيين قال سبحانه: "ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة..." (سورة المائدة : 14).

التعليق:

1ــ لقد تضمنت الآيتان السابقتان قضايا كثيرة، ومن أهم ما تضمنته الآية الأولى التشنيع على اليهود الذين تميزت تصرفاتهم بخسة نفوس وقلة أدب مع رسلهم وتشريعات العليم الحكيم الخبير بما يصلحهم، خسة نفوس ووقاحة عكست انحطاطا قيميا وحضاريا فظيعا تمثل في نقض الميثاق، اعتقادا ذهنيا وسلوكيا، علما بأن الميثاق هنا هو عقيدة التوحيد ولوازمها ومقتضياتها وأبعادها الإنسانية والحضارية، شعائر وتشريعا وقيما وسلوكا وتدينا جماعيا.

2ــ الأسوأ من خساسة نفوس اليهود هو جرأتهم الوقحة المتمثلة في إضفاء القداسة على أهوائهم ولجاجتهم أنها دين الله المنزل.

إذن، العاقل المتأمل في هذه الأخلاقيات المنحطة يجد غشا مركبا، كذبا على الله وكذبا على الذات، انظر كيف كذبوا على أنفسهم.

 3ــ ترتب على نقض الميثاق خطران اجتماعيان كبيران: الخطر الأول، أن هذا الانحراف لم يكن خطأ عابرا أو دون قصد، وإنما أصبح هذا السلوك الشائن منهجا تشريعيا وعرفا متبعا شرعنه أحبار اليهود ورهبانهم، فأصبحت شريعة موسى المستقيمة في حكم المنسي "نسوا حظا..."، وأصبح سلوكهم المنحرف هو المنهج المألوف، "إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل".

- أضحى الأحبار والرهبان آلهةً تعبد من دون الله لدى اليهود والنصارى، "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله"، لأنهم اعتبروا سخافات الأحبار والرهبان تشريعا مقدسا، فصودر دين الأمة ودنياها (مصالح وحقوق).

 

والخطر الثاني، الفساد شمل أغلب المجتمع بصورة عامة، بل إنه -وبمشاهدة عابرة في ذلك المجتمع- ترى خياناتٍ بارزة في جناب لله وحقوق الأمة، ولا شك ولا ريب أن تغول الخيانة في الأمة هو من أفتك الأمراض الاجتماعية التي تمزق جسد الأمة.

ــ الحصائد هي قسوة القلوب، وزيادة البعد عن الله، ثم اللعنة، وتحريف الكلم.

تلكم هي باختصار أهم تجليات نسيان الحظ عند اليهود، وتلك حصائده في الآية 13.

وماذا عن الآية 14 التي تتحدث عن المسيحيين، "ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة..."، إلخ؟

لقد انتقلت عدوى اليهود إلى النصارى، والعقوبة نتيجة سننية، هي إغراء العداوة والبغضاء، أي حروب مستمرة باستمرار الشرط وهو نقض الميثاق ونسيان الحظ المتمثل في الأبعاد الإنسانية والحضارية، أي التدين الجماعي والمجتمعي.

باختصار، نقض الميثاق ترتب عليه:

1ــ نسيان الحظ وملازمة العصيان، واعتقاد أن عصيانهم هو الأصل. أما الاستقامة فهي استثناء لمن يريد التعبد في الخلاص الفردي.

2ــ ترتب على النسيان بلادة القلوب وعدم ميلها للخير والنقاء والشفافية وإنما التوحل في الضلال. ثم إن البلادة القلبية هي مرض فردي ابتداء، ولكنها مرض جماعي انتهاء، نتائج وآثار.

3ــ العداوة والبغضاء والتناحر: الصراع والتناحر المجتمعي أخطر العقوبات، وأخطر من ذلك استمرار الصراع سنين بل وعقود، وقد يستمر إلى قيام الساعة باستمرار العوامل والأسباب.

قد يقال إن الواقع المعيش في أوروبا المسيحية مستقر، الأمر الذي يعني أن النص القرآني القائل: "وجعلنا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة..."، غير منسجم مع واقع أوروبا اليوم، فأين هي العداوة والبغضاء بين مجتمعات أوروبا؟ والجواب هو: إن القرآن الحكيم يلفت النظر إلى أن استمرار الحرب مرتبط بقيام سببها، فإذا تحقق سببها تحقق استمرار الحرب، فليس هناك استمرار للحرب دون سبب.

فالمقصد القرآني يعني وستبقى الحرب باستمرار وجود السبب المتصل بنسيان الحظ، والذي انحصر في التعصب المذهبي المقيت وصولا إلى إشعال الحروب التي أخذت غلافا دينيا وليس كذلك، وإنما انحرافات ولدت مذهبية ثم تعصبا فحروب، فإذا تركوا التعصب المذهبي انتهت الحروب.. تركوا التعصب فكان الاستقرار.

علما بأن الغرب بعد حربين لم يفق عقليا إلا بعد حروب انتهت بحربين عالميتين، فاستيقظ العقل الأوروبي وها هو حالهم اليوم أفضل حالا من أمتنا المسلمة، كون الغرب صار أكثر اقترابا من حظوظه وحقوقه داخليا، ذلك أنه أدرك السنن في النفس والاجتماع، حيث ترك التعصب فعم الاستقرار.. ترك التعصب يعني التزام سنن السلام والاستقرار الداخلية.

لكن الغرب المسيحي للأسف ظل في خط نسيان الحظ، حيث عمل ولا زال يعمل على تصدير إجرامه إلى الغير.

هذا التصدير الغربي للمشاكل إلى الغير هو أيضا تجسيد لنسيان الحظ، من زاوية أخرى كما نص عليه القرآن، "ليس علينا في الأميين سبيل".

فالرجل الأبيض هو الإنسان فقط عند الساسة الغربيين، أما غيرهم فليسوا بشرا، وليسوا أناسا، وليسوا مكرمين حتى يستحقوا العيش الكريم.

وهكذا كلما ابتعد العقل الغربي عن الدين والقيم، فإنه يصبح أكثر ضراوة وجشعا وطمعا وتشتد صراعاته وتتوسع حروبه تجاه من يسمونهم بالعالم الثالث والدول النامية تخديرا وتضليلا.

 

باختصار:

ــ إهدار الغرب لحقوق الآخرين، واستمرار تعصبه للباطل، هو عين المصادمة لسنن الله في الاختلاف، وحتما ستدور الدائرة السننية التي لا تحابي أحدا مهما تأخرت.

الخلاصة: واقع الغرب تجاه الآخر متطابق مع دلالة القرآن منطوقا ومفهوما.. إنه يوقد الحروب.

4ــ آمر آخر هو أن من يقرأ تاريخ أوروبا خلال 100 عام فقط، يجد صدق الآية وصحة فهمنا لها، حيث بلغ عدد حروب أوروبا بين عامي 1814 ـ 1914م (3200) حرب، بعضها داخل الدولة الواحدة، وبعضها مع جيرانها، وانتهت بالحرب العالمية الأولى والتي طالت مركز الدولة الإسلامية يومها (تركيا).

 5ــ لم يكن التعصب الديني المذهبي هو السبب الوحيد، وإنما حضر معه التعصب القومي أو العرقي المزعوم، هذه العرقية المقيتة هي التي مزقت أوروبا.

وأخيرا، اتفقت كبريات دول أوروبا باستعلاء ماكر وحصار خبيث ضد ألمانيا المتفوقة صناعيا، فكانت ردة الفعل الهتلري، تعصبا للجنس الألماني، أنه مختلف الدم عن سائر البشر.

ــ إذن امتد التعصب إلى المجال التجاري ولكن بقفازات مختلفة. وبعد حصاد قرابة 65 مليون مسيحي بأيدٍ مسيحية، خلال تلكم الحروب خلال 100 عام، والتي انتهت بالحرب العالمية الأولى، أفاق العقل الأوروبي إلى حد ما، ولم يمر سوى عامين فجاءت اتفاقية "سايكس بيكو" على تقسيم العالم العربي والإسلامي واحتلاله.

بكلمة، صدرت أوروبا محنتها إلى المسلمين. وبصيغة أكثر وضوحا، أفاق الغرب تجاه ذاته، لكنه انتكس ذاويا على أم رأسه تجاه الغير.. إنه نسيان الحظ والذي ستطاله سنن الله ما لم يتعقل مفكرو الغرب ومثقفوه.

 

الخلاصة:

كانت عقوبة نسيان الحظ عند اليهود والنصارى هي صراعا وحروبا شعواء، كما أن العقوبة قد لا تكون عقوبات وكوارث فقط، وإنما تكون إمدادا في الغي والطغيان، فهي سلوك وهي عقوبة معا.

تلك هي تجليات النسيان، وتلك هي حصائد نسيان الحظ عند بني إسرائيل بإيجاز شديد. فماذا عن نسيان الحظ عند المسلمين؟ هذا هو موضوع الحلقة الثانية.. نلتقي بعونه سبحانه.

كلمات دالّة

#المسلمون