الجمعة 19-04-2024 04:14:23 ص : 10 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

قيمنا الحضارية.. من فاعلية التوحيد إلى غيبوبة التدين الحضاري

الحلقة الثالثة: الحضارة الإسلامية وإمكانية استئناف فاعلية العطاء

الخميس 16 مايو 2019 الساعة 11 مساءً / الإصلاح نت - خاص - عبد العزيز العسالي

 

عرفنا في الحلقة الثانية السبب الأبرز الذي أدى إلى توقف العقيدة الإسلامية عن العطاء الحضاري في الجانب النظري، حيث تمثل هذا السبب في الانحراف عن العقيدة، أي تم إدخال أشياء في العقيدة ليس منها.

وعرفنا أن عطاء قيم التدين الحضاري الفردي استمر طيلة ألف عام تقريبا، والفضل هنا يعود إلى تأثير العقيدة في سلوك المسلم أولا وقلة وظائف الدولة ثانيا.

وعرفنا أن الأمة الإسلامية واجهت منعطفا تاريخيا وثقافيا وحضاريا وافدا، مختلفا تماما، منطلقا وأهدافا وثقافة ووسائل، منعطفا حمل في طياته ثقافة التمرد الحداثي عن كل ما هو قديم.

هنا أفاقت الأمة الإسلامية من نومها باحثة عن مصدر فاعلية عطاء قيمها الحضارية، فوجدت أن قيمها الحضارية الجماعية مرتبطة بصراعات القرون الغابرة، الأمر الذي أحدث إرباكا للفكر والعقل المسلم فازداد العقل المسلم حيرة وتخبطا، فالتمس التغيير في عدد من المناهج الوضعية تقليدا للوافد، واتجه العقل المحافظ إلى التمسك بالموروث.

وهكذا دخلت الأمة في تيهٍ خلال قرن وخمس القرن، سلكت دروبا أفضت بها إلى اللاشيء.

تعددت مشاريع الإنقاذ الإسلامية، وكل مشروع انطلق من زاوية رأى أنها المفتاح، فالأفغاني طالب بالثورة السياسية، والشيخ محمد عبده قال إن المخرج هو التربية والتعليم ومحاربة الخرافة، والشيخ رشيد رضا قال لا بد من إعادة التأصيل المقاصدي، ومثله علال الفاسي وآخرون.

حسن البنا حاول الجمع بين التربية الإيمانية (الأرقمية) والإعداد، لكن منطلقه كان إحياء التدين والجهاد، لكن تشخيص الخلل لم يحصل وربما تركه للجيل القادم.

الفاضل بن عاشور، رحمه الله، التقط فكرة ابن خلدون الذي قال إن السبب الذي أدى إلى توقف عطاء الحضارة الإسلامية هو الانحراف عن العقيدة، موضحا أن تحول الحكم الإسلامي إلى ملك وراثي هو "عَرَضٌُ" وليس أُساس المرض.

قدم الفاضل بن عاشور توصيفا لعقيدة المسلم المعاصر وأنه يعيش فصاما، فهو ينكر الواقع ثم يتعايش معه، وينكر الوافد ويمقت الغرب وفي ذات الوقت يستهلك منتجاته.

وتوصل إلى أن روح الحضارة الإسلامية هو الإيمان، وتوقف هنا ولم يزد حرفا، وهناك محاولات أخرى لم تخرج عما سبق.

الخلاصة، المحاولات السابقة لا شك أنها قدمت معالجات، ويصدق عليها المثل القائل: "حوَّمَتْ ولكنها لم تُصِبْ الهدف".

كانت فكرة ابن خلدون وابن عاشور، رحمهما الله، قد لامست مكمن المرض الحقيقي إلى حد كبير، لكنها أغفلت الأسباب وأعراض المرض والعوامل المساعدة.

إذن، ظلت فكرة الرجلين بمثابة جذوة مطمورة وسط ركام في ليل كثيف سدوله. وعليه، نحن في أمس الحاجة إلى الكشف عن أس الداء بدءاً من تشخيصه وتوضيح الأسباب والأعراض وصولا إلى بلورة أبعاد وآثار الداء بصورة واضحة، وهو ما تحدثنا عنه في الحلقة الثانية، ومن ثم تقديم المعالجات.

الخلاصة، أساس المرض هو انفصال القيم عن العقيدة، الانفصال بين العقيدة وقيم التدين الجماعي الحضاري هو الذي عطل فاعلية العقيدة عن العطاء الحضاري، علما بأن الانفصال بدأ من وقت مبكر على المستوى الذهني النخبوي ثم تبلور إلى مذهب سياسي جهوي وجاء عصر التدوين وكان التمذهب قد تبلور في الأذهان فتم التدوين ليصبح نظرية.

العلاج:

وإذا أردنا العلاج فإنه لا بد أن تتجه خطوتنا الأولى، وجوبا، نحو تصحيح الموروث الفكري. ولأن الموقف متشعب جدا سنحاول بلورة الخطوة الأولى في صيغة سؤال عام وهو: ماذا نريد من عقيدة التوحيد؟

هذا السؤال العام ستتفرع عنه أسئلة عدة لا تقل عنه أهمية، الأمر الذي يعني أن الإجابة عن السؤال العام ستأتي متأخرةً لاعتبارين: الأول إجرائي، والثاني تكويني.

وأعني بالتكويني أنه من خلال السير في الإجابة على الأسئلة المتفرعة عن السؤال العام، سيتم الوصول إلى الإجابة على السؤال العام إما من الكاتب وإما استنتاجا من القارئ أو كليهما.

وأول هذه الأسئلة الإجرائية سؤال: من أين نبدأ؟ الجواب: نبدأ من إعادة التأصيل. وجوب إعادة التأصيل لكي تكون المعالجة صحيحة، فلا بد من إعادة التأصيل عقديا للقيم الحضارية.

والمقصود بالتأصيل هو ربط قيم التدين الحضاري الجماعي بعقيدة التوحيد ولوازمها الإنسانية وأبعادها الحضارية الجماعية، وفقا للشروط التالية:

1ــ ضرورة دراسة الأسباب التي أدت إلى توقف العقيدة عن العطاء الحضاري الإسلامي، وقد تحدثنا عن الأسباب في الحلقة الثانية بإيجاز، غير أن الأمر بحاجة للمزيد، تركناه خشية الإطالة.

2ــ التفريق بين الأسباب ذات التأثير المباشر والأسباب المساعدة. ومن خلال معرفة الأسباب الأساسية والمساعدة سنصل إلى الخطوة التالية وهي:

3ــ العناية القصوى والدقيقة بالتأصيل النظري العقدي لقيم التدين الحضاري الجماعي، ذلك أن العناية بالتأصيل على هذا النحو ستقودنا ضرورة إلى الخطوة الجوهرية التالية وهي:

4ــ القيام بتتبع قيم التدين الحضاري الجماعي وصياغتها بلغة أقرب إلى لغة مقاصد القرآن ومقاصد الشريعة أو مقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم، أو من خلال النظر في مآلات الأفعال المتمثلة في الثمار والنتائج.

حقل التسكين:

هذه البلورة القائمة على منهج الفقه المقاصدي سنصل من خلالها إلى درجة الحكم الشرعي لكل قيم التدين الجماعي الحضاري أولا، ثم العمل على تسكين القيم الحضارية في مكانها الحقيقي دون هضم أو انتقاص.

هذا الحقل التسكيني الشرعي للقيم سنصل من خلاله إلى خطوة ذات أبعاد تعبدية تأصيلية مقاصدية وهي:

5ــ درجة الحكم الشرعي: والمقصود بتحديد درجة الحكم الشرعي هو: هل الحفاظ على القيم الحضارية الإنسانية واجب أم مندوب؟ أم هو شرط لسلامة وتوجه التدين؟

بصيغة أخرى، سيتم إطلاق الحكم الشرعي على كل قيم التدين الحضاري الجماعي من خلال قربها من عقيدة التوحيد ولوازمها المنطقية وأبعادها وثمارها ونتائجها إنسانيا وحضاريا.

ولن نستطيع تحديد درجة الحكم الشرعي لكل القيم إلا من خلال مقاصد القرآن في سنن الاجتماع البشري ومقاصد الشريعة ومقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثمرة هذا التسكين:

ومن خلال هذا التأصيل سنكون قد وضعنا الضمانات الحصينة للقيم وحمايتها من أي مساس أو إهمال أو تجاوز بحجة أن هذا مندوب أو فرض كفائي. فمثلا، الشورى لم يعد يقال عنها معلِمة كوننا قد أعدنا تسكينها المقاصدي انطلاقا من مقاصد التشريع الرباني المقدس وهذا هو مكانها الرباني الحصين "الشعب مصدر السلطات".

كما أن هذا التأصيل سيكون قد وصل بنا إلى ربط القيم الحضارية بينبوع الفاعلية الذي لا ينضب.

أقوى مما سبق، أن هذا التسكين سيضفي الصبغة العقدية، أي البعد القداسي للقيم الحضارية لتحتل مكانة شعب الإيمان ذات البعد الديني الجماعي كون هذه القيم هي الأصل، وليست مندوبا أو عملا كفائيا.

هذا التأصيل سيتم من خلاله الانتقال بالقيم من التأصيل المقاصدي العميق إلى الجانب التنفيذي المبسط تحت "شعب الإيمان"، ستصبح شعب الإيمان هي قيم التدين الجماعي وهي في ذات الوقت متضمنة قيم التدين الفردي.

مثال سريع:

6ــ هنا ستكون إماطة الأذى عن الطريق أفضل من صلاة أو صيام النافلة لأن إماطة الأذى عبادة متعدية والعبادة المتعدية أفضل أجرا عند الله، والقرآن والسنة زاخران بالأدلة حول هذا.

كما أن خطاب القرآن جاء للمجموع: {يا أيها الناس...}، {يا أيها الذين آمنوا...}.

7ــ ترسيخ مفاهيم قيم التدين الجماعي الحضاري عمليا وصولا إلى تحويلها ثقافة مجتمعية.

السياسية التعليمية:

لن يكون للتنظير الآنف أي قيمة ما لم يصاحبه سياسة إجرائية تربوية عملية مستمرة ترسخ مفهوما تطبيقيا هو "السير عكس الماضي" ابتداء من:

أ- الشورى في مواجهة دعوى الحق الإلهي، وذلك من خلال إعادة التأصيل للشورى وتسكينها في مكانها السنني العتيد الذي اختاره الله بين مقاصد الشريعة المتصلة بسنن الله في الكون والنفس والاجتماع، ذلك أن دعوى الحق الإلهي في الحكم كانت هي أولى خطوات الانحراف عن العقيدة.

ب- حرية الإرادة والاختيار في مواجهة عقيدة الجبر والسلبية. أعني إعادة التأصيل لحرية الإرادة والاختيار في ضوء مقاصد القرآن ورسم المعالم الواضحة في كتاب الله وصحيح السنة ودفن التبرير للانحراف والظلم وتغول الحكام.

ج- تصحيح مفهوم الركن السادس من أركان الإيمان وهو الإيمان بالقدر، هذا الركن أصبح متكأً للمفسدين في الأرض فأهلكوا الحرث والنسل ثم التهرب بواسطة علماء البلاط.

يجب إعادة تصحيح التعامل مع هذا الركن انطلاقا من منهج الأصوليين، ولنبدأ بالنظر في القرآن العظيم وكيف استمعل مفهوم القدر؟ ولا شك أن استعمال القرآن لمفوم القدر مخالف للموروث. فمفهوم القدر في القرآن هو سنن الله التي بثها في الكون والنفس والاجتماع، وسيتجلى هذا الأمر أكثر بعون الله في الحلقات القادمة.

باختصار، عقيدة الجبر كانت هي الضربة القاصمة لفاعلية قيم التدين الحضاري حيث أدت إلى إرباك العقل المسلم في تفكيره، فترك النظر في سنن الاجتماع إنسانا وحضارة.

8ــ العقل في مواجهة السلبية: والمقصود هنا إعادة الاعتبار للعقل في فهم النص، وذلك من خلال النظر العقلي التقصيدي للأحكام، أي النظر في المآلات، ذلك أن لكل حكم فقهي مقصدا شرعيا.

ــ التربية على إعمال النظر العقلي الفكري والفلسفي في قضايا الدنيا سياسيا واجتماعيا وإنسانيا، وهذا بدوره سينكعس على فاعلية العطاء العقدي في تغذية القيم الحضارية.

9ــ الأخذ بالسنن الكونية: إهمال السنن الكونية في النفس والاجتماع يعتبر من أبرز قواصم العطاء الحضاري، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن إهمال السنن ناجم عن رفض العقل ورفض العقل يعني قاصمة مركَّبة، وهذا انعكس سلبا على قضايا الحياة كلها.

بهذا القدر نكتفي على أمل اللقاء في الحلقة القادمة والتي سنستعرض فيها عددا من القيم الحضارية الجماعية.

كلمات دالّة

#الاسلام #التدين