الجمعة 26-04-2024 01:27:47 ص : 17 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

قيمنا الحضارية من فاعلية التوحيد إلى غيبوبة التدين..

(الحلقة الخامسة) القيم الحضارية هي سنن الله في النفس والاجتماع

الجمعة 24 مايو 2019 الساعة 11 مساءً / الإصلاح نت - خاص/ عبد العزيز العسالي
 

 

- الوحدة والانفصال

أولا: الوحدة

إذا تأملنا مكانة القيم الحضارية في آي القرآن العظيم سنجد أن:

1ــ القيم الحضارية الجماعية متلازمة مع عقيدة التوحيد في وحدة عضوية لا انفصال بينهما أبدا، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن القيم الحضارية هي سنن الله في النفس والاجتماع. وهذا تلازم عحيب، إن دل على شيء فإنما يدل على أن القرآن تنزيل من حكيم عليم، لطيف خبير.

2ــ يشهد لهذه الوحدة العضوية جل سور القرآن المكي والمدني.

3ــ بل إن هذا التلازم العضوي موجود على مستوى القيمة الحضارية المنفردة وبين عقيدة التوحيد.

مثال سريع:
قال تعالى: {ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون، ليوم عظيم}.

سلوك وجشع مشين غير حضاري بل فوضوي في جانب أساسيات عيش المجتمع، هذا الجشع جسد قيمة سلبية بالغة الضرر بالمجتمع، وسببها غياب عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر، {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون}.

وجه الدلالة: ضعف الإيمان بالله واليوم الآخر عند التجار يؤدى إلى ممارسة السلوك الإجرامي ذي العواقب المدمرة في العاجل والآجل.

4ــ الوحدة العضوية بين القيم والسنن وعقيدة التوحيد احتلت مساحة واسعة بين آي القرآن ملفتة للنظر من زاويتين: الأولى، ملازمة القيم الحضارية لعقيدة التوحيد، والثانية، أن القرآن وحّد بين القيم الحضارية وبين سنن الله في النفس والاجتماع، توحيداً وصل حد التماهي، فلا تكاد تجد فرقا بين القيمة الحضارية أو السنة الكونية أو المجتمعية.

وعليه، يمكننا القول إن هذه الوحدة العضوية بين القيم الحضارية والسنن الاجتماعية وبين العقيدة تعطينا دلالة قاطعة:

أ- أن القيم الحضارية هي الترجمة الذهنية والسلوكية لعقيدة التوحيد.

ب- أن القيم الحضارية هي سنن الله الحاكمة والمؤثرة باضطراد في الاجتماع البشري سلبا وإيجابا.

ج- أن القيم الحضارية وسنن الاجتماع هي قضاء الله الكوني وهي أوامر الله وتشريعه وأنها واجبة الاتباع.

د- أن عقوبة إهمال القيم الحضارية وسنن الاجتماع ليست أخروية وإنما هي عقوبات عاجلة تتعدد صورها وأشكالها.

ـ أبرز شاهد حي هو التخلف المزري الذي يعيشه مسلمو اليوم بعد ما تبوؤوا مكانة سامية بفضل عقيدة التوحيد والقيم الحضارية الإسلامية، وقد شهد لهذه الريادة خصوم الإسلام.

ونظرا للمساحة الواسعة التي احتلتها الوحدة العضوية بين القيم والعقيدة وسنن الاجتماع وتجنبا للإطالة، فإننا سنقتصر على إيراد مقطع كامل من سورة مكية (سورة الإسراء)، تتضمن 17 آية، من الآية 22 وحتى نهاية الآية 39.

على أننا سنقتصر على موطن الشاهد فقط على النحو التالي:

1ــ {لا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم مذموما مخذولا}. تأمل أيها القارئ كيف أن عقيدة التوحيد هي أساس القيم الحضارية.

2ــ الأمر الرباني الصارم بإفراد الله بالعبادة، {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه}. تضمنت قيمة المساواة، قيمة لازمة لا انفصال بينهما أبدا.

3ــ تلتها قيمة حضارية وسنة اجتماعية، {وبالوالدين إحسانا}.

4ــ إيتاء ذي القربى حقه والمسكين وابن السبيل، هذه قيمة حضارية، ثمرتها الحب والسلم الاجتماعي وهو الغاية التي يتمناها كل الحكام عبر العصور.

5ــ النهي عن التبذير، فهو من أخلاق الشياطين.

6ــ التواضع واللين، والقول الحسن، {فقل لهم قولا ميسورا}. وهل نسينا النهايات المفزعة للمتكبرين؟

7ــ النهي عن البخل والإسراف في آن، {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط}.

8ــ تحريم قتل الولد وأعقبه تحريم قتل النفس مطلقا، إلا أن يكون قصاصا بالحق. تحريم قتل النفس أيا كانت هذه النفس، فالدماء معصومة إلا ما خصه الدليل القاطع وبشروط في غاية الصرامة.

9ــ حماية الأعراض، {ولا تقربوا الزنى}.

10ــ الحفاظ على مال اليتيم، وإن كان الهدف تنميته وإصلاحه فهناك شروط، ذلك أن هذه القيمة الحضارية السننية إحدى مكونات السلام المجتمعي وترسيخ ثقافة السلام.

11ــ الوفاء بالوعد، وما أدراك ما الوعد؟ أليس الدمار والتخلف الحضاري والاجتماعي عربيا وإسلاميا قادم من نفاق الحكومات وكذبها ونقضها للعهود؟

12ــ الوفاء بالكيل والوزن العادل، ذلك أن الله أهلك قوم شعيب جزاء وفاقا لأنهم طففوا الكيل والوزن واستغلوا حاجات المجتمع.

13ــ النهي عن القول بغير علم. كم هم ضحايا هذا السلوك القيمي طبيا وصناعيا وتربويا وتشريعيا واقتصاديا... إلخ؟

14ــ النهي عن الكبر والاستعلاء على المستوى الفردي أو المجتمعي أو الدولي. من الذي يدمر العالم اليوم؟ أليست حضارة الاستكبار العالمي؟ {استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}. ولن تجد لسنة الله تحويلا ولا تبديلا.

لكن رسول القيم يدخل مكة ويكاد ذقنه يلامس قتب الناقة تواضعا.

15ــ ما سبق ذكره من قيم هو وحي الله وهو الحكمة السننية وهي القيم الحضارية الناظمة لسير المجتمعات، {ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة}.

16ــ انتهى المقطع بما ابتدأ به، انتهى بعقيدة التوحيد. وهذا يجعلنا ننظر بإكبار وإجلال للقيم الحضارية في الإسلام كونها أحيطت بسياج عقدي ضامن لعطائها المستمر ووحدة عضوية وصلت حد التماهي، الأمر الذي يعني أننا أمام عقيدة وقيم وسنن ترشدنا إلى تعبد مطلق في كل جوانب الحياة، عمارة للدنيا والآخرة في محراب الكون والحياة.

ثانيا: الانفصال

كيف حصل الانفصال بين القيم الحضارية والسنن الكونية وعقيدة التوحيد؟

تحدثنا في الحلقة الثانية عن هذا الانفصال متى بدأ وكيف؟ أنصح القارئ بالعودة إلى الحلقة 2 ـ 3.

قلنا هناك إن البداية كانت هي الانحراف عن العقيدة، تمثل ذلك الانحراف في التبرير للظالم المفسد بأن إجرامه وفساده "قدر رباني" لا مهرب منه، والحاكم الظالم المفسد هو أداة لا إرادة لها. هذا هو أساس الانحراف لدى بعض من سيحملون شعار أهل السنة، مع الأسف الشديد.

تلاه انحراف "شيعي" بالمقابل تمثل في إدخال تنصيب الحاكم بين أصول الدين، وأن الحكم هو حق سماوي مكتسب من الرحم السلالي قرشيا وهاشميا وفاطميا.

النتيحة: الكذب والدس على النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك عندما عجزت يد الظالمين عن تحريف آي القرآن.

تمثل الكذب في التالي:
ــ إدخال عقيدة الجبر بين أركان عقيدة الإيمان تحت مصطلح الإيمان بالقدر، حيث ورد هذا في حديث الفاروق أن جبريل جاء وسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام والإيمان والإحسان... إلخ، تضمن هذا الحديث ركن الإيمان بالقدر كركن سادس بين أركان عقيدة الإيمان.

هذه الزيادة في منهج الأصوليين، أولا:

1ــ اتفق العلماء قاطبة أن العقائد لا تثبت إلا بدليل قطعي الثبوت والدلالة أو برواية أحادية لها شاهد من القرآن أو مقاصد الشريعة، وهذا الحديث لا تنطبق عليه هذه الشروط.

2ــ مفهوم القدر الوارد في القرآن مختلف تماما عن المفهوم الجبري الذي استخدمه الحكام، ذلك أن مصطلح القدر الوارد في القرآن ليس له أي علاقة بالجبر لا من قريب ولا من بعيد، لكن سيف السياسة خلط بين القضاء الكوني والجبر السياسي فالتبس الأمر.

3ـ مفهوم القدر الوارد في القرآن هو سنن الله الكونية في النفس والاجتماع لا غير.

4ــ ورد حديثان متفق عليهما عند البخاري رقم 50 في كتاب الإيمان، وعند مسلم برقم 106 كتاب الإيمان، كلاهما من رواية أبي هربرة أن جبريل سأل الرسول صلى الله عليه وسلم... إلخ، لكن هذين الحديثين لا وجود لذكر "القدر" فيهما، ولولا خشية الإطالة لأوردناهما، واكتفينا هنا بذكر رقمي الحديثين لمن يريد التأكد.

5ــ المنهج الأصولي يقدم ما اتفق عليه البخاري ومسلم كون هذا الاتفاق أقوى من رواية البخاري متفردا.

6ــ هناك قاعدة عن الفقهاء المتآخرين مفادها أن الزيادة من الثقة مقبولة، يعني رواية عمر في البخاري فيها زيادة الإيمان بالقدر وهذه الزيادة مقبولة لأنها صادرة عن ثقة.

7ــ منهج الأصوليين المتقدمين لا يقبل الزيادة من الثقة مهما صحت سواء خالفت ما هو أقوى أم لا، وهذا مذهب أحمد بن حنبل وابن معين وابن المديني وغيرهم.

8ــ فريق من متقدمي الأصوليين قالوا الزيادة من الثقة تقبل بشرط أن لا تصادم ما هو أقوى منها كمخالفة القرآن أو حديث متواتر.

وعليه، فإن زيادة ركن القدر خالفت القرآن وخالفت روايتين متفق عليهما وخالفت المتفق عليه في منهج الأصوليين أن العقائد لا تقوم على الآحاد.

الخلاصة:

ــ الفقهاء المتأخرون من القرن الخامس وما بعده اعتمدوا ركن القدر وأغفلوا الشروط الأصولية التي ذكرناها.

ــ جاء التصوف الفلسفي وسيطر على مراكز التوجيه والتزكية وصدر قرار عالٍ بعدم اعتماد أي إجازة فقهية لفقيه إلا بعد حصوله على "مرقعة" صوفية.

ــ أصبح الفقه ينتج عقيدة الجبر باسم القدر.

النتيحة:

1ــ انفصال القيم الحضارية والسنن الكونية عن العقيدة.

2ــ انفصال الأخلاق عن العقيدة وأصبح الحديث عن الأخلاق من الأمور الكمالية.

3ــ أصبح التأخر والتخلف والظلم كله قدر الله الذي لا مفر منه.

4ــ انحصر مفهوم عقيدة التوحيد في بعد واحد وهو ترك عبادة الأصنام الحجرية.

5ــ حلت الأصنام البشرية والوثنية السياسية والفردية وغاب حق الأمة في الشورى التي صارت شكليةً باهتةً لا تقدم ولا تؤخر.

6ــ الحكم للمتغلب: هذه ردة فعل سننية طبيعية في مواجهة احتكار الحكم باسم السماء في سلالة.

7- أصبح القتل والصراعات على الحكم هو قدر الله وهذا انحراف جر على الأمة عقيدة وسلوكا أنواعا من الويلات.

8ــ تعطيل الشورى كسنة اجتماعية انعكس على إهمال بقية السنن في النفس والاجتماع.

9ــ أصبح التصوف الفلسفي ينكر دور السنن التي جعلها الله مصدرا لحيوية إعمار الأرض قائلا: اترك الأسباب واتجه إلى خالق الأسباب وأن الأخذ بالأسباب شرك.

إذن دخلنا في إرهاب فكري صادر من مراكز الفكر والفقه والثقافة والتربية.

10- أصبحت القيم الحضارية تمارس تحت شعب الإيمان ذات الخلاص الفردي فظل المسلم يعمل كترس منفرد بعيدا عن القيم الحضارية الجماعية.

هكذا حصل الانفصال بين القيم الحضارية الجماعية والسنن الكونية وبين عقيدة التوحيد.

ما العمل؟ من أين نبدأ؟ الجواب على هذا هو موضوع الحلقة السادسة والأخيرة بعونه سبحانه.

كلمات دالّة

#الاسلام #الحضارة